طلال أبو ظريفة: لسنا هوية تبحث عن مكان، بل مناضلون من أجل حرية الوطن
خيارات المشاركة
المقالات
فهد سليمان | الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
عندما ترغب في الكتابة، عن رفيق لك، عايشته لفترة زمنية طويلة في الإطارات الحزبية، وتعرفت عليه كإنسان، من لحم ودم، يفرح ويحزن، كباقي البشر، تصاب بالإرباك، وأنت تبحث عن الكلمات التي تعتقد أنها تفي صاحبك حقه، دون أن تتجاهل الآخرين.
تتراكم أمامك، المشاهد والصور، تستدعيها في محاولة لرسم الصورة الأخيرة لشهيد رحل في غير موعده، وأنت تتخيله وقد استهدفته قذيفة من طائرة، ما اعتادت إلا أن تستهدف الأحياء والمنازل المدنية، فتحول المكان إلى ركام، والأجساد إلى أشلاء متناثرة في أرجاء المكان، تسبح في دماء هُدِرَت بوحشية، لا لسبب سوى لأن صاحبها فلسطيني، رفض إلا أن يكون فلسطينياً، وألا يغيب عن أرض فلسطين، فوقها ولد، وعلى ترابها مشى، ومن مياهها ارتوى، غادرها لفترات قصيرة، تلبية لنداء العِلم والمعرفة، ثم عاد إليها بشوقه العارم، تفتح له ذراعيها، مناضلاً، مسخراً جهده وعقله وكل مشاعره في خدمة أقربائه وجيرانه، وأبناء حارته، مدركاً بإحساسه العميق أن لا قيمة للفلسطيني إلا إذا قدم لفلسطين وبذل حياته في سبيلها.
ولد الشهيد طلال أبو ظريفة، كأي مولود فلسطيني في قطاع غزة، يحمل في يده بطاقة تُعرّف بالهوية وتُجهل الجنسية، ومثل الكثيرين، نشأ طلال ونما، وانخرط في اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني – «أشد»، ما أسهم في تكوين شخصيته الوطنية وبلورتها، فنظر إلى فلسطين نظرة جديدة، ليس باعتبارها مجرد نكبة رافقها تهجير وتبديد، ومؤامرة لطمس الهوية، بل هي وطن، وشعب، وقضية، وهياكل وطنية، جمعت تحت راية فلسطين الملايين، وابتدأ في تلقي الفكر الجديد، الذي أبدع اليسار الفلسطيني الجديد في بلورته مشروعاً نضالياً، أفاض على الجميع، وصار هو المشروع الوطني بعناصره، وهو العنوان بتفاصيله.
النقلة الأولى في حياته، كانت عندما سافر إلى الجزائر، بمنحة جامعية أمّنها إتحاد الشباب – «أشد»، وللمرة الأولى في حياته، خرج من خلف أسوار قطاع غزة، إلى العالم الفسيح: القاهرة، ثم الجزائر، حيث عاش أوضاعاً مختلفة، فقد تَعرَّف أكثر على فلسطين، حين التقى أقرانه الجامعيين، أبناء جِلدته، القادمين من أقطار اللجوء الأخرى: سوريا، العراق، الأردن، كما تعرف إلى أبناء الضفة الغربية، الشريك في معاناة الاحتلال.
كما تعرف إلى الشعب المضيف، وهو شعب بنى وطنه، بالتضحيات الغالية، عبر ثورة أفضت إلى تحرره من الاستعمار الفرنسي، أدرك أن الحرية حق مقدس للشعوب، وأن الحرية لا تُقدر بثمن، حتى ولو سُفِكَت في سبيلها دماء غزيرة، دماء الشهداء والجرحى، وأنَّ على الشعب المتطلع إلى الحرية أن يقدم ما عليه من واجبات وتضحيات، وأنه دون ذلك، فإن الحديث عن الحرية، مجرد لغو لا معنى له، بل هو أحياناً ذريعة واهية للتهرب من الواجبات الكبرى.
ضمن هذه الأجواء، إنخرط مع رفاقه في العمل الوطني والنقابي في إطار «أشد» وإتحاد طلاب فلسطين في الجزائر، واحتل مكانة متقدمة في النهوض بواجباته طالباً جامعياً، إلى جانب رفاقه، من أجل فلسطين.
النقلة الثانية في حياته، كانت عندما أنهى في الجزائر دراسته الجامعية، وبات عليه أن يعود مرة أخرى إلى قطاع غزة، يحمل معه علماً ومعرفة، ليكرس حياته، منذ تلك اللحظة، للتفرغ للعمل الوطني، واحداً من الكوادر المتقدمة للجبهة الديمقراطية في القطاع، يجند خبراته في خدمة شعبه وفي خدمة منظمات حزبه في القطاع، حيث تألق دوره كمنظم من طراز رفيع قادر على إجتراح أشكال التنظيم واعتماد أشكال النضال المناسبة لاحتياجات تقدم دور حزبه في العملية الوطنية. وفي الوقت نفسه بدأت مكانته تتقدم، ودوره الوطني يتعزز عبر انتسابه إلى الاتحادات الشعبية التي توفرت لديه شروط الإنتساب إليها، ثم بدأ يتدرج في نهوضه مضطلعاً بدوره الوطني، فاحتل المواقع التالية:
• ممثلاً للجبهة الديمقراطية في الهيئة الوطنية لكسر الحصار وحق العودة.
• عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني.
• ممثلاً للجبهة الديمقراطية في اللجنة العليا للتنسيق في القطاع.
تراه في مقدمة الصفوف في التظاهرات والإعتصامات الشعبية في طول القطاع وعرضه.
تراه على خطوط التماس في أيام الجمعات في مسيرات كسر الحصار وحق العودة.
تراه متحدثاً مفوهاً إلى رجال الإعلام حتى بات أحد المراجع الدائمة لمندوبي الفضائيات والصحف ومراكز الإعلام في القطاع.
هذه النشاطية المتميزة في العمل الجماهيري والوطني، لم تُثنه على الصعيد التنظيمي الداخلي عن تركيز جهده على عملية البناء الحزبي، بتعقيداتها وصعوباتها التي يدركها كل من دخل هذا العالم، مراكماً الخبرات والمهارات الناجمة عن الممارسة الهادفة، فأبدع بحِرَفيته ومثابرته وتحليه بمواصفات من تعاطى «الهندسة التنظيمية» على خلفية الإلمام بـ«هندسة علم الأحياء» التي اكتسبها من دراسته الجامعية.
النقلة الثالثة كانت مع انفجار «طوفان الأقصى»، وبات عليه في هذه المحطة، أن يحسم خياره، كأي قائد وطني، بين تلبية إستحقاقات موقعه القيادي، في صفوف رفاقه وأبناء شعبه، وبين تلبية واجباته العائلية.
مهماته السياسية والتنظيمية كانت دائرتها الواسعة شمال القطاع، أي مدينة غزة وجوارها، ومنزله حيث تقيم عائلته في عبسان الكبيرة في جنوب القطاع.
وكما هو منتظر من أي قائد، إنحاز لواجبه الوطني، وبقي في الشمال، تصاعدت عمليات القصف التدميري، والاجتياحات، لكنه بقي ثابتاً، صامداً ولم يغادر، وبقي يتنقل من مكان إلى آخر، في شمال القطاع في قيادة منظمات الجبهة الديمقراطية، بالتوجيه لجناحها العسكري «قوات الشهيد عمر القاسم»، والدور الميداني في مراكز الإيواء والمستشفيات، جنباً إلى جنب مع لجان العمل الطوعي، من الجبهة الديمقراطية ومن الفصائل الأخرى، في تعزيز صمود الناس، في حرب، أدرك أنها ستكون طويلة.
وختاماً أتت النقلة الرابعة، حيث طالت الحرب، وبقي شمال القطاع ساحتها الرئيسية، بالكاد تصله أنباء عائلته، ودع عدداً من أقربائه، قضوا بنيران الطائرات الحربية الإسرائيلية.
وفي ليل 16/5/2024، وبينما كان يأوي، في ساعات الليل الأخيرة، إلى مهجعه، الذي لم يكن يعتقد أنه كان آمناً بالقدر الكافي، سقطت من الأعلى، صاعقة أميركية الصنع، ألقت بها طائرة أميركية الصنع أيضاً يقودها طيار إسرائيلي، أحالت المنزل إلى دمار شامل، وحولته مع رفيقه القائد العسكري الميداني محمود حمامي، إلى أشلاء، بذل رفاقهما جهداً مضنياً في تجميعها في أكياس رحيل الشهداء.
وفي جنازة مهيبة، شديدة التواضع، عميقة في رمزيتها، ووري ورفيقه محمود الثرى، محاطاً بألم الفراق الأخير، ليصبح طلال أبو ظريفة عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ذكرى لا تُنسى، إلى جانب الآلاف من أبناء منظمات الجبهة الذين سبقوه، والذين سيلحقون به، إلى الشهادة، على طريق القدس.
طلال أبو ظريفة، أيها الرفيق، لقد كنت قائداً بالفطرة، صقلتك التجربة في الميدان، وكان شعارك دائماً: «لسنا هوية تبحث عن مكان، بل مناضلون من أجل حرية الوطن»