النموذج السوفييتي لعملية الانتقال الى الاشتراكية
خيارات المشاركة
الدراسات
المادة التي بين ايدينا (النموذج السوفييتي لعملية الانتقال إلى الاشتراكية) هي صيغة موجزة لكتاب صدرت الطبعة الاولى منه في آب 1993 في اطار معالجة الانهيار الكبير الذي حدث للاتحاد السوفياتي بدءا من عام 1989 واعيد تنقيحه بصيغة جديدة في طبعة ثانية في حزيران 2020 . وهو من تأليف اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والناشر المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، وتوزيع الدار الوطنية الجديدة في دمشق ودار التقدم العربي في بيروت. وقد قام مكتب التثقيف المركزي في الجبهة باعادة اختصار هذا الكتاب..
كما ان الكتاب جزء من الوثائق الرئيسة التي صدرت عن المؤتمر الوطني الثالث للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عام 1994. ويتناول في أقسامه الثلاثة تجربة الاتحاد السوفييتي في سياق عملية الانتقال إلى الاشتراكية على امتداد ما يزيد عن سبعة عقود 1917-1991.
يغطي القسم الأول من الكتاب المرحلة الممتدة من ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917 إلى أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 وصولاً إلى العام 1950، عام انتهاء العمل بالخطة الخمسية الرابعة «1945-1950» لإعادة بناء ما دمرته الحرب في الاتحاد السوفييتي، في ذروة الحرب الباردة عشية اندلاع الحرب الكورية 1950-1953.
وفي ظل الحرب الباردة والتوازن الدولي، ونهوض حركات التحرر الوطني والحروب بالوكالة، يغطي القسم الثاني من الكتاب المرحلة الممتدة بين عامي 1950-1991. في فترة التطور المتسارع للشروط المادية والحضارية للانتقال إلى الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي بمنحاها الصاعد، ثم جمودها فانحدارها، ودخولها في أزمة وصولاً إلى الانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي إلى 15 جمهورية.
أما القسم الثالث من الكتاب، فيقوم على فصلين وملحقين توضيحيين للقسمين الأول والثاني، ويحتوي الفصل الأول على 19 موضوعة نقدية للتجربة السوفييتية بمسارها الخاص للانتقال إلى الاشتراكية. بينما يحتوي الفصل الثاني على 10 دروس مستخلصة من التجربة السوفييتية، ويسري مفعولها على عموم المجتمعات الانتقالية، وفي الوقت نفسه، فهي ذات فائدة لهموم الحركة اليسارية والعمالية، الحركة المناهضة للرأسمالية المعاصرة في مرحلتها الإمبريالية المتطورة، مرحلة العولمة.
القسم الأول:
الفصل الأول: ثورة اكتوبر والتناقضات في مسارها
1- ثورة اكتوبر: مضمونها الطبقي، شروطها التاريخية، واجراءاتها المباشرة.
ورثت ثورة اكتوبر عن روسيا القيصرية ارثا من التخلف، فالتطور الرأسمالي الذي بدأ يتسارع في الثلث الأخير من القرن 19، كان يحمل بقايا نظام القنانة الاقطاعية، ويجري بمبادرة من رأس المال الأجنبي (الألماني، البريطاني، الفرنسي) المهيمن على قطاعات (البنوك، الكهرباء، النفط ....الخ).
في مؤلف لينين (الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) في الصفحة 231 يوضح بأن ثلاثة أرباع رأس المال العامل للمصارف الروسية تملكه فروع لبنوك أجنبية، وفي الصفحة 232 يوضح بأن المصارف الرئيسية في بتروغراد تقع تحت سيطرة رأسمال الفرنسي بنسبة 55% والألماني 35% والبريطاني 10% وأن هذه المصارف مملوكة عمليا لرأس المال الأجنبي.
2- عند منعطف القرن العشرين كانت نسبة السكان الذين يعملون في الزراعة تفوق 77% والذين يعملون في التجارة والصناعة 17.5% والباقي منهم في القطاعات الغير منتمية (النبلاء – رجال الدين – الجيش ....الخ) حيث قدرت نسبة البروليتاريين الذين يعملون بأجر (حوالي 18% من مجموع السكان)، أشباه البروليتاريا (الفلاحين المعدمين – الحرفيي الفقراء نسبة 33%)، الفلاحون الصغار والمتوسطون 39%.
وفي عام 1903، كان عدد العمال في المشاريع الرأسمالية يوازي 2.9 مليون عامل، أما الصناعة حوالي 1.6 مليون عامل. وفي عام 1908، ارتفعت أعداد المنشآت العاملة في مجال الصناعة وكانت تستخدم 2.25 مليون عامل من الجنسين، ان درجة تخلف التطور الرأسمالي في روسيا يمكن تبنيها من مقارنة عدد من المعطيات الاقتصادية بين الامبراطورية الروسية وبين القارة الأميركية، من حيث مساحة خطوط السكك الحديدية، طاقة الأسطول التجاري، حجم التجارة الخارجية وانتاج الفحم والحديد.
وبين عامي 1890 و 1913، ازداد الطول الاجمالي لخطوط السكك الحديدية في الولايات المتحدة لوحدها بنسبة 145%، ونسبة الزيادة للامبراطورية الروسية 46% فقط.
ما هي الخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه اللوحة؟
ان روسيا الامبرطورية، عشية الحرب العالمية الأولى، كانت بلدا رأسماليا شديد التخلف. الثورة البرجوازية – الديمقراطية بدأت انطلاقتها في روسيا عام 1905 متأخرة بحوالي قرن الى قرنين، سرعان ما دخلت مأزقا تاريخيا بسبب جبن البرجوازية الليبرالية من جهة، وعجز الفلاحين عن شق طريق التحول الديمقراطي بدون قيادة البروليتاريا من جهة أخرى.
دخلت روسيا وهي عالقة في خضم هذا المأزق الحرب العالمية الأولى التي اندلعت تعبيرا عن احتدام وتفجر التناقضات بين القوى الامبريالية العظمى في صراعها من أجل اعادة اقتسام العالم.
أدت ورطة الدخول في هذه الحرب الى تعميق شقاء وبؤس العمال. وجرى تجنيد 15 مليون فلاح قسرا في الجيش، كانوا هم طليعة وأداة الانتفاضة الفلاحية التي انتظرها وتوقعها لينين.
المشكلات المستعصية للتحول الديمقراطي لم تجد لها حلا على ايدي الحكومات البورجوازية التي تعاقبت على السلطة. وبقيت معادية للثورة ورافضة الاستجابة لمطالب الديمقراطية الملحة. لكن في ظل هذه الحكومات العاجزة، تنامت بسرعة سلطة العمال والفلاحين والجنود المنظمين في السوفييتات. والضاغطين بقوة من أجل انهاء الحرب، وطالبت بوضع الحكومة البرجوازية المؤقتة جانبا، وتولي السلطة من قبل سوفييتات العمال والفلاحين والجنود.
انعقد المؤتمر الثاني للسوفييتات الذي شكل البلاشفة أغلبية فيه وأعلن انتقال السلطة الى سوفييتات العمال والفلاحين والجنود واقامة الحكومة السوفييتية. وأقر المؤتمر مرسومي السلام والأرض. وبعد عدة أيام أقرت اللجنة التنفيذية المركزية المنتخبة عدة مراسيم بفرض الرقابة العمالية في المصانع وتأميم المصارف والسكك الحديدية. واعترفت باستقلال فلندا واوكرانيا، وتبنت عام 1918 (الاعلان حول حقوق الشعب العامل) الذي أعلن روسيا جمهورية فيدرالية، السلطة فيها لسوفييتات العمال والفلاحين والجنود.
ان كان هذا التحول قد أعلن انتصارا لـ (دكتاتورية البروليتاريا) فان المضمون الطبقي الحقيقي للسلطة التي انبثقت عن الثورة، والقاعدة الاجتماعية كانت تتشكل من تحالف شعبي واسع عماده العمال والفلاحون. والمهمات التي وضعت أمام الثورة ليست اشتراكية مباشرة ولا انتقالية، بل سياسية واجتماعية من طبيعة ديمقراطية.
اما على الصعيد الاجتماعي، فان تأميم الأرض والمصارف والتجارة الخارجية، لم يكن اجراء اشتراكيا، بل كان تدبيرا ديمقراطيا – بورجوازيا، من شأنه أن يشجع نمو وتطور علاقات الانتاج الرأسمالية وليس العكس.
2- ثورة أكتوبر: التناقضات في مسارها.
ان غياب قدرة الفلاحين بحكم عدم تجانسهم الاجتماعي على بلورة قيادة طبقية منسجمة، فان قيادة الطبقة العاملة هي ضمان استمرار السلطة السوفييتية. وبما أن الطبقة العاملة هي أقلية في المجتمع، فان استمرار الديمقراطية السوفييتية كان يتوقف على صون التحالف بينها وبين الفلاحين. فالتناقض الجوهري الأول في مسار العملية الثورية هو أن الطبقة العاملة لا تملك الاستمرار في موقع القيادة لسلطة الدولة ما لم تباشر عملية الانتقال الى الاشتراكية. وفي ظروف مجتمع رأسمالي متخلف، وتراكم رأس المال لم يبلغ الدرجة التي تمكن البروليتاريا من حل المسألة الفلاحية، كما أن تعجيل عملية التراكم يتطلب اقتطاع نسبة هامة من فائض العمل الاجتماعي، في ظل هذه الظروف لا مفر من نمو التناقض الذي يحتدم بقدر ما تتسارع عملية الانتقال الى الاشتراكية.
1- أول تجليات هذا التناقض، كان الصدام بين السلطة السوفييتية وبين الجمعية التأسيسية، الصدام بين البروليتاريا التي انتقلت بين السلطة على رأس ثورة ديمقراطية وبين رمز الديمقراطية ومطلبها السياسي الرئيسي (الجمعية التأسيسية).
ويكمن جوهر هذا التناقض في حقيقته من شقين أولهما: أن تأميم الأرض وتوزيعها على الفلاحين في ظل تخلف مستوى انتاجية الزراعة، يقود الى الارتداد الى الاقتصاد الطبيعي. وثانيهما: ان هذا الاجراء يؤدي الى نشر العلاقات الرأسمالية وتشجيع نموها في الريف ويقوض الأساس المادي – الاجتماعي لدور البروليتاريا.
2- التناقض الجوهري الثاني: ينبع من كون الطبقة العاملة التي انتقلت الى موقع الطبقة الحاكمة بفعل وقوفها على رأس الانتفاضة الفلاحية، وجدت نفسها من موقع السلطة – مضطرة للنهوض في تطوير وتنمية قوى الانتاج التي تخلفت الرأسمالية المحلية عن النهوض بها.
هناك مسافة بين اقرار تدابير سياسية واجتماعية تفتح الطريق لنمو القوى المنتجة وانجاز التراكم الضروري، وبين التحقق الفعلي لهذا النمو والانجاز الواقعي للتراكم، وهنا ينمو تناقض قوامه ان الطبقة العاملة لا يمكنها ان تحقق نمو قوى الانتاج (الى المستوى الذي أنجزته الرأسمالية المتقدمة) من خلال اللجوء الى الوسائل الرأسمالية نفسها. أي لا يمكنها انجاز التراكم من خلال تشجيع نمو علاقات الرأسمالية، وتغلغلها في المجتمع دون حدود.
ان غياب تطور ثوري حاسم في الغرب الرأسمالي، تنشأ الحاجة الى مرحلة انتقالية تاريخية طويلة يختلط فيها ويتداخل أداء المهمتين، الدورين التاريخيين: انجاز التراكم الضروري، والتحويل الاشتراكي للمجتمع ولعلاقات الانتاج وهما مهمتان ليستا بالضرورة، ولا دوما متوافقتين، بل هما أحيانا متناقضتان في الواقع العملي.
هذا التناقض ينبع من أن عملية انجاز التراكم تتطلب اقتطاع نسبة عالية من فائض العمل الاجتماعي، وتخصيصها لأغراض تطوير البنية الاساسية لقوى الانتاج، وهذا يعني الاستيلاء على فائض العمل الاجتماعي للفلاحين المتولد عن العمل المأجور، فائض عمل الطبقة العاملة.
3- التناقض الجوهري الثالث: ينبع من التضاد بين الثورة وبين محيطها، التضاد والصراع مع القوى الرجعية المضادة للثورة داخل المجتمع الروسي، وكذلك مع الامبريالية العالمية. ولم تكن هذه التناقضات نتيجة للخيار الثوري الذي تبناه البلاشفة، لقد كان هذا الخيار بالعكس نتيجة لهذه التناقضات، والسبيل التاريخي الوحيد الممكن لتجاوزها والتغلب عليها.
ان الضرورات الموضوعية التي تفرضها هذه التناقضات الثلاث تمثلت في ان عملية الانتقال الى الاشتراكية اتخذت طابع مرحلة تاريخية طويلة ومعقدة ذات مسار ملء بالتعرجات، وفي اطار هذه المرحلة يمكننا ان نميز بين طورين رئيسين:
الطور الاول: الذي برزت فيه ضرورة انجاز التراكم اللازم لبلوغ مستوى التطور في قوى الانتاج الذي حققته الرأسمالية المتطورة.
الطور الثاني: برزت فيه ضرورة استكمال سيطرة المجتمع بصورة جماعية على وسائل الانتاج، وعلى تخصيص وتوزيع الفائض، اي ضرورة استكمال ولادة المجتمع الاشتراكي، وهو الطور الذي كانت التجربة تقف أمام استحقاقاته وتراوح مكانها عاجزة عن الاستجابة لهذه الاستحقاقات، ما أدى الى تفاقم أزمتها وقادها الى الانهيار.
الفصل الثاني: الحرب الأهلية و (شيوعية الحرب).
1- تآكل الديمقراطية السوفييتية.
واجهت ثورة اكتوبر غزو الماني واسع النطاق، لكن المفاوضات التي بداتها مع المحور الالماني – النمساوي انتهى بمأزق في مطلع عام 1918، بتقدم القوات الالمانية نحو العاصمة بتروغراد، اضطر على اثرها الحزب البلشفي مع حلفائه الى ابرام صلح بريست – ليتوفسك الالحاقي بشروط مجحفة وتنازلات في الاراضي وغرامات حرب.
ازدادت الامور تعقيدا ودفع ذلك الى تحالف كبار عسكريي الجيش القديم وفلول البورجوازية وكبار الملاك مستندة بقوة الى دعم الفلاحين الاغنياء (الكولاك) مسندة من القوى الامبريالية المتحاربة على شن حرب على الجمهورية السوفييتية الفتية والتسابق على اقتسام اراضيها.
في نيسان 1918 احتل اليابانيون فلاديفوستوك وغزو شرق سيبيريا، وانزل الانجليز قواتهم في مورمانسك،وفي ايار خرق الالمان معاهدة بريست واستولت على شبه جزيرة القرم. حينها نظم يسار الاشتراكيين الثوريين الذين خرجوا من الحكومة على اثر ابرام معاهدة بريست عصيانا ما لبث ان فشل، واعلنت الحكومة السوفييتية حالة الطوارئ في البلاد والتعبئة العامة.
الثورة العمالية التي اندلعت في النمسا في تشرين الاول 1918 ثم في المانيا تشرين الثاني 1918 ونهوض حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، كل ذلك اعطى ثورة اكتوبر الروسية فرصة للتنفس، ولكن لم تجلب لها السلام.
اثر اندلاع الثورتين الالمانية والنمساوية اعلنت روسيا السوفييتية الغاء معاهدة بريست – ليتوفسك الالحاقية، ولكن نهاية الحرب العالمية الاولى ادت الى مبادرة بريطانيا والولايات المتحدة واليابان لبناء تحالف ضم 14 دولة بهدف تطويق روسيا السوفييتية ومواصلة حرب التدخل ضدها. خاضت خلالها ثورة اكتوبر نضالا طال 3 سنوات قدمت خلالها الطبقة العاملة الروسية وحلفاؤها من فقراء الفلاحين تضحيات جسام، حتى تكلل هذا النضال بالظفر في ربيع 1921.
في سياق هذا الصراع الدامي، كيف تصدت الثورة لمهمتها المزدوجة: مهمة انجاز التراكم من جهة، والتحويل الاشتراكي للمجتمع من جهة ثانية؟
في الفترة التي اعقبت صلح بريست – ليتوفسك، بدأ لينين يبلور ملامح نظريته حول الانتقال الى الاشتراكية في مجتمع رأسمالي متخلف. في المجتمع الروسي، وقد أطلقت ثورة اكتوبر مسيرة انتقاله الى الاشتراكية في مجتمع ما يزال يضم انماط انتاجية متعايشة ومتصارعة، حددها لينين على النحو التالي:
1- الاقتصاد الفلاحي الطبيعي المغلق (البطريركي، الذي لم يدخل الى دائرة التبادل في السوق) 2- الاقتصاد (الانتاج) البضاعي الفلاحي والحرفي الصغير 3- رأسمالية القطاع الخاص 4- رأسمالية الدولة 5- الاشتراكية.
حدد لينين مهمة الانتقال الى الاشتراكية، ولم يكن غافلا عن التناقض الذين تنطوي عليه هذه العملية بين المضمون الطبقي المتقدم للسلطة السياسية وبين تدني مستوى التطور المادي والحضاري لقوى الانتاج. ولكن اذا كان لينين لم يتعمق في بحث هذه التعقيدات التي ينطوي عليها هذا التناقض، الا انه اشار اليه وكان يتصور حله عبر عملية من شقين: اولهما التطور التكنولوجي وثانيهما تعزيز ديكتاتورية البروليتاريا اي الحفاظ بقوة على الدور القيادي للطبقة العاملة عبر صون تحالفها مع الفلاحين.
2- اجراءات «شيوعية الحرب» وانعكاساتها.
اتسمت سياسة شيوعية الحرب بتعجيل اجراءات «نزع ملكية الغاصبين» وبالمصادرة القسرية لفائض الحبوب من الفلاحين لقاء أسعار ثابتة تدفع بالروبل الورقي وفرض احتكار الدولة لتجارة الغذاء. وانعكاسات هذه السياسة تبرز من خلال العناوين الاربعة التالية:
1- تعجيل وتيرة «نزع ملكية غاصبي الملكية».
اقرت في مسودة المؤتمر الثامن للحزب المنعقد في آذار 1919، الذي ينطلق من اعتبار مهمة نزع ملكية غاصبي الملكية، قد تم انجازها بنجاح في روسيا، اي ان وسائل الانتاج تصبح ملكية عامة للدولة العمالية. في تقريره حول «الضريبة العينية» في نيسان 1921، يعود لينين دون الاشارة للبرنامج، الى مراجعة هذا الحكم المتسرع، ويعيد احياء نظريته حول الانماط الخمسة للاقتصاد في مرحلة الانتقال، مؤكدا انها تعكس بصورة ادق واقع المجتمع الروسي في نهاية فترة شيوعية الحرب.
2- مشكلة «الانضباط في العمل».
يولي لينين اهتماما كبيرا لمعضلة الانضباط في العمل، ويدافع بشراسة عن نظام الاجر بالقطعة ويدعو الى تبني ما هو علمي وتقدمي في الاساليب التايلرية لتنظيم العمل، ويركز على مبدأ الطاعة والانضباط الحديدي خلال العمل والانصباع لقرارات الرجل الواحد التي يتخذها المدير السوفيتي، الديكتاتور المنتخب من قبل العمال.
3- التحولات في بنية الطبقة الفلاحية وانعكاساتها على القاعدة الاجتماعية للسلطة السوفييتية
ان الفوائد المباشرة التي يجنيها الفلاحون الفقراء من تحويل أراضي كبار الملاك اليهم هي أقل بكثير، لأنهم يفتقرون الى الأدوات واللوازم. لذلك ينظم فقراء الفلاحين أنفسهم لمنع الكولاك من الاستيلاء على الأرض المصادرة من كبار الملاك، وتساعدهم السلطة السوفييتية في ذلك. وبالنتيجة يصبح الفلاح المتوسط العنصر السائد في الريف. نحن نعرف ذلك من الاحصاءات، وكل من يعيش في الريف يعرف ذلك من مشاهداته الخاصة. لقد حوصر وتراجع الطرفان النقيضان: فقراء الفلاحين والكولاك، وأصبحت غالبية السكان الزراعيين أقرب الى وضع الفلاحين المتوسطين. واذا كنا نريد رفع انتاجية الزراعة الفلاحية، فان علينا أن نتعامل بشكل رئيسي مع الفلاح المتوسط.
4- تآكل الديمقراطية السوفييتية
اتخذ المؤتمر الثامن للسوفييتات الذي شارك فيه مجددا ممثلون للاحزاب الاخرى سلسلة من القرارات والاجراءات لدرء شرور البيروقراطية وتعزيز الديمقراطية السوفييتية. ولكن الظواهر التي تمليها ضرورات التطور الاجتماعي لا يمكن استئصالها بالقوانين والاجراءات السياسية او غيرها من الوسائل الادارية. والاساس الاقتصادي – الاجتماعي لنمو البيروقراطية لم يكن ناجما وحسب عن ظروف الدمار الذي سببته الحرب. كما توحي احيانا كتابات لينين لتلك الفترة، بل كان ينبثق من التناقضات الجوهرية التي ينطوي عليها مسار العملية الثورية بمهماتها المزدوجة وبصراعها مع محيطها. وهي تناقضات لم ينته مفعولها بنهاية الحرب الاهلية.
الفصل الثالث: نهاية الحرب والسياسة الاقتصادية الجديدة 1921 – 1927
1- نهاية الحرب الأهلية، والسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب).
مع نهاية الحرب الاهلية كانت روسيا السوفييتية قد غرقت في حالة من الخراب الاقتصادي الشامل، وهذا الانهيار كانت له انعكاسات خطيرة على خريطة التكوين الطبقي للمجتمع. حيث برزت عملية التفتت الاجتماعي والانحلال الطبقي للبروليتاريا المدنية بسبب عوامل ثلاثة: 1- انهيار الصناعة 2- انخراط اعداد واسعة من عناصر البروليتاريا في الجيش الاحمر 3- تسرب العديد من عمال المدن الى الريف حيث استولوا على الارض لضمان مقومات البقاء.
يقيم لينين الاخطاء التي ارتكبت خلال الحرب الاهلية والنضال ضد التدخل الامبريالي بالعبارات التالية: جزئيا بسبب معضلات الحرب التي فرضت نفسها وجزئيا بسبب الوضع المدمر والدقيق الذي وجدت فيه الجمهورية نفسها عند نهاية الحرب الامبريالية. وبالتالي أدت حالة الخراب الاقتصادي الى درجة من الشظف والتدني في مستوى المعيشة الى تصاعد التذمر في صفوف الجماهير العمالية وتصاعد الاصوات المطالبة باعادة النظر في اجراءات شيوعية الحرب.
في هذا السياق اعطى المؤتمر العاشر للحزب آذار – نيسان 1921 باقتراح من لينين اشارة الانطلاق لبلورة الخطة التي عرفت لاحقا باسم «السياسة الاقتصادية الجديدة» (النيب). كانت النيب تراجعا استراتيجيا لصالح الفلاحين ورأس المال المتوسط والصغير عموما، ولاحقا لصالح رأسمالية الدولة التي تجسدت بالمشاركة مع رأس المال الكبير المحلي والأجنبي. وعاد لينين ينفض الغبار عن نظريته حول التعايش والصراع بين الأنماط الاقتصادية الخمسة في المجتمع الروسي المتخلف خلال مرحلة الانتقال.
ان تآكل الديمقراطية السوفييتية كان في المديين المتوسط والبعيد سوف يعني استفحال النمو والتشوه البروقراطي واضعاف الشروط السياسية – الاجتماعية اللازمة لدفع مسيرة الانتقال الى الاشتراكية. ان السياسة الاقتصادية الجديدة، لم تكن حلا لهذه التناقضات الجوهرية التي ينطوي عليها مسار العملية الانتقالية، بل كانت ترتقي بها الى مستوى اعلى فحسب، وسوف تقود بعد فترة وجيزة الى عودتها للاحتدام والتفاقم.
2- نتائج السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب).
ادت سياسة النيب وظيفتها في اعادة انهاض قوى الانتاج والتغلب على الدمار الذي احدثته سنوات الحرب السبعة (1914 – 1921).
ان الاستثمار المكثف في الصناعة لم ينعكس في زيادة العرض من المنتجات الصناعية ادى ذلك الى اتساع الفجوة بين اسعار الناتج الزراعي واسعار السلع الصناعية، بين مردود عمل الفلاحين ومردود الصناعة الذي كان يتوزع معظمه بين العمال والدولة، وعبرت هذه الفجوة عن نفسها في اتساع التباين في الدخل ومستوى المعيشة بين هاتين الطبقتين.
انعكس هذا الوضع مجددا تأزما في العلاقة بين الطبقة العاملة وبين الفلاحين، وتفاقما للتناقض الجوهري الأبرز الذي عانت منه مسيرة الانتقال الى الاشتراكية منذ البداية. وبالتالي عادت التجربة لتقف امام مأزقها التاريخي، مأزق العلاقة بين البروليتاريا والفلاحين، ولكن هذه المرة في سياق تطورات هامة، وان لم تكن قد اصبحت حاسمة بعد، في بنية وتكوين الحزب والدولة شهدتها سنوات النيب الست (1921 – 1927).
3- نمو البيروقراطية، وبدء تمايزها كشريحة اجتماعية.
ان نمو البيروقراطية يجد جذوره وحوافزه في التناقض بين المضمون الطبقي للسلطة، وبين مستوى تطور القوى المنتجة في مجتمع رأسمالي متخلف يخطو خطواته الأولى على طريق الانتقال الى الاشتراكية.
ان التفسير السوفييتي الرسمي لهذه الظاهرة، بقدر ما يعترف بوجودها، يميل نحو اعتبارها سلوكا او عقلية او اسلوبا اوامريا – اداريا في القيادة وفي ممارسة السلطة. وهو يستند في ذلك الى تحليلات لينين حول البيروقراطية في عصره. وتنحو بالمقابل بعض التيارات الماركسية المعارضة، بما فيها الماوية المتأخرة، الى اعتبارها «طبقة جديدة» حاكمة ومستغلة.
البيروقراطية التي كان يشكو منها لينين. بقدر ما كانت جسما اجتماعيا، كانت موروثة عن النظام القديم، كانت تتشكل من موظفيه وخبرائه، الذين اضطرت السلطة السوفيتية الى استئجار خبرتهم لقاء امتيازات مشرعة (رواتب اعلى من المعدل). لذلك كان لينين مصيبا في اعتباره، ان الاساس الاقتصادي للبيروقراطية يكمن في خلل العلاقة بين العمال والفلاحين، في انعدام علاقة التبادل الطبيعية بين الريف والمدينة، فذلك كان فعلا هو الاساس الاقتصادي للبيروقراطية كجسم اجتماعي في عصره.
ان الظروف الجديدة التي قادت اليها سياسة النيب هي التي شكلت الاساس الاقتصادي لنمو البيروقراطية السوفييتية كجسم اجتماعي، وان تكن لم توفر بعد الشروط الكافية لهيمنتها ولاحتكار السلطة. وبالتالي ادت سياسة النيب بفعل انهاضها لقوى الانتاج، الى النمو المتجدد للفائض الاجتماعي وبدء تراكمه النسبي.
وبالتالي هناك سؤال يطرح، هل تشكل البيروقراطية طبقة، أو على الاقل نواة لطبقة جديدة حاكمة ومستغلة؟
هنا علينا ان نلاحظ التالي:
1- ان هذه البيروقراطية تنبثق من بين صفوف الطبقة العاملة (وفقراء الفلاحين). وتشكل البيروقراطية جزءا من الطبقة العاملة، شريحة من شرائحها حتى لو كانت شريحة متميزة.
2- تجد منشأها من التناقضات الاستثنائية التي تنطوي عليها عملية الانتقال الى الاشتراكية، اي البيروقراطية قوة اجتماعية تنشأ في ظرف تاريخي استثنائي، قوة اجتماعية انتقالية وتفقد مبرر وجودها مع بدء اضمحلال التناقضات التي ولدت في سياقها.
3- ترتكز بقوتها وسلطتها الاقتصادية الى قاعدة الملكية العامة لوسائل الانتاج.
4- ان البيروقراطية بعد ان تستنفد دورها التاريخي وتراكم امتيازاتها الى الذروة على شكل ثروات لا تستطيع أن تبني مجتمعا على نموذجها مجتمعا بيروقراطيا يتميز عن كلا المجتمعين الاشتراكي والرأسمالي، بل هي عند هذه النقطة تصل الى مأزقها، وتتفاقم أزمتها وتصل الى مفترق طرق: اما التقدم نحو الاشتراكية، او الارتداد الى الرأسمالية.
لقد جاءت النقلة نحو اعتماد نظام الحزب الواحد بصفته مبدأ مطلقا، وسمة نموذجية من سمات نظام الانتقال الى الاشتراكية، بل وحتى من سمات النظام الاشتراكي نفسه، بفعل تطورات وظروف موضوعية اخرى، مكنت البيروقراطية من السيطرة على الحزب وتحويله الى اداة لتنظيمها كشريحة اجتماعية وأداة لتكريس هيمنتها على الدولة والمجتمع، هذه النقلة الاخيرة هي التي قادت الى تغيير جوهري في المضمون الاجتماعي للحزب وفي القاعدة الاجتماعية لدكتاتوريته.
الفصل الرابع: النموذج السوفييتي بعد لينين 1924 – 1950
1- التجمع القسري للزراعة الفلاحية،
الخطتان الخمسية الأولى (1928 – 1933) والثانية (1933 – 1937).
الخطة الخمسية الاولى التي بدأ العمل بها في اواخر 1928 حققت اهدافها كاملة في مطلع 1933، قبل موعدها بتسعة شهور، وأنجز خلالها بناء وتشغيل 1500 مجمع صناعي جديد في مجالات الصلب والحديد، ومعدات انتاج الطاقة الكهربائية، وبناء الآلات والسيارات والكيماويات والجرارات. وخلال هذه السنوات الاربع ارتفع حجم الانتاج الصناعي حوالي 100%.
اما خلال الخطة الخمسية الثانية التي انجزت ايضا قبل موعدها في مطلع 1937، تضاعف حجم الانتاج الصناعي مرة اخرى 100% خلال اربع سنوات، وتضاعف انتاج الفحم 100%، وازداد انتاج الفولاذ من 6.9 ملايين طن عام 1932 الى 7.7 مليون طن عام 1937، وانجزت من حيث الجوهر خطة كهربة البلاد وتم تمديد الألوف من كيلومترات السكك الحديدية. وفي نهاية الخطة الخمسية الثانية كانت المصانع الجديدة التي تم انشاؤها في العهد السوفييتي تقدم 80% من اجمالي الناتج الصناعي في البلاد. وخلال الفترة من 1929 حتى 1937 كان معدل النمو الاقتصادي للاتحاد السوفييتي يوازي خمسة اضعاف معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة.
أولت الخطتان الخمسينيتان اهتماما فائقا للارتقاء بمستوى التعليم، بمختلف مراحله واختصاصاته وبخاصة الاعداد الهندسي والتقني. ففي عام 1930 تم تطبيق نظام التعليم الابتدائي الالزامي العام واطلقت حملة لمكافحة الامية شملت عشرات الملايين من النساء والرجال. ووظفت اموال طائلة لافتتاح مؤسسات الاعداد المهني والتقني والتعليم العالي الهندسي.
2- التحولات في البنية الاجتماعية للحزب والدولة.
لم يعد الحزب الشيوعي في تكوينه الاجتماعي وحتى في بنيته الايديولوجية ونمط علاقاته الداخلية هو نفسه الذي راهن لينين في ربيع 1921 على تعزيز دوره القيادي للتحكم بعملية الاستقلال النسبي للدولة الضرورية لكسر دوامة المأزق التاريخي الذي حشرت فيه مسيرة الانتقال الى الاشتراكية بفعل تناقضاتها الموضوعية. ففي سياق نهوضه بهذه المهمة تعرضت البنية الاجتماعية والأيديولوجية للحزب وقبله أجهزة الدولة الى تحولات عميقة.
وفي ظل المناخ الدولي المتلبد وقعت النقلة النوعية الكبرى في بنية الحزب ونمط علاقاته الداخلية، وبالتالي في وظيفته ودوره الاجتماعي. حتى منتصف ثلاثينيات القرن 20 كان الحزب ما يزال على صلة وثيقة بالقاعدة العمالية. ورغم تفاقم نمو تأثير القوى البيروقراطية داخله كان ما يزال يعكس بدرجة أو بأخرى التعايش والتوازن الاجتماعي بين مختلف شرائح الطبقة العاملة.
في المقابل كانت البيروقراطية التي عززت موقعها في المجتمع وسيطرت على جهاز الدولة، بحاجة الى حزب من طراز آخر، بحاجة الى حزبها الخاص. اي باتت بحاجة الى الانفراد بالحزب واخضاعه الكامل لسيطرتها كما انفردت بسلطة الدولة.
وبالتالي اصبحت الشروط لاحداث هذه النقلة قد اكتملت، وصارت البيروقراطية قادرة على ممارسة سلطتها لا نيابة عن الطبقة العاملة بل بديلا عنها.
3- نتائج التحولات في البنية الاجتماعية للحزب والدولة.
كان هذا هو المغزى التاريخي للتطهير الستاليني لصفوف الحزب والذي اشتدت حمأته في السنوات الأخيرة من ثلاثينيات القرن 20. وشمل هذا التطهير الاغلبية الساحقة من القيادات والكوادر البلشفية القديمة. وكان هناك تحولا نوعيا في بنية الحزب كرَس تحولا في نمط علاقاته الداخلية.
ضمن هذه الاجواء حرمت حرية النقاش الداخلي التي كانت فخر البلاشفة وميزتهم وباتت القرارات تتخذ في غرف مغلقة وضمن حلقات قيادية ضيقة.
شهد مؤتمر السوفييتات الثامن لعموم الاتحاد السوفييتي نقلة هامة باقراره الدستور الجديد الذي ينطلق من اعلان «الانتصار النهائي للاشتراكية» في البلاد. وتحت هذه المظلة احدثت تغييرات هامة في البنية الدستورية للسلطة السوفييتية من خلال النظر جذريا في النظام الانتخابي حيث الغيت قاعدة الانتخاب على اساس موقع الانتاج واستبدلت بتعميم القاعدة الجغرافية. وقد نص هذا الدستور رسميا للمرة الاولى على الدور القيادي للحزب في الدولة السوفييتية وليس فقط الدور القيادي للطبقة العاملة مكرسا بذلك دستوريا نظام الحزب الواحد. وقد يبدو ذلك مفارقة في ضوء مفهوم ماركس ولينين، لدور ووظائف وتكوين الدولة في «المجتمع الاشتراكي» تمييزا له عن مجتمع مرحلة الانتقال، ولكن هذه المفارقة كانت من اولى ثمرات التجديد في النظرية الماركسية – اللينينية. وهذه المفارقة تجد تفسيرها في حاجة البيروقراطية الى التكريس الدستوري لهيمنة حزبها الواحد، بهدف تبرير وادامة احتكارها للسلطة.
بعد انجاز هذه النقلة في بنية الحزب والدولة وتكريسه على ارض الواقع، انعقد المؤتمر الثامن عشر للحزب في آذار 1939 ليعلن ان الاتحاد السوفييتي قد دخل مرحلة «توطيد بناء المجتمع الاشتراكي والانتقال تدريجيا الى الشيوعية». كان هذا بامتياز اعلانا ايديولوجيا يزيف الواقع. ذلك ان الملكية العامة لوسائل الانتاج التي هي العنصر الاشتراكي الوحيد في المجتمع السوفييتي، مازالت في قبضة شريحة اجتماعية متميزة تحتكرها. والنظام الكولخوزي، الذي كان ما يزال يهيمن على ثلاثة ارباع الريف، هو ليس بالتأكيد نظاما للملكية العامة الاشتراكية، بل هو في افضل الحالات شكل تعاوني متطور من اشكال الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية.
في ظل هذا النظام استمرت ولو بشكل محدد بسقف اعلى، حقوق الحيازة الفلاحية الصغيرة الخاصة للأرض.
ان البيروقراطية نجحت بطريقتها الخاصة في تعبئة الشعب العامل لازالة استعصاء عملية التراكم، في كسر الحلقة المفرغة وتجاوز المأزق التاريخي الأول الذي حشرت فيه عملية الانتقال الى الاشتراكية.
كان هذا الانجاز يعني بدء انتشال المجتمع السوفييتي من هاوية التخلف ونجاحه في بناء قاعدة صناعية متينة ومستقلة وفي تعزيز قدراته الدفاعية، بما يؤهله لمواجهة أهوال الانفجار الكارثي لأزمة الرأسمالية العالمية، كما تمثل بالحرب الكونية الثانية.
ان نمو البيروقراطية هو الذي أنتج الظاهرة الستالينية وليس العكس. وبذلك عبرت الستالينية عن حاجة البيروقراطية الى السيطرة وباتت أداة لفرض هيمنتها.
4- الحرب العالمية الثانية وآثارها على مسار عملية الانتقال الى الاشتراكية.
بذلت الدبلوماسية السوفييتية جهودا في لجم تعاظم مخاطر اندلاع الحرب علي يد المانيا النازية، واستجاب الاتحاد السوفييتي للعرض الالماني بعقد اتفاق عدم اعتداء متبادل بين البلدين، وعقد هذا الاتفاق في صيف 1939. وكان هتلر بحاجة الى الاتفاق كي ينقلب على اتفاق ميونيخ، في حين كان الاتحاد السوفييتي بحاجة لكسب الوقت من اجل مواصلة خطط التصنيع والاستعدادات الدفاعية. لكن المانيا بعد ان استكملت احتلال اوروبا القارية، شنت هجوما واحتلت مساحات واسعة من الارض السوفييتية، وحاصرت لينينغراد واقتربت من موسكو والحقت اضرارا هائلة بالبنية الاقتصادية وخسر الاتحاد السوفييتي اكثر من عشرين مليون شهيد. لكن التقدم والتطور الصناعي الذي حققه الاتحاد على الصعيد العسكري خلال العقد الذي سبق الحرب كان عاملا حاسما في تمكين البلاد من الحاق الهزيمة بالنازيين.
ساهم الاتحاد السوفييتي بفضل مسيرته على طريق الانتقال الى الاشتراكية، المساهمة الرئيسية الأبرز في انقاذ البشرية من النازية. وظل ثلاث سنوات كاملة عمليا يقاتل لوحده ضد المحور (المانيا – ايطاليا – اليابان) الذي كانت بتصرفها موارد اوروبا.
الدمار الهائل الذي احدثته الحرب دفع مسيرة البناء الاقتصادي سنوات الى الوراء، واحتاجت عملية اعادة الاعمار الى 5 مليارات دولار، رفضت وقتها الامبريالية الاميركية تقديم العون، الأمر الذي حتم على السوفييت ان ينهضوا بهذه المهمة بامكانياتهم الذاتية.
كانت مهمة اعادة الاعمار جوهر الخطة الخمسية الرابعة (1945 – 1950) حيث استفاد السوفيت من الجو السياسي السائد على الصعيد الدولي وعدم الاستقرار التي عانى منها النظام الرأسمالي العالمي في فترة تميَزت بنهوض الحركة العمالية في ابرز بلدان غرب اوروبا وبتعاظم حركات التحرر الوطني في البلدان التابعة والمستعمرة. ونجحت الخطة الخمسية الرابعة في رفع الانتاج الصناعي الى مستوى يزيد 175% عما كانت عليه قبل الحرب.
بينما تطور الزراعة كان بطيئا لاسباب منها الابادة التي تعرضت لها الثروة الحيوانية، والوقت اللازم لاعادة تمويل الصناعة الحربية من اجل استئناف انتاج الآلات والمعدات الزراعية، فضلا عن النقص الخطير في القوة العاملة في الريف بسبب خسائر الحرب البشرية العالية.
القسم الثاني
الفصل الأول: التطور المتسارع لعملية الانتقال، وتناقضاتها 1950 – 1975
1- ربع قرن من النمو المتسارع في قوى الانتاج والتطور الحضاري.
خلال الربع الثالث من القرن 20 (1950 – 1975) تسارعت عملية النمو الاقتصادي، والتطور المادي والحضاري والثقافي، بما في ذلك التكنولوجي في الاتحاد السوفييتي. الذي تفوق على اكثر البلدان الراسمالية تقدما، وهنا يبرهن على صحة النظرية اللينينية التي تقول ان السبيل الوحيد للتقدم امام المجتمعات الرأسمالية المتخلفة، في ظل الهيمنة الامبريالية على العالم، هو سبيل الانتقال الى الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة.
خلال الفترة 1951 -1955، كانت وتيرة النمو الاقتصادي السوفييتي تبلغ ضعف وتيرة النمو في الولايات المتحدة، ومن 1956 – 1960 كانت ثلاثة اضعاف، وانخفضت قليلا في 1961 – 1965، ولكنها كانت ما تزال اعلى من معدل النمو الامريكي، وخلال 1966 – 1970 ارتفعت مجددا الى ضعف معدل النمو الامريكي، وفي 1970 – 1975 كانت تزيد على المعدل الامريكي بمرة ونصف تقريبا.
اما في مجال التطور التكنولوجي، كان الاتحاد السوفييتي يسابق البلدان الرأسمالية المتطورة في ميادين التطور العلمي والتكنولوجي وفي مجالات الطب والجراحة وتكنولوجيا التعدين وفي بعض مجالات الكيمياء.اما في ميدان التطور الحضاري تفوق السوفييت في مجال الرياضة الاولمبية والشطرنج. وتطور مستوى المعيشة للسكان وارتفعت حصة الفرد السوفييتي من استهلاك المواد الغذائية والملابس والسلع المنزلية.
كان هذا التطور يجري في ظرف دولي ما انفكت فيه تتصاعد حدة التوتر او الحرب الباردة، ويتسابق سباق التسلح، وفي هذا السياق كان الاتحاد السوفييتي مضطرا من اجل احراز التوازن الاستراتيجي ان يحتفظ بجيش يتفوق بعدده وعتاده، والى بناء قوة نووية رادعة توازي على الاقل قوة الولايات المتحدة.
في سياق هذا التطور كان الحزب، قد استعاد دوره القيادي المهمين على الدولة، بعد ان اصبح الاطار الرئيسي لتنظيم البيروقراطية وبلورة ارادتها الجماعية.
في 1961 انعقد المؤتمر الثاني والعشرون للحزب، وأعلن المؤتمر ان الاتحاد السوفييتي قد انجز مهمة توطيد بناء المجتمع الاشتراكي وضمن انتصاره النهائي والكامل وشرع في بناء أسس المجتمع الشيوعي. كان هذا بدوره اعلانا «ايديولوجيا» بامتياز، ولكن وظيفته تتضح من الاستخلاص الذي حددته قرارات المؤتمر على النحو التالي: ان الطبقات، وليس فقط الصراع بينها، قد اختفت نهائيا في المجتمع السوفييتي، وظهرت الى الوجود تشكيلة اجتماعية منسجمة اسمها الشعب السوفييتي، وبذلك اصبحت الدولة «دولة الشعب كله» واصبح الحزب الشيوعي «حزب الشعب كله».
2- التناقضات في المجتمع السوفييتي خلال فترة الصعود، في الدور التاريخي للبيروقراطية.
تندرج هذه التناقضات تحت 4 عناوين رئيسية:
أولا: التناقض الأول
هو التناقض بين الملكية العامة والتعاونية الكولخوزية، وبين القطاع الخاص.
ما الذي كان يحفز على نمو الاقتصاد الموازي؟
ثانيا: التناقض الثاني
هو التناقض في المصالح ببين الكولخوزات، وبين الدولة.
تفاقم النقص النسبي في مخزون الغذاء بيد الدولة في مطلع خمسينات القرن 20، قادها الى محاولة حل المعضلة بحملة مكثفة لاستصلاح الاراضي البكر واقامة السوفخوزات (مزارع الدولة) عليها، جندت لها مئات الألوف من العمال.
غير ان العلاقة الجديدة كانت تنطوي في الواقع على تناقضات عدة. فهي تعطي باليد اليمنى للكولخوزات مزيدا من الاستقلالية وحقا في تملك آلياتها ومعداتها وكذلك زيادة في اسعار الشراء بما تنطوي عليه من زيادة مؤقتة في الدخل، ولكنها تسحب باليد اليسرى، جانبا كبيرا من فوائد هذه الاستقلالية حين تعطي الدولة حقا مطلقا في اقرار مقادير الشراء وفي تحديد اسعاره، وتحرم الكولخوز من حق التصرف بكميات الناتج الزائدة عن اهداف التسليم الالزامية المحددة بالخطة
في عام 1965 في ظل القيادة الثلاثية الجديدة التي ضمن الى جانب بريجنيف، ألكسي كوسيغين الذي تسلم رئاسة الحكومة حتى سنة 1979، ونيكولاي بودغورني الذي اصبح عام 1965 رئيسا لهيئة رئاسة مجلس السوفييت الاعلى وحتى 1977، اعتمد اصلاح كوسيغين الذي يتضمن فيما يخص الزراعة، سياسة جديدة قوامها العودة الى نظام التسليمات الالزامية التي أطلق عليها هذه المرة اسم الطلبية المحددة.
ثالثا: التناقض الثالث
هو التناقض داخل الطبقة العاملة الذي برز في عشرينيات القرن 20، تعارضا بين مصالحها الآنية (في التمتع بثمار الملكية العامة لوسائل الانتاج والتصرف بالفائض المتولد عنها لصالح تحسين مستوى المعيشة)، وبين مصلحتها بعيدة الأمد (في فتح طريق التحول الى الاشتراكي، مما يتطلب على المدى المباشر اقتطاع الفائض لصالح التراكم وتطوير قوى الانتاج).
ان عملية التغريب المؤقت للسلطة في الدولة العمالية، احالتها مؤقتا الى ايدي البيروقراطية (او اذا شاء البعض: مصادرتها بصورة مؤقتة، نظريا، من قبل البيروقراطية باسم، او بحجة ضمان المصالح النهائية للبروليتاريا)، هذه العملية بدأت تفقد ضرورتها ومبررها التاريخي الموضوعي. وبسبب من ذلك أخذت البيروقراطية تستنفذ دورها التاريخي التقدمي تدريجيا، وتتحول (الآن فقط وببطء) الى نتوء طفيلي لا لزوم له، يتغذى من جسم الدولة العمالية ويستأثر، بفعل احتكاره للسلطة وتحكمه بتخصيص وتوزيع الفائض، بحصة متميزة ومتزايدة الارتفاع من فائض العمل الاجتماعي، حصة لا تتناسب ومساهمته الفعلية في انتاج الفائض الاجتماعي.
وسائل التعبير السياسي والاجتماعي الشامل عن هذا التناقض لم تكن متاحة. فالبيروقراطية المتشبثة بالسلطة صارت تعزز نظامها للسيطرة الشمولية بوسائل أكثر فعالية في البداية: وسائل القمع الايديولوجي (وفي سياقها الاعلانات المتكررة عن انجاز الاشتراكية والتحول للشيوعية)، وسائل العقاب القانوني لاي خروج عن نظام الطاعة السياسية والاجتماعية، والاهم من ذلك وسائل التعجيل المتعمد لعملية التشظي الاجتماعي للطبقة العاملة، والتجزئة الذرية لعناصرها الى افراد منطوين ذاتيا (اي تحويل كل فرد عامل «ذرة» منعزلة وفاقدة للصلة بالذرات الاخرى فيما يخص ممارستها السياسية والاجتماعية.
وهكذا تعمقت حتى النهاية حالة الاستلاب الاقتصادي، تغريب الطبقة العاملة عن ممارسة سلطتها المفترضة على وسائل الانتاج التي هي رسميا ملكيتها الجماعية، ايضا عن التحكم بناتج عملها، كما تعمقت حالة الاستلاب السياسي، تغريب الطبقة العاملة بسوادها الاعظم عن ممارسة السلطة السياسية في دولتها.
ولكن ثمة فرقا جوهريا بين هذا النمط من الاستلاب، وبين الاستلاب المعروف في ظل النظام الرأسمالي. ففي المجتمع الرأسمالي ينبثق الاستلاب من نظام الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. أما في مجتمع الانتقال الى الاشتراكية، فان الاستلاب لا يفرض نفسه، ولا حتى ظاهريا، بصفته من طبيعة الأشياء، انه على العكس، يكشف اكثر فأكثر عن سمته الشاذة، يتخلى أكثر فأكثر بصفته منافيا لطبيعة الأشياء، منافيا لنمط الملكية السائدة، ومناقضا لمرتكزات السلطة السياسية، ومتعارضا مع الطبيعة الطبقية للدولة.
ان توسيع استقلال المؤسسات بما في ذلك ادخال مبدأ الربحية والحساب الاقتصادي في عملها، وربط نظام الحوافز بالربحية «اي كلما ازدادت ارباح المؤسسة تزداد العلاوات والمكافآت الممنوحة للعمال، كل ذلك لم يساعد على تقليص هذه الظواهر، بل قاد في الواقع الى استفحالها. فلقد قال العمال: طالما نحن لا نمتلك سلطة اختيار الادارة، ولا سلطة مناقشة القرارات، وهي القرارات التي تتوقف عليها ربحية المؤسسة في النهاية، فلماذا نتحمل النتائج السلبية لهذه القرارات، وطالما نحن لا نمتلك سلطة التصرف بوسائل الانتاج، لماذا نتحمل المسؤولية ازاءها؟
وقد برزت هذه المعضلة داخل المؤسسة الكولخوزية. كل هذه الظواهر تنبثق من التناقض الاساسي، ولم يكن ثمة علاج لها سوى بحل هذا التناقض: باعادة السلطة المغتصبة الى اصحابها الشرعيين، اعادة سلطة التصرف بوسائل الانتاج والتحكم بتخصيص وتوزيع الفائض على مستوى المؤسسة كما على مستوى الاقتصاد والدولة ككل، الى اصحابها العمال وتمكينهم من ممارستها جماعيا وبصورة ديمقراطية.
رابعا: التناقض الرابع
فهو في صفوف البيروقراطية نفسها، ان هذا التناقض متأصل في اساس نظام السيطرة الشمولي للبيروقراطية، وهو تعبير عن التناقض الكامن في موقعها التاريخي ووظيفتها، وفي تكوينها ومصالحها، هو تعبير عن طبيعتها الانتقالية كشريحة اجتماعية حاكمة، كونها تنشأ في مجتمع انتقالي، وتكتسب سيطرتها بفعل ضرورة انتقالية، وظروف انتقالية.
النظام البيروقراطي، كما استقر منذ خمسينيات القرن 20، هو سلم متعدد الدرجات من المراتب الجامدة، يبدأ من مستوى الوحدة الانتاجية صعودا الى القمة، تخترقه شبكة من الخطوط العمودية والأفقية المتقاطعة التي تؤمن الصلة بين الوظائف وفق التسلسل المراتبي للأجهزة (الجهاز الحزبي، أو النقابي، أو الحكومي، أو جهاز الادارة الاقتصادية) او وفق التناظر الوظيفي على المستوى المحلى أو الجغرافي، وعلى صعيد القطاعات الاقتصادية.
ان مبدأ انتزاع وتخزين أكبر كمية ممكنة من الموارد، مقابل أقل مستوى ممكن من الأهداف المحددة في الخطة، هو المبدأ الرئيسي الثاني الذي يوجه أسلوب عمل الادارة لبيروقراطية الانتاج. ويقود هذا المبدأ الى نتيجتين هامتين:
1- هي محاولة اخفاء المعلومات عن الوضع الحقيقي للمؤسسة، اخفائها عن المؤسسات الأخرى وكذلك عن المراتب الأعلى.
2- هي تقليص الدوافع، وانتقاء الشروط، لادخال الوسائل التقنية المتطورة في الانتاج، والتي هي الشرط المادي للارتقاء بمعدل انتاجية العمل.
ان درجة اكبر من حرية السوق في الاقتصاد السوفييتي كان يمكن، كما ثبت بالوقائع فيما بعد، ان تقود الى انتعاش القطاعات التي هي بحكم طبيعتها من جهة وبحكم الدرجة المعطاة من مستوى التطور التكنولوجي، من جهة أخرى، لم تكن مؤهلة بعد للانتقال الى مستوى الانتاج الكبير.
وان كانت هذه القطاعات هامة بالنسبة للحياة اليومية للمستهلك وانتعاشها بمكن ان يشكل رافدا اضافيا لتطور الانتاج والتبادل، فان هذه القطاعات ليست حايمة لتطور الاقتصاد ككل، لا في المجتمع السوفييتي ولا حتى في المجتمعات الرأسمالية. وفي المرحلة التي وصل اليها الاقتصاد السوفييتي في ستينيات، وبشكل أكثر الحاحا منذ سبعينيات القرن20، كان تطوير هذه القطاعات يحتاج الى مزيد من الرقابة من جانب جمهور المستهلكين توفر حافزا لتطوير نوعية الانتاج وشروطه التقنية، وعاملا ضاغطا على مراكز القرار. ولكن درجة أعلى من الرقابة من جانب جمهور المستهلكين لا تتحقق بالضرورة عبر آليات السوق، بل يمكن ان تتحقق عبر اشاعة الديمقراطية السياسية مشفوعة بالديمقراطية في علاقات الانتاج داخل المؤسسات.
الفصل الثاني: تفاقم التناقضات في المجتمع السوفييتي 1964 – 1982
1- اتجاهات تفاقم التناقضات في المجتمع السوفييتي.
لقد استفضنا في تحليل التناقض في صفوف البيروقراطية نفسها، الذي تبرهن صحته الوقائع، بهدف التوصل الى تحديد علمي لمصدر الخلل، منبع التناقض في نظام الادارة البيروقراطي، والذي كان يتفاقم تدريجيا مع تطور الاقتصاد والمجتمع لكي يصل الى نقطة أصبح فيها الى جانب التناقضات الاخرى، عنصر تعطيل وعرقلة للتطور ساهم في احداث الأزمة.
ان هذا التناقض لا ينبع من الملكية العامة، بل من الاحتكار البيروقراطي لسلطة التصرف بالملكية العامة. انه لا ينبع من مركزية التخطيط، بل من بيروقراطيته، اي من انفراد البيروقراطية بسلطة اتخاذ القرارات التي تحدد أولويات التصرف بالفائض، وبالموارد المتاحة وفقا لمصالحها باختلاف مراتبها.
وأخيرا، فان هذا التناقض لا ينبع بالضروة من انعدام، أو قلة الكفاءة التقنية للمدير البيروقراطي، بل ينبع من التناقض بين مصالحه ومصالح جمهور العاملين والمستهلكين، ومن التعارض بينها وبين مصالح المراتب البيروقراطية الأعلى وادارات المؤسسات الأخرى.
ان هذا النظام يجعل مصالح المدير، كشخص وكمرتبة، العامل المحرك الرئيسي لانجاز الخطة، ولضمان انتظام الأداء اليومي للعملية الانتاجية.
بتفاقم هذا التناقض مع التباين بين مراتب البيروقراطية في درجة تعرضها للضغط من أدنى، ودرجة تأثرها به. فالمراتب الدنيا المعنية بالعلاقة المباشرة مع جمهور المنتخبين والمستهلكين، هي أكثر حساسية لهذا الضغط، كذلك يتفاقم هذا التناقض بفعل عملية التمايز الاجتماعي، التمايز في حجم ونوعية الامتيازات المتاحة للمراتب المختلفة من البيروقراطية.
كان الفائض اصلا محدودا، والحصة المخصصة منه للاستهلاك شحيحة، واكن هذا يمس بمستوى حياة العمال والفلاحين أساسا، ولكنه أيضا يحد من امتيازات البيروقراطية. ولكن مع نمو الفائض والتزايد النسبي لنصيب الاستهلاك منه، تفاقمت هذه الامتيازات، واتسعت الفجوة بين مستوى حياة العمال والفلاحين وبين دخول وامتيازات البيروقراطيين.
لا بد ان نعطي صورة واقعية موجزة عن تطور وتجليات المراحل المبكرة لهذا التناقض في خمسينيات وستينيات القرن 20. وفي هذا الاطار نشير الى ما يلي: لم يكن هذا التناقض، على الأرجح هو المحرك الرئيسي للتحولات في قمة السلطة التي أعقبت وفاة ستالين. لقد رأينا أن الدافع الرئيسي لهذه التحولات كان سياسيا، يتعلق باعادة تنظيم العلاقة بين مراكز القوى الثلاثة في قمة النظام: الحزب، الجيش، والأجهزة الأمنية. وعملية التصفية الجزئية للستالينية كانت تقتصر في البداية على التخلص من المظاهر الاستبدادية النافرة للعهد الستاليني، ولم تكن تنطوي على تغيير نوعي في السياسة الاقتصادية.
ولكن التغيير الأكثر أهمية كان ذلك الذي وقع في هيكل السلطة في القطاع الصناعي، ومن ثم الحزبي والحكومي، في مستهل ستينات القرن 20. كان معدل نمو الصناعة قد بدأ يشهد تراجعا نسبيا للمرة الأولى منذ ثلاثينيات القرن 20. ففي الخطة الخمسية الخامسة 1951 – 1956، كان المعدل السنوي 13.1%، وفي الخطة اللاحقة 1956 – 1960، انخفض الى 10.4% كانت اعتبارات تخلف الزراعة، وبدء تفاقم التناقض في علاقات الانتاج داخل مؤسسات الدولة، تؤثر جميعا في احداث هذا التراجع.
مع تأثير نشوب الأزمة الزراعية الجديدة في 1961 – 1963، والتفاقم التدريجي لتناقضات علاقات الانتاج داخل المؤسسات، قاد هذا الصراع الى حال من الفوضى أدت الى تدهور خطير في معدل النمو الصناعي، ومعدل نمو الاقتصاد عموما في عامي 1963 – 1964. وخلال الفترة 1961 – 1965، انخفضت وتيرة النمو الاقتصادي الى معدل سنوي قدره 6.5%، والصناعي الى 8.5% بينما كانت خلال الخطة الخمسية السابقة 1956 – 1960، توازي 9.1% للاقتصاد عموما، و 10.4% للصناعة.
تطلب هذا التدهور تغييرا في قمة الهرم، وأدى الى الاطاحة بخروتشوف. وفي ظل الترويكا القيادية الجديدة، اعتمدت «اصلاحات كوسيغين» الذي تولى رئاسة الوزراء ومسؤولية الاشراف على التطور الاقتصادي. وكان هذا الاصلاح مزيجا من الاجراءات المتنافرة التي تحاول أن ترضي الجميع، ولكن الحصة الرئيسية من الغنيمة فيه ذهبت لصالح التحالف بين مراتب البيروقراطية الدنيا (الصناعية والكولخوزية) وبين طواقم الادارات المركزية (وهو التحالف الذي أطاح بخروتشوف) وذلك على حساب مراكز القوى الاقليمية المتشكلة.
مع استمرار تحكم المركز بسياسة التسعير للمنتجات، فقد أعطيت المؤسسة حق الاحتفاظ بنسبة من أرباحها وحق التصرف بهذه النسبة لصالح الاستثمار، أي تحسين عتادها ومخزونها من وسائل الانتاج، أو لصالح تعزيز نظام الحوافز المادية للعمل (زيادة الأجور والعلاوات). وكان يفترض بهذه الاجراءات ان تعزز قدرة المؤسسة على تجديد عتادها، وتطويره تقنيا، وتحسين العلاقات الصناعية داخلها عبر نظام الحوافز المادية للعمال، وأن تقود بالتالي الى زيادة الانتاجية وتسريع معدل نمو الناتج وتحسين نوعيته.
وهكذا، فان الاصلاح الكوسيغيني، الذي وصف رسميا في مطلع 1970 بأنه «يجمع بصورة موفقة بين الادارة المركزية للاقتصاد والتخطيط الحكومي الشامل، وبين الاستقلال الذاتي والمبادرة الاقتصادية للمؤسسات» انتهى بعد سنوات قليلة الى الفشل المدوي. وكان هذا الفشل سببا للاطاحة بكوسيغين، والتخلي عن نظام الترويكا وانفراد بريجينيف بسلطة الحزب والدولة. ودخلت البلاد بذلك ما يعرف باسم «عهد الجمود».
حتى عهد البيرويسترويكا والغلاسنوست، كانت مظاهر الاجماع البيروقراطي تهيمن على السطح الخارجي للحياة السياسية والاجتماعية في كل مجالاتها، في الصحف والاجتماعات الجماهيرية والندوات الانتخابية والمؤتمرات السوفييتية المعلنة، بل وحتى في الاجتماعات الموسعة للوحدات الحزبية والنقابية القاعدية. كان هذا الاجماع البيروقراطي الظاهري، في مواجهة جماهير الطبقة العاملة والفلاحين، واحدا من مستلزمات نظام السيطرة الشمولي الذي يحفظ للبيروقراطية هيمنتها عبر تعميق الاستلاب لحقوق الجمهور العمالي والفلاحي العريض.
هذه الاختلالات في الاقتصاد السوفييتي، هي باختصار نتيجة للتناقضات القائمة في المجتمع في سياق عمليات الانتقال الى الاشتراكية، وللصراع الدائر فيه بوسائل المواربة حول تخصيص وتوزيع الفائض الاجتماعي، بين قوى اجتماعية ذات مصالح متعارضة، بما في ذلك بيبن المراتب والمراكز البيروقراطية، بقدر التنافر في مصالحها.
2- ازاء استحقاقات الطور الجديد من عملية الانتقال الى الاشتراكية: أزمة البيروقراطية تتفاقم في ظل «عهد الجمود».
في اواخر ستينيات القرن 20، كان الاتحاد السوفييتي قد استكمل انجاز مرحلة من مراحل تطوره الاقتصادي وأخذ يقف على أبواب مرحلة جديدة مختلفة نوعيا. فالبنية الأساسية للصناعة استكمل ارساؤها وتطورت، الى مستويات راقية، الطاقة الانتاجية لصناعة انتاج وسائل الانتاج (التعدين، الطاقة، وبناء الآلات)، وانتقلت الزراعة من عصر المحراث الخشبي الى عصر المكننة والانتاج الكبير، واستكمل استصلاح الاراضي البكر واستغلال الثروات الطبيعية الزاخرة التي تنعم بها البلاد. وأصبحت الصناعة تستوعب حوالي ثلثي القوة العاملة، التي بلغت حالة العمالة المستقرة والتشغيل الأقصى. وفي تلك الفترة، وبفعل تسارع وتيرة النمو الاقتصادي في سياق عملية الانتقال الى الاشتراكية في ظل نظام الملكية العامة والدولة العمالية رغم بقرطتها، كان الاتحاد السوفييتي قد وضع نفسه على مستوى البلدان الرأسمالية المتقدمة، لا بل تفوق على بعضها، من حيث درجة تطور البنية الصناعية الأساسية، أي درجة تطور الطاقة الانتاجية لصناعة انتاج وسائل الانتاج، على الأقل بالمفهوم الكمي للقدرة الانتاجية.
ولكن هذه القدرة الانتاجية كانت ما تزال متخلفة من حيث درجة تطورها النوعي. يؤشر ذلك ليس وحسب الى درجة التأخر في نشر التكنولوجيا الحديثة في الانتاج، بما يخفض كلفته، بل كذلك الى التخلف في مجال انتاج سلع وخدمات الاستهلاك الشعبي وهي المسؤولة عن نسبة عالية من القيمة المضافة الى الناتج القومي في الاقتصادات المتقدمة. ويتبدى هذا التخلف ايضا من خلال مقارنة كلفة الانفاق على ضروريات الاستهلاك المصنعة. فالعامل المتوسط في الاتحاد السوفييتي بحاجة الى انفاق 15.9% من دخله في المعدل على شراء الملابس والأحذية، بينما تبلغ النسبة المقارنة في بلدان أوروبا الغربية 7.4% في المعدل.
هل كانت أسباب هذا التدهور تقنية تعود الى عوامل اقتصادية فنية محضة؟
لو كان الأمر كذلك، لكان بالامكان تدارك هذه الأسباب ومعالجة تلك العوامل وانهاض وتائر النمو في الخطط اللاحقة، وهو ما لم يحصل، فلقد كانت عوامل التدهور ببنية وهيكل السلطة الاقتصادية السياسية، التي لم تعد ملائمة لمتطلبات المرحلة الجديدة المستحقة من مراحل التطور الاقتصادي.
أصبح دفع مسيرة تطور القوى المنتجة يتطلب التخلص من نظام السيطرة الشمولي، ونظام الادارة البيروقراطي، الذي يقوم على احتكار البيروقراطية لسلطة التصرف بوسائل الانتاج باعتبارها ملكية عامة جماعية للمجتمع مودعة مؤقتا كأمانة بيد الدولة، والذي يقوم على استئثار البيروقراطية بسلطة التحكم بالفائض الاجتماعي، ومصادرتها لحق ممارسة السلطة السياسية في الدولة العمالية وانفرادها بالتمتع بهذا الحق.
أصبحت هذه النقلة ممكنة موضوعيا من جهة، وباتت ضرورة لا غنى عنها لدفع مسيرة التطور، من جهة أخرى، كيف ولماذا؟
نبدأ بالجانب الاقتصادي للمسألة: ان متابعة النمو عبر التكثيف العمودي لاستغلال الموارد وتخفيض كلفة الانتاج، تتطلب اساسا التجديد التكنولوجي المتزايد باضطراد ورفع معدل انتاجية العمل. واذا كان تطور العلم شرطا لازما للتجديد التكنولوجي، فانه ليس شرطا كافيا. انه بحاجة الى ان يستكمل بتوفر الحافز الاقتصادي لتطبيق منجزات العلم، في المجتمع الرأسمالي يتوفر هذا الحافز بفعل حاجة رأس المال الى التراكم، والى الارتقاء بنسبة تكوينه العضوي، وفي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية يزداد هذا الحافز بفعل فيض التراكم في رأس المال وتنامي حاجته الى مجالات جديدة للاستثماراما في ظل الادارة البيروقراطية للاقتصاد المخطط القائم على الملكية العامة، فان هذا الحافز الاقتصادي للتجديد التكنولوجي يتضاءل ويتقلص بقدر ما ينمو تطور القوى المنتجة الى الحد الذي يؤمن بنية أساسية، يؤمن درجة من التطور في القدرة الانتاجية، تسمح بانتاج ما يكفي من الفائض الاجتماعي لاشباع حاجات الشريحة البيروقراطية المسيطرة على سلطة التصرف بوسائل الانتاج، حاجاتها الاستهلاكية كشريحة متميزة، وحاجتها الى الامتيازات والتسهيلات الاجتماعية الخاصة بها.
ماذا عن حافز «مصلحة النظام ككل»؟
فوق ما هو ضروري لتأمين امتيازات البيروقراطية، فان الحاجة الى صون النظام ككل وضمان استقراره يتطلب تأمين القدرة على الانفاق الاستراتيجي، وتأمين القدرة على اعاقة قوى القمع وضمان ارتفاع تدريجي ولو بسيط في مستوى معيشة السكان.
ماذا عن حافز «مصلحة المجتمع ككل»؟
ان مصلحة المجتمع ككل ليست العامل المحرك لانتظام العمل اليومي للنظام الاقتصادي في ظل الادارة البيروقراطية. شأنها في ذلك شأن أي قوة اجتماعية حاكمة ذات امتيازات، فان مصلحتها الفئوية الخاصة، كأفراد وكشريحة حاكمة، مصلحتها في تأمين ومراكمة امتيازاتها، هي وحدها القوة المنظمة لمسار الحياة الاقتصادية بمجراها اليومي، طالما استمر نظامها قائما.
التجديد التكنولوجي والنمو عبر التكثيف العمودي يفترض حافزا للاستخدام الأمثل للموارد ودخلات الانتاج، حافزا لانتاج كمية أكبر ونوعية أفضل بموارد ومدخلات أقل، ومصلحة الادارة البيروقراطية تفترض العكس تماما، انها تتطلب الحصول على اكبر كمية ممكنة من الموارد والمدخلات وتخفيض حصص وتسليمات الانتاج المقررة للمؤسسة في الخطة، و»اقناع» المخططين والمراتب الاعلى بذلك بكل الوسائل الممكنة: التزييف، او التملق، او الضغط، او تبادل المنافع والخدمات المالية، او السياسية، او ربما الرشوة الموصوفة. وحشد طاقات الصناعة من اجل التكثيف العمودي والتحديث التكنولوجي يتطلب مرونة عالية في التنقيل واعادة التوزيع للموارد ودخلات الانتاه والقوة العاملة بين المؤسسات وفروع الصناعة، بينما مصلحة الادارة البيروقراطية تتطلب على العكس، تخزين واكتناز الموارد والمدخلات في داخل المؤسسة واخفاءها عن المخططين والمؤسسات الاخرى.
ان جميع الإصلاحات الإقتصادية التي اعتمدت، منذ خروتشوڤ مرورا بكوسيجين وصولا إلى البيريسترويكا، لم تنجح في معالجة هذا الخلل. فجميع هذه الإصلاحات كانت تسعى إلى معالجة المعضلة عبر إحداث توازن بين مركزية التخطيط واستقلالية المشروعات، أو عبر تغليب استقلالية المؤسسات واعتماد مبدأ الربحية. ولكن المعضلة لم تكن تكمن هنا. خلافا لما يروجه حتى الآن، حتى بعد خراب البصرة، منظرو «آليات السوق والحساب الإقتصادي»، فإن المعضلة لا تكمن في مركزية التخطيط، بل في بيروقراطيته. فمركزية التخطيط لا تتنافى بالضرورة مع متطلبات التحديث التكنولوجي، بل يمكن أن تكون حافزا لها إذا اقترنت بالديمقراطية والإدارة العمالية الجماعية. إن ما يتعارض مع متطلبات التحديث هي مصلحة البيروقراطي، ونمط الإدارة والتخطيط البيروقراطي اللذين يتيحان له تحقيق هذه المصلحة على حساب مصالح المجتمع ككل.
في المجتمع الرأسمالي المتطور يتحقق التوافق بين توجهات المنتجين، وبين «رغبات» المستهلكين، ليس بفضل سحر آليات السوق الحرة، كما يزعم منظرو علم الإقتصاد البورجوازي، بل بفعل قوانين المنافسة الإحتكارية التي تملي التجديد التكنولوجي. وهذا التجديد يوفر بدوره مرونة عالية في تغيير النوعية وتأمين الإنسجام الفعلي، أو الظاهري بينها وبين حاجات السوق، كما يؤمن التحسين النسبي للنوعية تلقائيا، ويمكن من خفض كلفة الانتاج بصورة جوهرية. يضاف إلى هذا العامل التخطيط الإحتكاري بما يوفره من آليات للتنبؤ باتجاهات السوق، ثم الخداع الذي تمارسه الإحتكارات على المستهلك بتقديم نوعيات أسوأ، ولكن بمظاهر خارجية أكثر بهرجة وتسويقها بفضل كلفتها المنخفضة، من جهة، وبفضل إنفاق أموال طائلة على وسائل الإعلان والتسويق التي باتت تقوم بدور حاسم في تشكيل الذوق الإستهلاكي العام، وفي «خلق» حاجات إستهلاكية مفتعلة لتوسيع السوق، من جهة أخرى.
ماذا عن اقتصاد مخطط يقوم على الملكية العامة ويدار بيروقراطيا؟
بالنسبة للسلع الإستهلاكية المصنعة فهي، خلافا للإنتاج الكولخوزي، تصرف عادة عبر مخازن الدولة. وهي تعتبر مباعة بمجرد ان توافق على تسلمها مخازن الدولة، التي هي ايضا - بدورها - تخضع لإدارات بيروقراطية يسهل إقناعها بالإستلام، بصرف النظر عن نوعية المنتوج، إما عبر آلية تبادل المنافع بين البيروقراطيين، أو باختصار بسبب عدم توفر البديل. لكل هذه العوامل، فإن النقلة التي بات مطلوبا إحداثها لدفع مسيرة تطور الإقتصاد والمجتمع، بينما هي لا تتنافى من حيث المبدأ مع نظام الملكية العامة والإقتصاد المخطط، بل على العكس تفترضهما، إلا أن متطلباتها تتناقض بحدة مع نمط الإدارة البيروقراطي للإقتصاد، ومع مصالح القائمين عليه.
من الزاوية الإقتصادية، فإن البيروقراطية وهيمنتها على السلطة الإقتصادية، أصبحت فائضة عن حاجة المجتمع واستنفذت دورها، بل وباتت عقبة تحتجز طريق النمو وتعرقله.
في هذا بالذات تكمن السمة الانتقالية للبيروقراطية، كونها ليست طبقة حاكمة جديدة، لانها لا تستطيع ان تضمن استمرار توالد سلطتها بحكم الضرورة الاقتصادية، لا تستطيع ان تبني مجتمعا على طرازها ولا اقامة نمط انتاج خاص بها متميز عن الرأسمالية، وعن الاشتراكية بنفس الوقت. . إن البيروقراطي، الذي لا يملك وسائل الإنتاج، بل ليس سوى سلطة التصرف بها مؤقتا (طالما بقي في موقعه)، يستمد ضرورته من تخلف مجتمع الإنتقال إلى الإشتراكية، ويستنفذ دوره ويفقد وظيفته بمجرد أن يتجاوز المجتمع هذا التخلف، فيوضع البيروقراطي هكذا أمام الخيار: إما الارتداد إلى الرأسمالية التي تؤمن له حق تملك وسائل الإنتاج، وإما الزوال، كشريحة حاكمة، والاختفاء من مسرح التاريخ، وإفساح المجال أمام العمال ليستردوا أمانتهم، وليمارسوا حقهم الكامل في تولي السلطة في دولتهم.
هكذا تقضي الضرورة الاقتصادية، وهي الحاسمة في نهاية الأمر، ولكن: ماذا عن «البناء الفوقي» ماذا عن الجانب السياسي من المسألة؟
اذا كانت النقلة المطلوبة لدفع مسيرة التطور باتت تطرح بإلحاح، من الزاوية الإقتصادية، إستحقاق إعادة سلطة التصرف بوسائل الإنتاج إلى أيدي العمال ليديروها بشكل جماعي، فإن من نافل القول، إن هذه السلطة لا يمكن ممارستها إلا بأسلوب ديمقراطي، عبر التنظيم الديمقراطي الشامل للعمال كطبقة حاكمة. فالإدارة الجماعية هنا، لا تعني فقط الديمقراطية العمالية في موقع الإنتاج، بل هي تعني بالضرورة الديمقراطية الشاملة في المجتمع، وفي ممارسة سلطة الدولة. هذا التحول الديمقراطي لم يعد فقط تفضيلا ايديولوجيا، او ضمانة لاتجاه التطور في المستقبل. بل لقد رأينا كيف أصبح ضرورة ملحة تتطلبها فورا حاجات النمو الإقتصادي للمجتمع. فالنمو عبر التكثيف العمودي لاستغلال الموارد، بما ينطوي عليه من حاجات للتحديث التكنولوجي والإنتاج الجماهيري لسلع الاستهلاك، كان يتطلب إشاعة الديمقراطية في مختلف مناحي حياة المجتمع. ومن زاوية حاجات المجتمع إلى النمو ومتابعة السير على طريق التحول الإشتراكي، كانت إعادة الإعتبار لمبدأ التعددية الحزبية، في إطار إحترام أسس النظام السوڤييتي والتزام الخيار الاشتراكي، تضمن لجماهير العمال والشعب العامل عموما، حق وامكانية الانتظام لممارسة السلطة، وإمكانية إتخاذ القرار الديمقراطي بشأن الخيارات الرئيسية الإقتصادية، كما الإجتماعية والسياسية، التي تطرح نفسها على المجتمع والتي تنعكس بالضرورة في برامج وخطط الأحزاب المختلفة.
هذه النقلة كانت ضرورية، ولكن هل كانت ممكنة موضوعيا، وهل كان احداثها يهدد بالخطر نظام الملكية العامة ومسار الانتقال الى الاشتراكية؟
لقد ثبت ان نظام السيطرة الشمولي وانفراد الحزب البيروقراطي الحاكم بالسلطة ليس هو الضمان السياسي لمواصلة مسيرة الانتقال الى الاشتراكية، بل ان استمرار هذا النظام بعد زوال أساسه المادي أصبح في الواقع هو الذي يعرَض هذه المسيرة للخطر. لقد أصبحت الطبقة العاملة مؤهلة، موضوعيا، لممارسة السلطة السياسية في دولتها بنفسها وصون نظامها بشكل ديمقراطي دون الحاجة إلى «دكتاتورية الطليعة»، وبالتأكيد دون الحاجة إلى الاحتكار البيروقراطي للسلطة التي هي حاجة مشكوك بضرورتها أصلا. فلقد أصبحت الطبقة العاملة أغلبية ثابتة ومستقرة في المجتمع، وأغلبية ساحقة (أكثر من ثلاثة أرباع المجتمع الفعال)، كما أصبحت على درجة عالية من الثقافة والتحصيل العلمي والتطور الحضاري والاستقرار الإجتماعي. ولذلك بات الاستحقاق الديمقراطي ممكنا تمام، فضلا عن كونه ضرورة للتطور.
هل كانت الاستجابة لهذه الاستحقاقات، السياسية والاقتصادية، تعني الانتقال فورا الى مجتمع اشتراكي؟
كلا بالطبع. لقد كانت تعني فقط تجاوز المنعطف نحو طور جديد، أكثر تقدما، من أطوار مرحلة الإنتقال التاريخية إلى الإشتراكية، طور جديد تتطور فيه عملية الإنتقال وفق قوانينها «الطبيعية» كما اكتشفها ماركس وإنجلز، والتي لم يكن ممكنا ان تنطبق على الوضع في مجتمع متخلف، طور جديد تستكمل فيه العملية لحاقها بمستوى التطور الذي أحرزته الرأسمالية المتقدمة وتفوقها عليه، وتؤسس بذلك القاعدة المادية الحقيقية لمجتمع إشتراكي. حتى لو تمت الاستجابة لهذا الاستحقاق، فإن الحاجة كانت ستبقى قائمة إلى نمط الملكية الكولخوزي في الزراعة، وإلى نشاط رأس المال الخاص ضمن حدود معينة في القطاعات التي لا يسمح التطور التكنولوجي المحرز بشمولها بأفضليات الإنتاج الكبير، في الزراعة، والخدمات، وتجارة المفرق الصغيرة.
بهذا المنحى كان يتطور الوضع الداخلي للإتحاد السوڤييتي في سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن 20، في عالم كانت تجيش أعماقه بتيارات التغيير التي تتلاطم أمواجها باتجاهات متناقضة. العالم الرأسمالي المتقدم كان قد استنفذ مرحلة الرواج والازدهار النسبي التي امتدت حتى أواخر ستينيات القرن 20، وبدأ يدخل مرحلة من الأزمة المديدة المركبة. والمغامرات العدوانية المتوالية كانت قد أنهكت الإمبريالية الأميركية وأجبرتها على الانكفاء المؤقت. وشهد للحركة الثورية العالمية التي حققت إنتصارات حاسمة في ڤيتنام وكمبوديا ولاوس، وفي البرتغال وأنغولا وموزامبيق، وفي اليمن وأثيوبيا، وفي نيكاراغوا في أفغانستان وإيران. كانت معظم هذه الانتصارات قد تحققت تحت قيادة أحزاب شيوعية، أو حركات ديمقراطية ثورية ترفع راية الإشتراكية العلمية، وتتأثر بعمق بالإنجازات الباهرة التي حققها الإتحاد السوڤييتي على طريق التطور الإقتصادي والحضاري. فالرأسمالية، في مراكزها المتطورة، كانت تمر بمرحلة من التجدد الهيكلي العميق، كما هو حال الرأسمالية عادة في مراحل أزماتها المديدة. رأس المال الاحتكاري كان يسعى إلى الخروج من الأزمة بثلاثة اتجاهات: التحديث التكنولوجي والهيكلي، وتصعيد سباق التسلح، وتشديد الآليات الإقتصادية لنهب العالم الثالث. الأزمة الرأسمالية كانت تعني فائضا في تراكم رأس المال الاحتكاري.
شكل ذلك ضغطا اضافيا على الاقتصاد السوفييتي، اقتصادت حلفائه في شرق اوروبا. ولكن التطور الأخطر الذي أدى اليه هو التحول في ميزان القوى الدولي لغير صالح السوفييت. فحركة عد الانحياز التي كانت عنصر توازن لصالحهم، دخلت في أزمة عميقة، وتلاشى تدريجيا مضمونها المعادي للامبريالية، وتعززت داخلها الاتجاهات المعادية للسوفييت.
وكان تحدي حرب النجوم الذي قذفه ريغان بزجه السوفييت. الخلاف الصيني – السوفييتي كان يزيد من وطأة هذا التحول في ميزان القوى الدولي، ومن اضعاف مواقع الاتحاد السوفييتي في اطار التوازن الدولي القائم. هذا الخلاف الذي بلغ درجة القطيعة في اواخر ستينيات القرن 20، تحول بسرعة في سبعينياته الى صراع قوى كبرى، ودخلت على خطه الامبريالية الاميركية لتغذيته، ومارست سياسة الانفتاح على الصين بهدف تحييد وزنها في التوازن الدولي القائم بين المعسكرين. وفي اواخر سبعينيات القرن 20 لم تعد المسألة تقتصر على التحييد، بل بلغ الصراع مستوى من التوتر العسكري، الذي القى على كاهل السوفييت عبئا اضافيا في سياق محاولتهم لحفظ التكافؤ الاستراتيجي الذي كان يشكل حجر الاساس في التوازن الدولي القائم.
الفصل الثالث: في ظل التوازن الدولي والحرب الباردة، تفاقم أزمة الانتقال الى الاشتراكية.
1- الأزمة، والتدهور الاقتصادي والحضاري.
التحولات التي كانت جارية في توازن القوى الدولي لغير صالح السوڤييت، رغم أنها لم تكن السبب في الأزمة الإقتصادية، كانت مع ذلك تغذيها بعوامل إضافية تسارع من تفاقمها. على رأس هذه العوامل كان العبء المتزايد لنفقات سباق التسلح، وخصوصا عندما بلغ هذا السباق ذروته بالإعلان عن البرنامج الأميركي لحرب النجوم. كان السباق يجري على قاعدة غير متكافئة من حيث انعكاساته على اقتصاد كل من البلدين. هناك أولا، الاختلاف النوعي في التأثير والوظيفة الاقتصادية للانفاق العسكري بين النظامين الاجتماعيين، حيث كان الانفاق العسكري عامل تنشيط للاقتصاد الاميركي الراكد، الذي يعاني من فيض التراكم في رأس المال، وعامل تحفيز لعملية التجديد التكنولوجي والهيكلي للبنية الرأسمالية، بينما هو في الاقتصاد السوفييتي عامل استنزاف للموارد وتبديد للفائض الاجتماعي. وثمة ثانيا، التفاوت الكبير في نسبة العبء الى الناتج القومي بين البلدين. والعامل الثاني كان ناجما عن تعميق التفاوت في شروط التبادل التجاري الدولي، والانخفاض الحاد في اسعار المواد الأولية في السوق العالمية خلال ثمانينيات القرن 20. المواد الأولية كالنفط والغاز والخشب والمعادن، بالاضافة الى الذهب كانت ما تزال تشكل من 60% من الصادرات السوفييتية. وأدى انخفاض اسعار هذه المواد الى خلل متفاقم في الميزان التجاري مع العالم الرأسمالي، حيث لم يكن بالامكان تعويضه بزيادة تصدير السلع المصنعة بسبب رداءة نوعيتها وتدني قدرتها التنافسية في السوق الدولية.
ان النقلة المطلوبة لدفع مسيرة التطور الاقتصادي كانت تتطلب الارتقاء بمعدل زيادة انتاجية العمل، ولكن التخلف عن الاستجابة للاستحقاقات السياسية والاجتماعية لهذه النقلة، ادى الى تدهور على هذا الصعيد أيضا.
أين يكمن السبب في هذا التدهور الاقتصادي؟
ثمة فارقا جوهريا بين الأزمة الإقتصادية في الإتحاد السوڤييتي حينذاك وبين الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي. إن المظهر الرئيسي الأبرز للأزمة السوڤييتية هو التناقض بين تدني قدرة الاقتصاد على إنتاج سلع وخدمات الاستهلاك الشعبي، وبين تنامي الحاجات الاستهلاكية والقدرة الشرائية للسكان. أما الأزمة الرأسمالية فتميزها ظاهرة معاكسة: فيض الإنتاج بالمقارنة مع سعة السوق. والأزمة الإقتصادية السوڤييتية تجد سببها المباشر في التدني النسبي للموارد المتاحة للإستثمار، بينما تعود الأزمة الرأسمالية إلى التراكم الفائض في رأس المال، مقابل تدني معدل الربح الذي يثبط الاستثمار.
من الزاوية الاقتصادية التقنية، يمكن تفسير أسباب التدهور في نسب النمو باعادتها الى الزيادة المضطردة في حجم الاستثمار الضروري من اجل الحصول على نسبة محددة من النمو في الناتج المادي.
وفي تقرير امام اللجنة المركزية في حزيان 1985، يحدد غورباتشوف المعضلات الرئيسية التي تعطل نمو الاقتصاد السوفييتي، بما يلي: التخلف التكنولوجي، رداءة نوعية العديد من المنتجات الصناعية، عدم التوازن في التخطيط، الهدر المزمن للطاقة والمواد الخام، والمردود المتدني بالمقارنة مع مستويات عالية من الاستثمار.
هذا التدهور الاقتصادي، أدى الى وترافق مع تدهور شامل في مجالات الحياة الثقافية والحضارية والاجتماعية. وكان من ابرز علامات هذا التدهور تسارع التخلف التكنولوجي واتساع الفجوة التكنولوجية بين الاتحاد السوفييتي والغرب الامبريالي.
الى جانب التدهور التكنولوجي كان التدهور الحضاري يتفاقم، كما أن التفاوت الاجتماعي في الأجور والثروات، ازداد تفاقما بدوره.
2- الأزمة، وانعكاساتها في الأيديولوجيا الرسمية.
الأيديولوجيا الرسمية، التي تطورت خلال ستينيات وسبعينيات القرن 20، لتتخذ شكل منظومة متكاملة من الموضوعات والنظريات التي تعالج كافة قضايا الثورة العالمية، كانت ترتكز في رؤيتها وتحليلها للوضع الدولي، كما أسلفنا، إلى فكرة جوهرية شكلت حجر الأساس لبنيانها، هي فكرة «المباراة بين النظامين العالميين» بصفتها العامل الرئيسي المحرك لتقدم وانتصار الاشتراكية على نظاق دولي.
هذه المنظومة الايديولوجية، باعلانها الاتحاد السوفييتي، كدولة، طليعة قائدة للتحول الثوري في العالم، كان لابد أن تستكمل برؤية شاملة لوظائف وأدوار القوى الرئيسية في الحركة الثورية العالمية: حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتطورة، وحركة التحرر الوطني في البلدان النامية. وهذه الرؤية لم تكن مستمدة كما هو واضح، من تحليل لواقع العالم الرأسمالي وتناقضاته، بل كانت مشتقة من موضوعة «المباراة بين النظامين» ومن متطلبات استراتيجية الحفاظ على التوازن الدولي.
في البلدان المتطورة وجد هذا الاشتقاق غلافه الايديولوجي في نظرية «الانتقال البرلماني الى الاشتراكية» بما ينطوي عليه من اقتراب ملموس من المنظور الاصلاحي للاشتراكية – الديمقراطية، ومن ابتعاد مناظر عن المفهوم الاشتراكي العلمي للدولة.
ويكمن جوهر هذه النظرية، ليس في كونها تعترف بامكانية الانتقال السلمي الى الاشتراكية عبر البرلمان، فهذه الامكانية لا يستبعدها ماركس وانجلز منذ القرن ال 19، بل في تجاهلها لضرورة احداث تغيير جذري في المضمون الطبقي لسلطة الدولة من اجل ضمان الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية، وتغاضيها عن دور الطبقة العاملة القيادي في هذه العملية.
وفي البدان النامية، كانت نظرية «طريق التطور اللارأسمالي» تلعب وظيفة مكملة. هذه النطرية كانت تبلغ الذروة في الوهم الأيديولوجي، وفي التناقض مع بديهيات المنهج الاشتراكي العلمي.
موضوعة المباراة بين النظامين العالميين، بعد أن شذبت تماما من مفاهيم الصراع الطبقي وتمحورت حول المنافسة الإقتصادية السلمية، نالت نصيبها من التصدع بعد أن بدأ السباق يتجه لصالح البلدان الرأسمالية المتطورة بفجوة متسعة باضطراد بفعل أزمة وجمود الاقتصاد السوفييتي. وتحت ضغط تسعير سباق التسلح، تحولت المباراة الى لهاث وراء الانفراج والوفاق الدولي بأي ثمن، وفتحت الطريق أمام نظرية غورباتشوف حول التعاون بين النظامين لحل المشاكل المشتركة للبشرية.
وازاء تفاقم المجتمع السوفييتي، وتعاظم شعور البيروقراطية بالحاجة إلى إصلاح نظامها وترميمه، جرى بهدوء طي يافطة «الاشتراكية المتطورة» واستبدالها بعبارة «الإشتراكية القائمة بالفعل»، التي حافظت على مظهر التمسك بالماركسية – اللينينية، واللجوء الانتقائي إلى عباراتها ومصطلحاتها، ولكنها في الجوهر تعبير عن الأزمة الأيديولوجية التي كانت تغرق فيها البيروقراطية الحاكمة، بقدر ما تتعمق أزمتها الإجتماعية ويكشف التاريخ طبيعتها الإنتقالية التي استنفذت وظائفها. ولقد كان مضمون هذه الأيديولوجيا يمعن في الابتعاد عن منهج الإشتراكية العلمية، بقدر ما كانت البيروقراطية، محكومة بمصالحها، تسير على طريق الإنفصال المادي والإجتماعي عن الطبقة العاملة.
3- الأزمة، وتفاقم السمة الطفيلية للبيروقراطية، وانفصالها التدريجي عن الطبقة العاملة والمجتمع.
تفاقم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية العامة كان يسير بالتفاعل الجدلي مع تعاظم السمات الطفيلية للشريحة البيروقراطية الحاكمة، وتراكم إمتيازاتها، وتفشي الفساد والتفسخ في صفوفها. هذه السمات الطفيلية كانت تنبثق في الأصل من انتفاء الحاجة إلى الوظيفة التي تلعبها البيروقراطية في مجتمع ودولة الإنتقال إلى الإشتراكية، من استنفاذ دورها التاريخي، وتحولها إلى زائدة إجتماعية فائضة. وكان هذا يقود إلى تسارع تفسخها، وإلى سعيها الدائب لزيادة ومراكمة إمتيازاتها الإجتماعية، وثرواتها الشخصية. وأدى هذا إلى تفاقم التفاوت بين دخولها ومستوى معيشتها، وبين معدل الدخل ومستوى المعيشة السائد في المجتمع، وذلك عبر قنوات ووسائل مختلفة.
أول هذه الوسائل، هي الامتيازات الرسمية المعلنة التي توفرها الدولة، وخصوصا لفئاتها العليا. هذه الفئة العليا للبيروقراطية، التي تضم كبار مسؤولي الحزب وأجهزة الدولة على الصعيدين المركزي والمحلي ومدراء المؤسسات الانتاجية والكولخوزية الكبيرة وقطاع متميز من الانتلجنتسيا والتكنوقراط.
ثاني تلك القنوات، هو الانخراط في نشاطات اقتصاد الظل الذي كان يجتذب قطاعات متسعة باضطراد من المراتب الدنيا والوسطى للبيروقراطية.
ثالث تلك القنوات، هو الفساد والنهب غير المشروع لموارد الدولة الذي اتسع في غياب الديمقراطية والرقابة الجماهيرية، حتى بات يكتسب أبعادا هائلة، ويتفشى تدريجيا نحو قمة الهرم البيروقراطي.
فترة عهد الجمود شهدت أيضا، استكمالا للتحول النوعي في البنية الاجتماعية للحزب الحاكم والغلبة الساحقة للبيروقراطية على تكوينه.
لم يعد اعضاء الحزب المنغرسون في جسم الطبقة العاملة يشكلون سوى 4% من الحجم الاجمالي للطبقة، اما وزنهم داخل الحزب فلا يتجاوز خمس العضوية الاجمالية. هذا التحول في بنية الحزب الاجتماعية كان واحدا من أبرز علامات عملية انفصال البيروقراطية، كشريحة اجتماعية حاكمة، عن جسم الطبقة العاملة، وبالتالي انفصال فئاتها العليا وعزلتها عن المجتمع.
الفصل الرابع: البيريسترويكا وانتصار الردَة.
1- فشل البيريسترويكا.
كانت الأزمة الإقتصادية قد بدأت تتحول إلى ضائقة اقتصادية، وتنعكس بحدة على مستوى معيشة السكان وعلى قدرة البلاد الدفاعية وتغرقها في الديون. والشعور الإجماعي بضرورة التغيير الذي ساد صفوف البيروقراطية الحاكمة، والتخوف من مغبة انتشار التذمر والاستياء بين صفوف جماهير العمال، كان العامل الظاهري المباشر وراء إطلاق سياسة إعادة البناء (البيريسترويكا)، التي اعتمدت سياسة رسمية للحزب في المؤتمر السابع والعشرين المنعقد في مطلع 1968. إنطوى برنامج البيريسترويكا، كما أقره المؤتمر، على تشخيص نقدي، صحيح اجمالا، لمظاهر الخلل التي كانت تعترض نمو الاقتصاد وتطور المجتمع، ولكن هذا التشخيص كان يقتصر على نقد مظاهر الخلل دون تحليل جوهرها الإجتماعي وأسبابها الكامنة.
الهدف الذي حدده برنامج البيريسترويكا، كما تبلور في النصف الثاني من عام 1985، هو تحديث الاقتصاد ورفع معدل الانتاجية، بما يمكن من استئناف النمو على قاعدة تخفيض حجم الاستثمار، والاقتصاد في استغلال الموارد. لكن الوسائل التي اقترحت لانجاز هذا الهدف كانت متواضعة، وقاصرة وغير واقعية: التوسع في استخدام وسائل تكنولوجيا المعلومات والأتمتة والالكترونيات والكيمياء الحيوية، عقلنة الاستثمار والتوفير في استخدام المعدات والخامات والطاقة عبر تقليص الطلب على مزيد من الاستثمارات من أجل تنفيذ أهداف الخطة، ورأينا كيف يتناقض هذا المسعى مع نمط الادارة البيروقراطي والمصالح التي تتولد عنه، ما يجعله غير واقعي.
حقيقة البيريسترويكا كانت تنطوي في الواقع على تناقض وصراع بين مفهومين، وبالتالي بين قوتين اجتماعيتين، احداهما تريد «اقتصاد سوق اشتراكي» للخروج من المأزق، والأخرى تريد «اشتراكية السوق» كمرحلة مؤقتة على طريق الارتداد الى الرأسمالية. وفي الواقع كانت البيريسترويكا، كما صيغت في مراحلها المبكرة، صفقة مؤقتة بين القوتين، ولكنها صفقة راجحة لصالح القوة الثانية، القوة الدافعة باتجاه التحول الرأسمالي والتي كانت شعارات «إشتراكية السوق» بالنسبة لها مجرد برنامج مرحلي، أي مطلبا انتقاليا تتستر وراءه لاكتساب مزيد من مواقع القوة في الصراع وتأمين شروط انقضاضها على نظام الملكية العامة بأسره.
ولذلك كان استبشارهم عظيما البيريسترويكا، وعظيما كان اندفاعهم لتشجيعها ودفع مسارها حتى نهايته المنطقية، حتى انتصار قوى الردَة، وخبثية أيضا كانت الوسائل التي استخدموها، بمزيج من الضغط والاغراء والتدخل المباشر لدعم قوى الردَة من أجل المساعدة على الوصول بالعملية الى هذه النهاية.
2- «التفكير السياسي الجديد»، «وحدة العالم»، «الغلاسنوست».
كان هذا يملي إعادة نظر جذرية في أولويات السياسة الخارجية. وهكذا اصطحبت ولادة البيريسترويكا بولادة «التفكير السياسي الجديد». وكان هذا «التفكير» ينطوي على تشذيب نظرية «المباراة بين النظامين» من آخر مفاهيم التنافس والمجابهة، والإستعاضة عنها بالدعوات المتهالكة إلى الانفراج والتعاون بين المعسكرين لحل المشاكل المشتركة للبشرية.
وتبريرا لهذه الدعوة اخترعت الايديولوجيا الرسمية مفهوم «وحدة العالم» وأولوية القضايا الكونية، والمعضلات المشتركة التي ينبغي تغليب التعاون من أجل حلها على أية تناقضات طبقية، أو صراعات بين الدول.
الى جانب «اعادة البناء الاقتصادي» و»التفكير السياسي الجديد»، كانت «الغلاسنوست» (العلانية أو الشفافية) هي الركيزة الثالثة التي أنتجتها البيريسترويكا في سياق تطورها اللاحق الذي كانت تمليه، وتدفعه بسرعة، قوانينه الموضوعية الخاصة المنبثقة – بغض النظر عن نوايا وتمنيات القادة – من منطق الصراع المتفاقم بين القوى الاجتماعية التي كانت وراء اطلاق العملية، وهو منطق كان يميل باضطراد لصالح ترجيح كفة قوى الردَة وتمكينها – بسرعة مذهلة من نسف أسس الصفقة الهشة المؤقتة، التي بدأت بها العملية في مراحلها المبكرة بما يشبه الاجماع الظاهري.
البعض يرى ان الغلاسنوست كانت خيارا لجأ اليه غورباتشوف بهدف التغلب على مقاومة «الاتجاه المحافظ» في الحزب.
البعض الآخر يرى انها كانت، بالعكس وسيلة لجأة اليها نخبة النومنكلاتورا (الفئة البيروقراطية العليا) من أجل كسر حواجز العزلة والغربة عن المجتمع التي كانت تحيطها بها مراتب البيروقراطية الوسطى، بعد أن بلغت تلك الحواجز حدا جعلت من المستحيل على النخبة أن تواصل ممارسة الحكم لمجتمع باتت جاهلة تماما بخفاياه، وعاجزة عن معرفة الحقيقة عما يدور فيه.
البعض الثالث، أن الغلاسنوست بحرياتها النسبية كانت رشوة تقدمها البيروقراطية، بشخص غورباتشوف الى العمال الفلاحين بهدف تيسير عملية تبليعهم برشاقة التقشف ورفع الأسعار وتخفيض مستوى المعيشة التي كانت تتطلبها اعادة البناؤ الاقتصادي.
وأخيرا البعض الرابع، ومن عداده غورباتشوف نفسه، يفسر الغلاسنوست بأنها ضرورة تتطلبها عملية التحديث الاقتصادي التي لا يمكن أن تشق طريقها الا بتوفر «الشفافية». ويقدم منظرو الردَة «الراديكاليون» نفس التفسير بلغتهم الخاصة حين يعتبرون أن «لبرلة» الاقتصاد وادخال آليات السوق تفترض بالضرورة لبرلة الحياة السياسية.
3- البيريسترويكا في المجال الاقتصادي.
في المجال الإقتصادي، عدا عن وقف انشاء مؤسسات جديدة والتركيز على تحديث المؤسسات القائمة، كانت إجراءات البيريسترويكا وخطواتها العملية محدودة ومتعثرة، ومصحوبة بصراع عنيف على كل خطوة. وكانت الخطوات الأولى تتعلق عمليا بتشريع إقتصاد الظل، وتشريع النشاط الفردي والتعاوني الخاص في مجالات وضمن حدود معينة في البداية.
كان تشريع إقتصاد الظل وترسيم نشاط القطاع الخاص في الحرف والخدمات والتجارة الى جانب الزراعة انجازا بشكل خاص للمراتب الوسطى من البيروقراطية، التي كانت تتطلع بحقد وغيرة إلى الإمتيازات والتسهيلات الواسعة والباذخة التي تتمتع بها الفئة العليا، بينما هي تضطر إلى قضاء الوقت الثمين وبذل الجهد المضني من أجل تأمين حاجياتها الاستهلاكية الترفية المتنامية، والتي يؤهلها لها دخلها المرتفع، من خلال شبكات السوق في السوداء، وغيرها من النشاطات المكلفة والمذلة.
الى جانب الزراعة الكولخوزية التي استمرت أزمتها تتفاقم، بل ازدادت تفاقما بسبب إنصراف الفلاحين إلى تطوير استثماراتهم الخاصة التي أصبحت مربحة أكثر بفضل الإصلاحات الإقتصادية الجديدة، كانت المعضلة الحقيقية للإقتصاد تكمن في تحديث وتنشيط مؤسسات الإنتاج الكبير المملوكة للدولة. وفي هذا الميدان كان الحل الذي جاءت به البيريسترويكا يتمثل في توسيع نطاق استقلالية المؤسسات، واعتماد مبدأ الربحية والحساب الإقتصادي.
ولذلك، كانت معركة تحرير الأسعار هي المعركة الحقيقية التي بدأ من خلالها التمايز الإجتماعي في سياق البيريسترويكا يدفع إلى اصطفافات جديدة. فضجيج التكنوقراط والإنتلجنتسيا المترفة والبيروقراطية الوسطى ومدراء المؤسسات كان يرتفع بلا انقطاع في الصحف ووسائل الإعلام وفي دهاليز السلطة ومنابرها، مطالبا بتحرير شامل للاسعار، وبالتحول السريع إلى «اقتصاد السوق».
هذا التطور في مسار البيريسترويكا، الذي كانت معركة الأسعار عنوانه وحافزه، بدأ يوقظ الطبقة العاملة، ولو بشكل بطيء ومبعثر ومليء بالتشويش الأيديولوجي، ويحفزها نحو التحرك وتقديم مطالبها الخاصة. وإذا كانت آثار حالة الإستلاب ما تزال تخيم وتحول دون بلورة برنامج إنقاذي عمالي متميز، فلقد بدأت بواكير اليقظة العمالية تتركز، من جهة، على صون المكتسبات والضمانات الإجتماعية التي يوفرها نظام الملكية العامة، بما فيها تثبيت أسعار المواد الأساسية والسكن، ومن جهة أخرى، على المطالب المتعلقة بدمقرطة علاقات الإنتاج داخل المؤسسات.
كانت مقترحات منظري الردّة «الراديكاليين» تطرح أفكار تحويل المؤسسات المؤممة إلى شركات مساهمة تطرح أسهمها، أو قسم من هذه الأسهم، للإكتتاب. ومن أجل تغليف هذه الفكرة المسمومة بغلاف شعبوي، واستثمارها لبلبلة وتقسيم العمال وتشويه وعيهم، كانت هذه المقترحات تقترن أحيانا بالحديث عن منح العاملين في المؤسسة الأولوية في حق تملك أسهمها المطروحة للإكتتاب. ولقيت هذه الافكار استجابة لدى الجناح الغورباتشوفي من النومنكلاتورا الذي أصبح، رغم عباراته الشيوعية المنمقة، مفتونا بالفكرة التالية: الملكية الخاصة هي الحافز الرئيسي لتطوير الانتاج.
لعبت هذه الفكرة دورا في بلبلة قطاعات من الطبقة العاملة وتقسيمها وصرفها عن التركيز على مطلب الإدارة العمالية الجماعية المنتخبة. فقد كان من الصعب، في غياب المعلومات والوعي الكافي، أن يدرك العمال أن «الأولوية» في تملك الأسهم، حتى لو أعطيت، لهم نظريا، فإن الاستفادة الفعلية منها كانت تتطلب توفر القدرة على الشراء. وهي قدرة كانت بالنسبة لمعظم العمال محدودة. بينما هي كانت متوفرة، بل وفائضة، لدى مكتنزي الثروات من البيروقراطيين الطامحين للتحول الرأسمالي وحلفائهم أرباب القطاع الخاص.
لقد وصلت عملية مركمة الثروات لدى أغنياء البيروقراطية وأرباب القطاع الخاص الى هذا المستوى من النضج. وفي ضوء ذلك يصبح واضحا من الذي يستفيد فعلا من الاقتراحات بشأن طرح أسهم المؤسسات المؤممة للاكتتاب. وهي مقترحات بدأ تنفيذها فعلا من قبل الدولة، رغم معارضة من يسمونهم بالمحافظين، تحت ضغط العجز المتفاقم في موازنة الدولة.
4- اما الردّة، أو التقدم نحو الديمقراطية العمالية.
هذه اللوحة المكثفة لخطوات وإجراءات البيريسترويكا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تعطينا صورة أعمق وأكثر وضوحا عن مغزاها وما تنطوي عليه من تناقضات، وعن المضمون الإجتماعي للقوى التي كانت تتصارع في سياقها من الزاوية الاقتصادية كان التناقض يبرز كما لو كان متأصلا في نظام الملكية العامة والتخطيط المركزي. ولكنه في الجوهر كان تناقضا بيبن نظام الملكية العامة والتخطيط من جهة، وبين الادارة البيروقراطية للاقتصاد، من جهة أخرى.
لقد تفاقم هذا التناقض الى درجة لم يعد فيها يحتمل الحلول الوسط، أو التسويات المؤقتة. وأصبح لا بد من حله جذريا بأحد اتجاهين: اما بالارتداد الى الرأسمالية، وهو حل كان يعني قفزة كبيرة الى الوراء، ولكنه يستجيب لمصالح قوى اجتماعية نافذة داخل النظام، واما بالانتقال الى الديمقراطية العمالية، باعادة سلطة التصرف بوسائل الانتاج الى مالكيها الحقيقيين، وهو الحل الوحيد الذي كان يمكن أن يدفع بمسيرة المجتمع والتطور الاقتصادي الى الأمام.
إن توفير حافز المبادرة الخاصة يتطلب أحد الحلين: إما إعادة سلطة التصرف بوسائل الإنتاج إلى مالكيها الحقيقيين، إلى العمال المنظمين ديمقراطيا، ليديروها بشكل جماعي، وبذلك ينتهي الوضع الإنتقالي، الذي يبرز تناقضا بين نمط المليكة وسلطة الإدارة؛ وإما تصفية نظام الملكية العامة، وتحويل المؤسسات إلى ملكية خاصة لمدرائها البيروقراطين المتحولين رأسماليين وحلفائهم أرباب القطاع الخاص ذوي الثروات المتراكمة في البنوك. هذه هي النتيجة التي توصل إليها، وقد أوصلت إليها بالفعل، التنظيرات المضللة حول «إشتراكية السوق». ولكن هذا الحل الأخير كانت له شروطه السياسية – الإجتماعية. لقد كان يتطلب ثورة مضادة إجتماعية.
هذه الثورة المضادة وقعت فعلا في النصف الثاني من 1991، بعد خمس سنوات من الصراع المرير تحت مظلة البيريسترويكا، وكانت قواها المحركة من قلب البيروقراطية الحاكمة، ومن داخل نظامها. في سياق هذا الصراع المرير عبَر التناقض عن نفسه بتغيرات حادة في اصطفافات القوى الإجتماعية المتصارعة وفقا لتناقض أو تقاطع مصالحها. في اطار الفئة العليا من البيروقراطية (النومنكلاتورا) التي كانت ما تزال في البداية تمسك بمركز القرار، كان يمكن بوضوح تمييز ثلاث نزعات:
النزعة الاولى، تتمثل بالاتجاه الغورباتشوفي الذي كان يحمل مشروع بيروستريكا مقننة تقدم بديلا بيروقراطيا للاستحقاق التاريخي المتمثل بتحديث الاقتصاد، ودخول عصر التكنولوجيا المتقدمة والتكثيف العمودي للصناعة والانتاج الجماهيري لسلع الاستهلاك. وكان هذا المشروع يطمح الى اصلاح النظام وترميمه، بما يمكنه من الاستجابة لهذا الاستحقاق، ولكن دون المساس بأسس سيطرة البيروقراطية وسلطتها.
النزعة الثانية، في قمة النظام كانت تتمثل بالاتجاه المحافظ، الذي يتميز عن مسار البيريسترويكا ويخرج على اجماعها منذ أن بدأ بسياسة الغلاسنوست. وجوهر اهتمامات هذا الاتجاه، كانت تتمحور حول الحفاظ على امتيازات النومنكلاتورا، التي كانت ترتبط بدورها باستمرار سيطرة البيروقراطية واحتكارها للسلطة.
النزعة الثالثة، في قمة النظام كانت تتمثل بما يسمى بالإتجاه «الراديكالي» الذي كان يمثل، ويستند إلى، الاختراق الذي حققته القوى الطامحة للتحول الرأسمالي داخل النومنكلاتورا. ومن الطبيعي أن هذا الاتجاه كان ضعيفا في البداية، وكان يستظل بالكامل بالاتجاه الغورباتشوڤي الأول. ذلك أن امتيازات النومنكلاتورا لم تكن توفر حافزا للطموح الى التحول الرأسمالي، سوى لعدد قليل نسبيا من عناصرها، وقطاعاتها، ممن كانوا يطمحون الى ارساء امتيازاتهم على قاعدة أكثر ثباتا بتحويل ثرواتهم المتراكمة إلى رأسمال.
هذه النزعات الثلاث في الفئة البيروقراطية العليا كانت تتقاطع وتتداخل مع اتجاهات القوى الاجتماعية الأخرى، ومع التغيير في اصطفافاتها وفقا لتطور مجرى الصراع. والقوى الاجتماعية الرئيسية المؤثرة في هذا المجرى.
تشكلت هكذا، نخب بيروقراطية قومية، أو مناطقية من عناصر البيروقراطية الوسطى المتحولة رأسماليا، والمندمجة مع أرباب القطاع الخاص على السمتوى المحلي، وباتت تتمتع بالنفوذ الرئيسي في مناطقها. وفي ظل سياسة الغلاسنوست وفرت هذه القوة لنفسها المناخ السياسي الملائم للائتلاف بين تكتلاتها والانتظام كتيار سياسي مؤتلف، ومتميز على مستوى الإتحاد ككل. وتعززت مواقع هذه القوة أكثر باعتماد سياسة التحرير الجزئي للأسعار.
رغم هذه البلبلة، كانت مؤشرات استفتاءات الرأي العام تشير الى معارضة جماهيرية واسعة للشعارات الرئيسية التي يرفعها الاتجاه الراديكالي المزعوم، وكذلك لسياسات الحكومة الغورباتشوفية. ففي استفتاء نشرته إحدى الصحف السوڤييتية، على سبيل المثال، بتاريخ 8/7/1990، عبّر 51% من الذين تم استفتاؤهم عن معارضتهم للتحول إلى اقتصاد السوق، وبلغت نسبة المؤيدين لاقتصاد السوق 14% فقط، بينما لم يكن 35% قد شكل رأيا محددا بهذا الشأن.
نتائج البيريسترويكا، على الصعيد الإقتصادي، لم تفشل وحسب في دفع مسيرة الإقتصاد، وانتشاله من أزمته، بل لقد قادت بالعكس إلى تعميق الأزمة وتعجيل التدهور. وكان هذا منطقيا ومتوقعا. الزراعة كانت لا تزال تتخبط في أزمتها. إنتاج الحبوب إرتفع قليلاً الى 215 مليون طن في عام 1986، وحافظ تقريبا على هذا المستوى في السنوات اللاحقة، وهي كلها سنوات تميزت بمواسم ممتازة، ولكنه بقي رغم ذلك دون مستوى حاجة السكان التي تقدر بحوالي 250 مليون طن. وكان هذا يعني استمرار الاعتماد على الغرب الرأسمالي في استيراد الحبوب لتغطية النقص، وشكل سببا رئيسيا من أسباب تفاقم الدين الخارجي.
5- نتائج الردَة، بصفتها ثورة مضادة.
البيريسترويكا، التي حاولت ببرنامجها الغورباتشوڤي أن تبلور في الظاهر بديلا بيروقراطيا للإستحقاق التاريخي، الذي كان يتطلبه تطور الاقتصاد والمجتمع، إنتهت إلى فشل ذريع على الصعيد الإقتصادي، كما على جميع الصعد الأخرى، وكانت العامل المباشر لانهيار النظام وتفكك الإتحاد. فهي في الواقع كانت الصاعق المفجر للتناقضات الإجتماعية التي كانت تتفاعل وتتفاقم في ظل النظام البيروقراطي، بما في ذلك، داخل صفوف الشريحة البيروقراطية الحاكمة نفسها. وهي في الواقع كانت نتيجة لعملية التحول، ودلالة على الشوط البعيد الذي قطعته عملية التحول الطبقي للفئات العليا والوسطى من البيروقراطية، عملية انفصالها عن الطبقة العاملة، وانتقالها من موقع طبقي إلى آخر.البيريسترويكا كانت في الواقع الشوط الأخير من هذه العملية، وساهمت بدورها في تعجيل العملية وإيصالها إلى نهايتها.
إنتصار قوى الردة في الاتحاد السوفييتي كان ثورة مضادة اجتماعية، بكل المقاييس، وأدى إلى تحطيم مرتكزات الدولة بأكملها. وهذا يؤشر من جديد إلى أن البيروقراطية لم تكن طبقة حاكمة جديدة مستغلة، بل هي شريحة إجتماعية إنتقالية إنبثقت من بين صفوف الطبقة العاملة، وأقامت احتكارها للسلطة على قاعدة نظام الطبقة العاملة، نظام الملكية العامة والانتقال الى الاشتراكية، ثم بدأت تنفصل عنها تدريجيا في سياق عملية تمايزها الاجتماعي، كشريحة حاكمة، وتفاقم التناقضات داخلها وصولا الى انفجارها وتدمير النظام. ان استكمال عملية الانفصال والتحول الطبقي هذه وايصالها الى نهايتها، بتغيير نوعي للسمة الطبقية للدولة، لم يكن ممكنا بدون ثورة اجتماعية مضادة عنيفة، لم تقتصر نتائجها على تغيير مجموعة حاكمة بأكملها، بل انطوت على تدمير أسس النظام السابق بأكمله، أسسه الاجتماعية، الى جانب بنيته السياسية – الدستورية.
انتصار الردّة كان يعني قطع مسيرة الانتقال الى الاشتراكية، وانهاء الطابع السوفييتي (العمالي المشوه) لسلطة الدولة، ونقل السلطة الى القوى الاجتماعية المتبرجزة التي تسعى بكل قواها، بدعم من رأس المال الاحتكاري العالمي، الى التصفية المادية لنظام الملكية العامة لوسائل الانتاج، بعد أن ألغته دستوريا وسياسيا. ان انتصار الردّة لم يقد الى الخروج من أزمة المجتمع، بل لقد أدى بالعكس الى تعميقها، وهو أضاف الى عواملها السابقة المتفاقمة عاملا مدمرا جديدا، هو تفكيك الاتحاد والتقطيع القسري لصلات التكامل الاقتصادي الموضوعية التي تربط بين أطرافه.
ان انتصار الردّة لم يقد ايضا الى حل معضلة الديمقراطية، رغم المتاجرة المتواصلة بالشعارات الليبريالية، ان محاولات فرض الدكتاتورية الرئاسية في روسيا، واللجوء المتكرر الى اعلان حالة الطوارئ وانتزاع صلاحيات استثنائية للحكومة في روسيا وبعض الجمهوريات الأخرى، والصراعات المسلحة على السلطة والانقلابات المتوالية في جمهوريات آسيا الوسطى والقفقاس، كلها دلالات على نمط «الديمقراطية» التي يزعم منظرو الردّة، ومعهم أبواق الدعاية الامبريالية، أنها قد انتصرت في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
ماذا عن الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية ؟
ان طبيعة الردّة بصفتها ثورة مضادة، تتجلى على نحو صارخ في المجال الإقتصادي – الإجتماعي الذي يشهد تدهورا على كل صعيد. إن سنتين كاملتين من حكم الردّة في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وأربع سنوات ونيف في بلدان أوروبا الشرقية، لم تنجح في تأمين استقرار الاقتصاد رغم الظروف السلمية الاستثنائية التي سادت في معظم هذه البلدان، وأكثرها تطورا، حيث لا حروب أهلية، ولا تدخلات عسكرية خارجية. وعلى العكس من ذلك، يزداد الاقتصاد تدهورا وتتفاقم المعضلات الإجتماعية، وتعم البطالة، وتتعثر عمليات التحول إلى الملكية الخاصة في قطاعات الإنتاج الرئيسية، وتتعمق التبعية لرأس المال الاحتكاري العالمي. إن هذا يوضح بالوقائع الملموسة أن عملية التحول المضاد باتجاه الرأسمالية لا تلبي حاجات المجتمع إلى التطور والتقدم والإزدهار، بل هي تعاكسها وتتناقض معها في واقع الحال، وتنطوي على تبديد وتدمير كبير للقوى المنتجة، وليس على احتجاز وعرقلة نموها فحسب.
ماذا اذن عن استمرار الردّة في التقدم الاجتماعي؟
عمليات تخصيص ملكية مؤسسات الدولة (أي تحويلها من ملكية عامة إلى ملكية خاصة)، تسير ببطء شديد، وتشق طريقها بتعثر محدثة عند كل خطوة دمارا اقتصاديا، وتصطدم هذه المحاولات بمقاومة إجتماعية من جانب الطبقة العاملة، والمراتب البيروقراطية الدنيا التي انضمت إليها عمليا في ظل الوضع الجديد. وحتى من جانب بعض مدراء المؤسسات الذين اكتشفوا أن الطموح إلى التحول الرأسمالي لم يكن سوى وهم مدمر. والمقاومة الإجتماعية المتزايدة لعمليات تخصيص الملكية هي ذات دلالة هامة. فهي تكشف عن التناقض الراهن بين القدرة العالية للطبقة العاملة للتعبير العفوي عن مصالحها، من جهة، وبين ضعف تعبيراتها السياسية وتدني وعيها السياسي لذاتها ومصالحها، من جهة أخرى.
إن عملية تخصيص الملكية، هي نهب مافيوي لملكية المجتمع بكل معنى الكلمة. وتحاول قوى الردّة القابضة على السلطة أن تخفي هذه الحقيقة وأن تضفي على عملية التخصيص طابعا شعبويا زائفا. ولذلك أطلقت برنامجاً يوزع بموجبه على كل مواطن روسي كوبون يخوله شراء أسهم في المؤسسات المطروحة للتخصيص بقيمة عشرة آلاف روبل، أي ما يوازي بالقيمة الحالية للروبل حوالي 15 دولار.
يبدو ذلك، وكأنه تنفيذ لنظرية مارغريت ثاتشر حول «الرأسمالية الشعبية» ويحاول أن يعطي الانطباع، بأن ملكية الدولة يجري تقسيمها على أفراد الشعب بالتساوي. ولذلك يحاط هذا البرنامج بحفاوة اعلامية مفتعلة داخل روسيا وخارجها. ولكن ليس من الصعب أن نكتشف أن هذا «التقسيم بالتساوي» ليس سوى خدعة مسرحية، أولا لأن الأغلبية الساحقة من السكان الذين يعيشون دون مستوى خط الفقر يفضلون أن يبيعوا هذه الكوبونات، أو الأسهم المقابلة لها، ليأكلوا بثمنها. والمافيات المحلية وغيلان رأس المال الأجنبي جاهزة للشراء عندما ترى ذلك مناسبا لمصلحتها.
حتى أنه في ألمانيا المتطورة التي تشكل مركز قدرات وخبرات رأس المال الإحتكاري الأوروبي، تشق عملية التخصيص طريقها بصعوبة وتحدث دمارا هائلا، ولا تنجح الا في قطاعات الصناعة الهامشية الأقل تمركزا وتطورا، بينما تعجز تمام عن شق طريقها في الصناعات الأساسية، وبقدر ما تنجح فهي تسبب تدميرا كارثيا للقوى المنتجة، وتلقي بملايين العمال إلى قارعة الطريق حيث تجري محاولة استيعاب بعضهم في مشاريع التطوير المؤقتة (شق الطرق وبناء المساكن)، أو في الخدمات غير المنتجة. إن الدلالة واضحة: فالرأسمالية العالمية تغص وتختنق، وهي تحاول عبثا ابتلاع منجزات مسيرة الانتقال الى الاشتراكية.
إن البيروقراطية الطفيلية المتبرجزة، لكي تتمكن من ممارسة نهبها المافيوي عبر النشاطات التجارية وسائر أشكال النشاط الطفيلي، لا تكتفي بتدمير الصناعة وإلحاق الخراب بمنجزات سبعين عاما من البناء والتطور، بل هي أيضا لا تتوزع عن، وانما في الواقع تتهالك على، بيع ممتلكات الشعب الروسي إلى غيلان رأس المال الاحتكاري العالمي وتحويل روسيا إلى مستعمرة تابعة خاضعة للإستعمار الجديد. إن الأمر لا يتعلق ببيع الدولة إلى الأجنبي. ولكن حتى هذه الخطة التي تراهن على التخصيص عبر اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، يتضح في الممارسة العملية أنها ليست سوى طموح وهمي يتعثر في التطبيق، باستثناء الاندفاع نحو الاستيلاء على بعض الثروات الطبيعية ذات الأهمية الاستراتيجية وبعض مجالات الصناعة الاستهلاكية الخفيفة المربحة.
ان رأس المال الاحتكاري العالمي يحجم عن الاستثمار رغم كل الاغراءات والتسهيلات والتنازلات التي تقدمها الحكومة لاجتذابه. وذلك طبيعي، فرأس المال الاحتكاري له أولوياته الخاصة، وهو يتحرك بدافع تحسين معدل الربح. ان رأس المال الاحتكاري الدولي ينتظر حتى تتدهور روسيا، وسائر البلدان «الاشراكية» السابقة، الى مستوى المكسيك وماليزيا حتى يندفع نحوها، لا لتطوير صناعاتها، بل لنهب ثرواتها وابتزاز فائض عمل عمالها وفلاحيها.
وهكذا تكتمل دائرة النتائج الكارثية التي قادت اليها الردَة: التدمير المأسوي للقوى المنتجة، إلحاق الخراب بالصناعة، التدهور المريع والتراجع المضطرد في الإنتاج، التضخم المفرط، تآكل مكتسبات المنتجين ودخولهم، إنتشار البطالة والفقر على أوسع نطاق، إستفحال النهب المافيوي الطفيلي، بيع الثروات الطبيعية إلى رأس المال الأجنبي، وكذلك أسواق الاستهلاك، والسقوط المتسارع في دوامة الحلقة المفرغة للتخلف والتبعية للإستعمار الجديد.
في المقابل، فإن محاولات التصفية المادية لنظام الملكية العامة تبرهن على صعوبتها، إن لم يكن إستحالتها، وعملية تخصيص الملكية تشق طريقها بتعثر في قطاعات الاقتصاد الثانوية وتحدث خرابا عند كل خطوة: إن الارتداد عن مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، ومحاولة التحول المضاد نحو الرأسمالية، لم تكن هي المخرج من المأزق، ولا هي الاستجابة المطلوبة لاستحقاقات التطور والتقدم والتحديث. إن استحقاقات النقلة المطلوبة لدفع مسيرة المجتمع إلى الأمام، هي استحقاقات توطيد نظام الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية وإرسائه على قاعدة متينة من الديمقراطية العمالية، وهذه الإستحقاقات مازالت ماثلة، ومطروحة على جدول أعمال القوى الثورية في الحركة العمالية وعموم القوى الديمقراطية المحبة للسلام، والساعية إلى التقدم الإجتماعي.
القسم الثالث
مسار التجربة السوفييتية
عوامل الانهيار والدروس المستخلصة
الفصل الأول: مسار التجربة السوفييتية وعوامل انهيارها.
ان أهمية تحليل التجربة السوفييتية، تحليلا علميا جادا يشكل مدخلا لاستخلاص درويها الحقّة، الدروس العلمية المشتقة من تحليل علمي للواقع، والتي تسلح الطبقة العاملة وحركتها الثورية بوعي أغنى وأكثر تطورا يرشدها الى سبل نضالية أكثر فعالية، واستراتيجيات أكثر دقة في المعارك الكبرى التي هي قادمة حتما.
وفيما يلي نتائج تحليل مسار تطور التجربة السوفييتية بمراحلها المختلفة على يد 19 موضوعة:
1- انتصرت ثورة أكتوبر في بلد رأسمالي متأخر يعاني من التخلف والتبعية، تخلفت بورجوازيته عن إنجاز مهام الثورة الديمقراطية بفعل رعبها من الانتفاضة الفلاحية، وبفعل وشائج التبعية التي تربطها بالرأسمال العالمي في حقبة دخلت فيها الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية، وتفجرت تناقضاتها. هذا التأخر كان يقود المجتمع إلى مأزق تاريخي ويهدد البلاد بالتفكك، وبمزيد من التبعية والسقوط فريسة للضواري الإمبريالية المتناحرة. المخرج كان الثورة الظافرة التي حملت الى السلطة تحالفا بين العمال والفلاحين بقيادة البروليتاريا الثورية، التي كان حزبها البلشفي قد تصلّب كحزب طليعي متمرس في سياق المعارك الطبقية الطاحنة التي شهدتها البلاد منذ مطلع القرن 20، وما تخللها من صراع أيديولوجي غني ومحتدم.
2- واجهت الثورة الظافرة مهاما سياسية واجتماعية ذات طبيعة مزدوجة ومتداخلة، مهام الثورتين الديمقراطية والاشتراكية معا: الثورة الديمقراطية، التي هي المغزى الإجتماعي الرئيسي للانتفاضة الفلاحية والمدخل الذي لا مفر منه للارتقاء بالمجتمع من حالة التبعية والتخلف إلى مستوى التطور المادي والحضاري الذي أحرزته الرأسمالية في مراكزها المتقدمة؛ ، التي هي تعبير عن مصلحة البروليتاريا الثورية الظافرة بالسلطة، على رأس الانتفاضة الفلاحية، أي مصلحتها في مباشرة مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية.
خطة لينين التي صاغها في الشهور الأولى للثورة، كانت تتصور تحولا تدريجيا نحو الاشتراكية عبر مرحلة انتقال مديدة يتخللها التعايش والصراع بين أنماط الانتاج والملكية الخمسة في مجتمع ما بعد الثورة وهي: 1- الاقتصاد الفلاحي البطريركي 2- الانتاج الفلاحي البضاعي الصغير 3- رأسمالية القطاع الخاص 4- رأسمالية الدولة 5- ملكية الدولة الاشتراكية.
3- في ظل التخلف الإقتصادي المتعمق بسبب دمار الحرب، أدى توزيع الأرض على الفلاحين مقترنا برداءة الموسم، إلى انخفاض حاد في فائض الانتاج الزراعي الموردَ الى المدن. وتحت تهديد المجاعة إضطرت السلطة السوڤييتية إلى سياسة مصادرة الفائض الزراعي. وقاد ذلك، إلى تصدع خطير في التحالف بين العمال والفلاحين. كما أن مقاومة الرأسماليين لنظام الرقابة العمالية في المصانع أدت إلى تعجيل نزع ملكياتهم وتأميمها. والضرورات القاهرة، التي فرضتها الحرب ضد الثورة المضادة والتدخل الأجنبي، أدت إلى وضع خطة الإنتقال اللينينية جانبا، والاستعاضة عنها بسياسة شيوعية الحرب التي أنتجت، لفترة وجيزة، وهما أيديولوجيا حول امكانية الانتقال المباشر الى الاشتراكية رغم التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
4- الدولة السوڤييتية، خلال السنة الأولى بعد الثورة، كانت ديمقراطية واسعة للعمال والفلاحين الذين يمارسون سلطة الدولة مباشرة للتغلب على مقاومة الرأسماليين وكبار الملاك. وهي تميزت بالتعددية الحزبية وضمان حق التنظيم وحرية الصحافة والعمل لجميع أحزاب العمال والفلاحين، وتشكيل الهيئات السوڤييتية بالإنتخاب الحر المباشر ووفق مبدأ التمثيل النسبي، وحق إنتخاب المندوبين والموظفين، واسترجاع تفاويضهم في أية لحظة، وتحديد رواتب المسؤولين ضمن سقف معدل الأجر، للعامل الماهر.
ولكن التصدع في العلاقة بين العمال والفلاحين، بين البلاشفة الذين يمنحونهم الأرض ويأخذون منهم الفائض، وبين الحراس البيض الذين يأخذون منهم الأرض والفائض معا. ميزان التذبذب كان في المحصلة لصالح البلاشفة ومكنهم من كسب الحرب، ولكن المسار المعقد للتذبذب أدى إلى تآكل الديمقراطية السوڤييتية.
وفي سياق الحرب الأهلية تحولت ديكتاتورية العمال والفلاحين، الديمقراطية الواسعة للأغلبية المستغلة التي تستخدم سلطة الدولة للتغلب على مقاومة الأقلية المستغلة، تحولت تدريجيا الى ديكتاتورية بروليتارية خالصة، في مجتمع تشكل فيه الطبقة العاملة أقلية بالنسبة لمجموع السكان، وهي نفسها بدأت تعاني من الانحلال الطبقي بفعل الخراب الذي حل بالصناعة
5- انتصرت ثورة أكتوبر في الحرب ضد الحراس البيض والمتدخلين الإمبرياليين. ولكن الدمار الذي أحدثته الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، وقبلهما معارك الحرب العالمية الأولى، زاد من وطأة التخلف الذي يعاني منها المجتمع الروسي. وفي ظروف الحصار السياسي والإقتصادي الإمبريالي، كان على الثورة أن تنتشل البلاد من الخراب والتخلف، وأن تنهض بمهماتها المزدوجة لدفع مسيرة التطور الإقتصادي – الإجتماعي، والإنتقال إلى الإشتراكية.
الطور الأول من عملية الإنتقال إلى الإشتراكية كان يتطلب التركيز على إنجاز التراكم الضروري للنهوض بقوى الإنتاج إلى المستوى الذي أحرزته الرأسمالية في مراكزها المتطورة. وإنجاز التراكم كان يتطلب اقتطاع نسبة كبيرة من فائض العمل الإجتماعي وتخصيصها للنهوض بمستوى تطور القوى المنتجة.
إنهاء سياسة شيوعية الحرب، وإحياء الخطة اللينينية للإنتقال التدريجي إلى الإشتراكية، التي تبلورت بعد الحرب الأهلية فيما عرف بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب/NEP)، ساعد على إنهاض الزراعة وإعادة تشغيل الصناعة، ولكنه كان ينطوي على إنعاش الرأسمالية التي تتولد دوما من الإنتاج البضاعي الصغير، ويضعف بالتالي القاعدة الإجتماعية للسلطة العمالية،فضلا عن كونه لم يقدم حلا جذريا لمعضلة الفائض الضروري من أجل التصنيع.
بفعل هذه التناقضات دخل مجتمع الإنتقال إلى مأزق تاريخي يحتجز تطوره ويهدد الدور القيادي للطبقة العاملة في السلطة، الدور الذي هو الشرط السياسي – الإجتماعي الضروري من أجل إفلات المجتمع من الدائرة المفرغة للتخلف والتبعية في ظل قانون التطور المتفاوت الذي يحكم العالم الرأسمالي في حقبة الامبريالية.
6- هذا المأزق التاريخي لم يكن ثمة من سبيل لكسر حلقته المفرغة سوى بانفصال الدولة واستقلالها النسبي عن المصالح الطبقية المباشرة التي تمثلها. وكان هذا يعني الانتقال من دكتاتورية الطبقة العاملة إلى دكتاتورية حزبها الطليعي الذي يجسد مصالحها النهائية، ويمارس السلطة مؤقتا نيابة عنها بهدف تأمين تلك المصالح، وهو الانتقال الذي بات ضرورة موضوعية مرحلية يتطلبها دفع مسيرة تطور المجتمع قدما، وضرورة ملحة تمليها مؤقتا الحاجة إلى صون الدور القيادي للبروليتاريا في ظل عملية إنحلالها الطبقي، وفي ظروف إنتعاش الرأسمالية الذي تولده سياسة النيب.
7- إستنفذت سياسة النيب وظيفتها، وبدأت تؤدي إلى نتائج معاكسة: فالفجوة المتسعة بين أسعار المواد الغذائية المنخفضة وبين ارتفاع أسعار السلع المصنعة، كانت تدفع الفلاحين مجددا إلى تخزين الفائض. ولم تنجح هذه الفجوة في حل معضلة التراكم الضروري للتصنيع. وقاد ذلك مجددا إلى تفاقم تناقضات مجتمع الإنتقال وارتطامه بمأزقه في ظروف كانت فيها الإمبريالية، وقد بلغت مرحلة الانتعاش الرأسمالي المؤقت في أواسط عشرينيات القرن 20 ذروتها، قد أخذت تقرع طبول الحرب وتشدد الحصار.
في المقابل، كانت خطة التصنيع تتقدم بوتائر عالية وتنجح في مضاعفة الإنتاج الصناعي مرتين خلال بضع سنوات. وأدى هذا بدوره إلى إغراق الطبقة العاملة بدفق غير مستقر من العمال الجدد الذين تتم تعبئتهم وتنظيمهم للإنتاج بوسائل تكريس الحاجة إلى نمط الإدارة البيروقراطي. ونتج عن ذلك تغير سريع في بنية الطبقة العاملة وتحول في نسبة القوى الإجتماعية داخلها، لغير صالح نواتها الطليعية المستقرة في الصناعات الموروثة عن العهد القيصري. ونجم عن ذلك التسييد الشامل لنظام «إدارة الرجل الواحد» المعيّن من الدولة، الغاء المساواتية وادخال نظام الأجور التفاضلي، الذي شكل ستارا لبدء بروز الامتيازات الاجتماعية للبيروقراطية. وأدى ذلك أيضا، الى تعزيز مواقع الهيمنة البيروقراطية في المجتمع.
8- ان البيروقراطية التي نمت وكرّست نفوذها داخل جهاز الدولة، واستوعبت أغلبية الجهاز الحزبي المكلف بإدارة عمل الدولة، ثم بسطت هيمنتها على الريف عبر عملية التجميع، وعلى الصناعة بفضل تسارع وتائر التصنيع، أصبحت جاهزة للسيطرة على الحزب وتحويله إلى أداة لسلطتها.
كان التحول التدريجي في البنية الإجتماعية للحزب، الذي أصبحت العناصر غير البروليتارية تشكل نسبة هامة في صفوفه، يوفر التربة المناسبة لهذه النقلة.
وفي أجواء هستيرية يولدها تفاقم تهديد الحرب الشاملة ضد الإتحاد السوڤييتي، جرت حملة التطهير الستالينية في صفوف الحزب والدولة (1937 – 1938) التي تم في سياقها تصفية الأغلبية من أعضاء مؤتمر الحزب ولجنته المركزية، وصف واسع من كوادره البلشفية القديمة المنغرسة في صفوف البروليتاريا.
بهذه الحملة، استكمل تحول الحزب من طليعة للبروليتاريا إلى أداة لتنظيم البيروقراطية وتعزيز هيمنتها على المجتمع والدولة. واستكمل تحول دكتاتورية الطليعة البروليتارية إلى دكتاتورية بيروقراطية.
وبلغ هذا التطور ذروته بالإعلان الأيديولوجي (1939) عن استكمال انجاز مرحلة الإنتقال، وبدء مرحلة توطيد المجتمع الإشتراكي، وهو إعلان يناقض الواقع، ولكنه يؤدي وظيفة محددة في تشويه وعي الطبقة العاملة، وإخضاعها للإستلاب الأيديولوجي، وفي خدمة مصلحة البيروقراطية في تكريس نظامها الشمولي للسيطرة على المجتمع، وتبرير إحتكارها لسلطة الدولة وعبرها لسلطة التصرف بوسائل الإنتاج التي باتت ملكية عامة، والتحكم بتخصيص وتوزيع الفائض الإجتماعي.
9- البيروقراطية شريحة إجتماعية متميزة، تنبثق من بين صفوف الطبقة العاملة، وتنمو بفعل تخلف المجتمع، والتناقضات التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية في مراحلها المبكرة. وهي تقيم سلطتها على قاعدة نظام الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية، الذي هو أيضا الأساس الإجتماعي لسلطة الطبقة العاملة، والذي يحدد المضمون الطبقي للدولة السوڤييتية بصفتها دولة عمالية، رغم بقرطتها.
إن احتكار البيروقراطية للسلطة السياسية في الدولة العمالية يعزز انفرادها، كشريحة إجتماعية، بسلطة التصرف بوسائل الإنتاج الرئيسية التي باتت ملكية عامة للمجتمع موكلة انتقاليا بيد الدولة، حيث ملكية الدولة هي شكل إنتقالي من أشكال الملكية العامة (ملكية المجتمع الجماعية) يسود خلال مرحلة الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية. والانفراد بسلطة التصرف بوسائل الإنتاج المملوكة للدولة يمنح البيروقراطية سلطة التحكم بتخصيص وتوزيع الفائض الإجتماعي، ويوفر الإمكانية لاستئثارها بحصة متميزة من الفائض والمراكمة التدريجية لامتيازاتها الإجتماعية.
غير أن البيروقراطية ليست طبقة حاكمة جديدة مستغلة، انها تستمد مادتها من بين صفوف الطبقة العاملة وتمارس السلطة بديلا عن جماهير الطبقة العاملة وعلى قاعدة نظامها الاجتماعي، وفي نطاق دولتها.
في البداية تلعب البيروقراطية دورا تاريخيا تقدميا بتعزيز نظام الملكية العامة، الذي ينسجم مع مصالحها في هذه المرحلة، وبتعجيل إنجاز مهمة التراكم وتسريع تطور قوى الإنتاج. ولكن هذا الدور يستنفذ وظيفته مع خروج المجتمع من دائرة التخلف ونهوض قواه المنتجة، ويبدأ يشكل عبئا على تطوره وحاجزا يعرقل انطلاق عملية الانتقال الى الاشتراكية نحو أطوارها الجديدة المتقدمة. وتترافق هذه العملية مع تراكم إمتيازات البيروقراطية، وتعمق سماتها الطفيلية، وبدء انفصالها التدريجي عن الطبقة العاملة.
10- في الوجه الآخر للصورة كان الإتحاد السوڤييتي، في سياق هذه العملية، قد قطع شوطا واسعا على طريق التطور الإقتصادي والحضاري، وأنجز بناء قاعدة صناعية متينة وقدرة دفاعية هائلة. وإلى جانب حماس المواطنين السوڤييت وتفانيهم في الدفاع عن سيادة البلاد، وعن مكاسب الثورة والتحول الإشتراكي، أثبتت الصناعة السوڤييتية خلال الحرب العالمية الثانية قدرتها على توفير مقومات الصمود والتفوق على الإمبريالية الألمانية ومحورها الفاشي، الذي كانت تحت تصرفه كل موارد أوروبا القارية وقدراتها الصناعية المتقدمة. وطوال السنوات الثلاث الأولى من الحرب، قاتل الإتحاد السوڤييتي لوحده ضد الجيش النازي، وتمكن من دحره وإلحاق الهزيمة به. ورغم الدمار الواسع، خرج الإتحاد السوڤييتي من الحرب قوة عظمى توازن الولايات المتحدة، التي أضحت زعيمة العالم الرأسمالي بلا منازع، ووحدت المراكز الإمبريالية في تحالف متماسك تحت قيادتها.
في السياق نفسه، كان الإتحاد السوڤييتي، رغم ثقل عبء سباق التسلح والتزاماته الباهظة إزاء الحلفاء والبلدان المتحررة حديثا، يواصل مسيرة تطوره الاقتصادي والحضاري بوتائر مذهلة، ويلحق بسرعة بأكثر المراكز الإمبريالية تطورا.
لقد برهن هذا التطور الكبير في فترة زمنية وجيزة إلى حد قياسي، وبالوقائع الملموسة على صحة النظرية اللينينية القائلة، إن مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، على قاعدة نظام الملكية العامة والسمة العمالية للدولة (رغم بقرطتها)، هي السبيل أمام البلدان الرأسمالية المتخلفة نحو الإفلات من الدائرة المفرغة للتبعية والتخلف، ونحو التحرر من مفعول قانون التطور المتفاوت الذي يحكم العالم الرأسمالي في المرحلة الإمبريالية من مراحل تطور الرأسمالية. ولكن مع تسارع هذا التطور استكملت أيضا عملية تمايز البيروقراطية كشريحة إجتماعية حاكمة ذات إمتيازات، وبدأت تبرز سماتها الطفيلية وتتعمق، وأخذت تتسارع عملية إنفصالها التدريجي عن الطبقة العاملة.
11- في سياق هذا التطور تبلورت أيديولوجية «الاشتراكية المتطورة»، حيث ترتكز هذه الأيديولوجية في رؤيتها للوضع الدولي على موضوعة «المباراة بين النظامين العالميين» التي تقدم «المنظومة الاشتراكية العالمية بقيادة الاتحاد السوفييتي» بصفتها «القوة الثورة الرئيسية في عصرنا»، وتعتبر مباراتها الاقتصادية مع العالم الرأسمالي المتقدم، الميدان الرئيسي الذي من خلاله تمارس فعلها الثوري، والمحرك الرئيسي لمسيرة التقدم على نطاق دولي.
وفي رؤيتها للواقع الاجتماعي السوفييتي تعلن هذه الأيدلولوجية انجاز بناء المجتمع الاشتراكي والدخول في مرحلة «الاشتراكية المتطورة» التي هي انتقالية من الاشتراكية الى الشيوعية، وتزعم أنه بفعل اختفاء الطبقات وزوال التناقضات الاجتماعية في هذه المرحلة من مراحل تطور المجتمع السوفييتي، فان الدولة أصبحت «دولة الشعب كله» والحزب، الذي ما تزال حاجتها اليه قائمة لفرض هيمنتها، أصبح «حزب الشعب كله» الذي يتعزز دوره بصفته «القوة القائدة لعملية بناء الشيوعية».
12- رغم الاعلان الأيديولوجي عن اختفائها، كانت هذه التناقضات قد اتخذت أشكالها الجديدة، وبدأت تتفاقم بصمت تحت سطح المظهر الخارجي المتماسك لنظام السيطرة الشمولي البيروقراطي:
أولها، هو التناقض مع القطاع الخاص، الذي كان ما يزال يحتل موقعا هاما في الزراعة ويلعب دورا في الخدمات والحرف وتجارة المفرق.
هذه التناقضات، هو التناقض بين نمط الملكية الكولخوزي، وحاجاته الى النمو ومصالح فلاحيه، وبين الدولة العمالية المبقرطة، التي تسعى بوسائل وسياسات مختلفة الى اقتطاع أكبر نسبة ممكنة من الفائض الزراعي، وتوظيفها في التراكم والنهوض بالتصنيع وبالقدرة الدفاعية.
ثالث هذه التناقضات، هو التناقض بين جماهير الطبقة العاملة وبين الادارة البيروقراطية، وتفردها بسلطة التصرف بوسائل الانتاج التي هي ملك للعمال، وبالفائض المتولد عن الصناعة.
رابع هذه التناقضات، وهو في المحصلة المحور الذي تتكثف فيه سائر التناقضات الأخرى بحكم السمات المميزة لنظام السيطرة الشمولي والاحتكار البيروقراطي للسلطة، هو التناقض داخل البيروقراطية نفسها، كشريحة اجتماعية حاكمة.
13- منذ مطلع سبعينيات القرن 20 بدأ المجتمع السوفييتي بفعل انجازاته الباهرة، موضوعيا على عتبة منعطف رئيسي في مسار عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، ويراوح أمام استحقاقات الانتقال الى طور جديد أرقى من أطوار هذه العملية. نجحت في تجاوز مستوى التطور الرأسمالي في مجال إنتاج وسائل الإنتاج، واستنفذت إمكانيات النمو عبر التوسع الأفقي في استغلال الموارد، وبدأت حاجات استمرار النمو والتقدم تتطلب بإلحاح الإنتقال إلى التكثيف العمودي للصناعة، والتحديث التكنولوجي، والإنتاج الجماهيري لسلع الإستهلاك. كانت القدرات الإنتاجية المادية والعلمية والتقنية متوفرة وناضجة لإحداث هذه النقلة. ولكن هذه النقلة كانت تتناقض مع نظام الإدارة البيروقراطية والمصالح التي يولدها، وكذلك مع نظام السيطرة الشمولي.
14- التخلف عن الاستجابة لاستحقاقات هذه النقلة أدخل المجتمع، ومسيرة الإنتقال إلى الاشتراكية، في حال من الجمود الذي يخفي تحت سطحه الخارجي تفاقما متسارعا لعوامل الأزمة. نظام السيطرة الشمولي، ونمط التخطيط والإدارة البيروقراطية للإقتصاد، أصبحا عقبة تحتجز التطور وتعرقل مسيرة المجتمع إلى الأمام. البيروقراطية استنفذت وظيفتها وباتت عبئا ونتوءا طفيليا يتغذى من جسم المجتمع ويشل حركته إلى الأمام جسم المجتمع.
الأساس المادي لأيديولوجية «الإشتراكية المتطورة» راح يتصدع. ولكن كما تمسكت البيروقراطية بدورها التاريخي بعد زوال وظيفته وأساسه المادي، كذلك تمسكت بأيديولوجيتها بعد تصدع أساسها المادي، واكتفت بمحاولات ترميمها ومصالحتها مع الواقع دون التخلي عن جوهرها ووظيفتها. وهكذا حلت يافطة «الإشتراكية القائمة بالفعل» محل يافطة «الإشتراكية المتطورة». وحلت عبارة «التوجه الاشتراكي» محل عبارة «التطور اللارأسمالي». و»المباراة بين النظامين» تحولت الى تهالك من جانب واحد على الانفراج، والوفاق الدولي، ووقف سباق التسلح.
15- البيريسترويكا كانت ظاهريا حصيلة إجماع البيروقراطية على ضرورة التغيير. النومنكلاتورا التي تفاقمت عزلتها عن المجتمع باتت عاجزة عن ممارسة الحكم رغم استمرار إمساكها بالقرار.
الإتجاه الغورباتشوڤي في النومنكلاتورا، كان يحاول بلورة بديل بيروقراطي لاستحقاقات الطور الجديد من أطوار عملية الإنتقال، بديل يستجيب للجوانب التقنية لهذه الاستحقاقات دون المساس بأسس السيطرة البيروقراطية. وهو مشروع مستحيل ومحكوم عليه بالفشل سلفا.
الإتجاه «المحافظ» في النومنكلاتورا، كان يهمه انقاذ النظام المتصدع بهدف الحفاظ على امتيازاته. ولذلك كان في البداية مع الإجماع الظاهري على التغيير، ولكن ضمن حدود تزييت ماكنة النظام المكربجة، وإخراجه من أزمة الجمود.
في صفوف البيروقراطية الوسطى، التي كان ضغطها حاسما في اطلاق البيريسترويكا، كانت تنمو وتهيمن قوى الردّة الطامحة للتحول الرأسمالي والمؤتلفة مع أرباب القطاع الخاص، ومافيات اقتصاد الظل، وهي تطرح «اشتراكية السوق» مطلبا مرحليا يمهد للردّة والتحول الرأسمالي.
في أوساط المراتب البيروقراطية الدنيا، كان يتصاعد الاستياء والتذمر من الجمود والتدهور الاقتصادي، ومن امتيازات النومنكلاتورا وعجرفة الفئات الوسطى، ومن تدهور الوضع المعيشي للمراتب الدنيا، وتآكل امتيازاتها تحت ضغط الأزمة الاقتصادية.
16- سياسة الغلاسنوست، التي استجاب الجناح الغورباتشوڤي لضغط المطالبة بها تحت وطأة الحاجة الى «الشفافية الاقتصادية» اللازمة للتحديث، والضرورة لفك عزلة النومنكلاتورا وعماها عن حقائق الواقع الإقتصادي والإجتماعي الذي يجعلها عاجزة عن الحكم، مكنت قوى الردّة من تنظيم نفسها بسرعة على صعيد قومي، واتحادي، بحيث باتت قادرة على التحكم الكامل بمسار الصراع اللاحق مستفيدة من نفوذها الواسع في أجهزة الإعلام، ومن موقعها كحزام وسيط بين قمة الهرم وبين المجتمع ومفاصل السلطة الدنيا؛ ومستفيدة أيضا من القوة الإجتماعية الإضافية التي اكتسبتها بفعل الإجراءات الإقتصادية الأولى للبيريسترويكا. فقد كانت حريات الغلاسنوست مقننة بحيث تتيح امكانية الانتظام والتحرك الاعلامي للبيروقراطية الوسطى وتحالفها مع قوى الردّة، من جهة، وبحيث تحافظ على حالة الاستلاب والتشظي وتعميق البلبلة والسلبية واللامبالاة في صفوف الطبقة العاملة، وانجرارها الجزئي وراء الديماغوجيا الشعبوية، كم جهة أخرى. ولكنها كانت نقطة تحول لدى الجناح «المحافظ» في قمة الهرم، الذي انتقل الى معارضة البيريسترويكا، وبدأ يفترق عن مسارها.
17- إجراءات البيريسترويكا المبكرة على الصعيد الإقتصادي بدأت بتشريع إقتصاد الظل، الذي أشاع ارتياحا عند الجميع، وتوسيع نطاق النشاط القانوني للقطاع الخاص، واعتماد سياسة استقلالية المشروعات وإدخال مبدأ الربحية والحساب الإقتصادي، بما في ذلك إمكانية الإفلاس. وعززت هذه الإجراءات مواقع البيروقراطية الوسطى، وتحالفها الطامح للتحول الرأسمالي، التي قبضت عليها وراحت تطالب باستكمالها بتحرير الأسعار، والإنتقال الكامل إلى اقتصاد السوق.
18- الصراع المحتدم في سياق عملية البيريسترويكا كان يجري في ظرف دولي، تميّز بتفاقم الخلل في التوازن لصالح الامبريالية، في فترة شهدت انتعاشا نسبيا للرأسمالية في مراكزها المتطورة. في خضم هذا التطور الدولي، استكملت البيريسترويكا، التي قدمت نفسها بصفتها مشروعا لتجديد الاشتراكية واصلاح الثغرات في أنظمة «الاشتراكية القائمة بالفعل» استكملت ركائزها الأيديولوجية بتبني منظور «التفكير السياسي الجديد» الذي يعيد اكتشاف مفهوم «وحدة العالم» ويستخلص منه ضرورة احلال التعاون في العلاقة بين النظامين العالميين.
وقد عبرت سياسة «التفكير الجديد» عن مصلحة النومنكلاتورا في التحرر من أعباء المواجهة الدولية بهدف كسب الوقت، ولجم التداعي في موقعها الدولي، كما عبّرت عن طموح البيروقراطية الوسطى، وتحالف قوى الردّة، الى الانفتاح على الامبريالية وسوقها العالمية، والتعاون مع رأس المال الاحتكاري على حل «المشكلة المشتركة» المتمثلة بتسهيل التحول الى الرأسمالية في بلاد السوفييت.
19- تحكم البيروقراطية الوسطى وتحالفها الطامح إلى التحول الرأسمالي بمسار البيريسترويكا قاد الى نتيجته المنطقية قوى الردّة. وبرهنت الأحداث أن الردّة، اذا كانت تستجيب لمصالح البيروقراطية المتبرجزة، فهي لا تستجيب لحاجات المجتمع إلى التطور، بل العكس تتناقض معها، وتعمق أزمته.
أدت الردّة الى تفكيك الاتحاد السوفييتي، ونقلت الى السلطة في جمهورياته قوى متبرجزة طامحة الى التحول الرأسمالي، وأطاحت بالأسس الدستورية لنظام الملكية العامة، وأحدثت قطعا في مسار الانتقال الى الاشتراكية، وشرعت في محاولة اطلاق عملية انتقال معاكس الى الرأسمالية. وتشهد نتائج هذه المحاولة كم أصبحت الرأسمالية تتناقض مع متطلبات التطور، وتنطوي على تدمير هائل للقوى المنتجة. ان الردّة لم تكن هي المخرج من أزمة النظام البيروقراطي، بل لقد قادت بالعكس الى تعميق أزمة المجتمع.
الفصل الثاني: الدروس المستخلصة من التجربة السوفييتية
1- إنهيار النموذج السوڤييتي لا يدحض جوهر الموضوعة اللينينية حول إمكانية إنتصار الثورة العمالية وبدء مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية في بلد رأسمالي متخلف. إن هذه الموضوعة تنبثق من إدراك قانون التطور المتفاوت الذي يحكم تطور الرأسمالية في مرحلتها الإحتكارية، مرحلة الإمبريالية، والذي يسيطر على تحديد العلاقة بين مراكز العالم الرأسمالي وأطرافه، فيحكم على الأطراف بمزيد من التخلف والتبعية، بينما تتراكم الثروة في المراكز وتزداد غنى وتطورا.
إن مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، بقيادة الطبقة العاملة، رغم كل ما انطوت عليه من ثغرات وتناقضات وتشويه بيروقراطي في التجربة السوڤييتية، كانت هي السبيل للإفلات من قبضة التخلف والتبعية وكسر حلقتها المفرغة، والضمان لمتابعة مسار التقدم الإقتصادي والإجتماعي والحضاري. وجمود هذه المسيرة، الناجم عن انفصال البيروقراطية الحاكمة عن الطبقة العاملة، كان يعني إغلاق طريق التطور ولجم مساره. وإذا كان هذا يؤكد صحة الموضوعة اللينينية بجوهرها ومضمونها الرئيسي، فإن وقائع مسار التجربة ودروسها تتطلب، برأينا، تدقيق هذه الموضوعة وإعادة صوغها على نحو أكثر وضوحا ودقة. ذلك، أن التراث اللينيني يستخدم مفاهيم: الثورة البروليتارية، والثورة الإشتراكية، والدور القيادي للبروليتاريا، ودكتاتورية البروليتاريا، بمعانٍ مترادفة تنطوي على الكثير من الإلتباسات، وتفتح الطريق لسوء الفهم أو سوء التأويل، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمجتمع رأسمالي متخلف، تأخر فيه إنجاز المهام الإجتماعية للثورة الديقراطية. هذه الموضوعة اللينينية تصبح أكثر دقة واكتمالا، إذا تم صوغها على النحو التالي: منذ أن دخلت الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية، فإن مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، التي تبدأ انطلاقتها عندما تحتل الطبقة العاملة موقعا قياديا في المجتمع وسلطة الدولة، ويتواصل تقدمها بقدر ما تحافظ الطبقة العاملة على دورها القيادي هذا؛ هذه المسيرة تصبح هي السبيل التاريخي المفتوح للإفلات من دوامة التخلف والتبعية، والتحرر من مفعول قانون التطور المتفاوت، بالنسبة لمجتمع رأسمالي متخلف، تأخرت بورجوازيته عن إنجاز المهام الإجتماعية للثورة الديمقراطية.
2- ان بدء عملية الإنتقال إلى الإشتراكية بقيادة الطبقة العاملة، وبخاصة إنطلاقا من وضع مجتمع رأسمالي متخلف، لا تعني إمكانية الشروع فورا بتنظيم المجتمع على أسس اشتراكية. ينبغي التمييز بدقة بين مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية وبين مرحلة المجتمع الإشتراكي (المرحلة الأولى، الدنيا، من مراحل التطور نحو الشيوعية). وهذا التمييز لا تتطلبه الدقة العلمية فحسب، بل إن له أهمية مفصلية في الممارسة العملية، في صوغ الاستراتيجيات الإنتقالية وفي التحديد الدقيق للمهام المرحلية والتحالفات الطبقية والإجتماعية.
إن مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، كما وصفها ماركس، هي مرحلة التحويل الثوري للمجتمع من الرأسمالية إلى الإشتراكية. وهي لذلك تنطوي بالضرورة على استمرار عناصر لا يستهان بها من الموروث الرأسمالي واحتفاظها بوجودها وفعلها في مجتمع مرحلة الإنتقال، واستمرار فعل بعض القوانين والمقولات الإقتصادية السائدة في ظل الرأسمالية. وفي هذا يكمن التمايز بين مرحلة «الإنتقال» (حتى إذا انطلقت من وضع مجتمع رأسمالي متقدم) وبين مرحلة «المجتمع الإشتراكي». ويزداد فعل هذه العناصر الرأسمالية، وتصبح عملية الإنتقال أكثر تعقيدا، كلما كان مستوى تطور المجتمع الذي تنطلق فيه أكثر تخلفا.
ان مجتمعا اشتراكيا لا يمكن ان يقوم إلا على قاعدة مادية – تقنية وحضارية متطورة، الا على قاعدة درجة من التطور في قوى الإنتاج، ومن التقدم الإجتماعي والحضاري، تفوق ما أحرزته الرأسمالية في أكثر مراكزها تقدما. ووظيفة مرحلة الإنتقال هي أن توفر الشروط السياسية – الإجتماعية المناسبة لإطلاق التطور المتسارع لقوى الإنتاج وصولاً الى توفير القاعدة المادية – الحضارية لقيتم المجتمع الاشتراكي. فالإشتراكية، وفقا لماركس، تنبثق اصلا من الطابع الإجتماعي المتزايد لتنظيم قوى الإنتاج، أي من الإنتاج الكبير الذي يتطلب ملكية جماعية كي يبرز أفضلياته وميزاته. وإذا توفرت الشروط السياسية – الإجتماعية المناسبة، فإن علاقات الإنتاج الإشتراكية، ونمط الملكية الإشتراكي، ينتشر في المجتمع بقدر ما تتوفر الشروط المادية – التقنية، والحضارية، لانتشار الإنتاج الكبير وإبراز أفضلياته.
3- إن تولي الطبقة العاملة موقعا قياديا في المجتمع وسلطة الدولة وبدء مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، لا يعني بالضرورة أن الثورة قد أصبحت ثورة إشتراكية خالصة، وأنه بات بمقدورها أن تتطور وفق القوانين التي صاغها ماركس لتطور الثورة الإشتراكية.
إن المضمون الإجتماعي للعملية الثورية، سماتها ومهماتها، لا يتوقف فقط على المضمون الطبقي لسلطة الدولة، بل أيضا، وبالدرجة الأولى على مستوى تطور قوى الإنتاج، التقدم المادي والحضاري للمجتمع. وحين تنطلق مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية من وضع مجتمع رأسمالي متخلف؛ أي بالتعريف، مجتمع لم يستكمل بعد إنجاز المهام الإجتماعية لثورته الديمقراطية، فإن مهمات وسمات الثورتين الديمقراطية والإشتراكية تختلط في سياق هذه المسيرة الإنتقالية على نحو يتطلب من حركة الطبقة العاملة وعيا أكثر دقة للمراحل المعقدة والمتداخلة، التي تنطوي عليها هذه المسيرة، ولما تفرضه كل من هذه المراحل من أولويات في المهام والتحالفات.
إن المرحلة الأولى من مراحل مسيرة الإنتقال، في هذه الحالة، تتطلب على الأرجح إعطاء الأولوية لإنجاز المهام الإجتماعية للثورة الديمقراطية، مهام إنجاز التراكم الضروري لتنمية قوى الإنتاج إلى المستوى الذي بلغته الرأسمالية في مراكزها المتطورة. وبقدر ما يكون وعي الطبقة العاملة، وحزبها أو أحزابها، لهذه الحقيقة مرهفا اكثر، بقدر ما يمكنها أن تقود مسيرة الإنتقال، عبر هذه المرحلة المعقدة، فإن مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية ستكون بالضرورة مسيرة طويلة ومعقدة، تستغرق حقبة تاريخية بكاملها.
4- رغم ذلك، فإن الأفكار التي صاغها ماركس وإنجلز بشأن عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، وتمايزها عن مرحلة «المجتمع الإشتراكي»، ما تزال تنطوي على قيمة معرفية جمة، اذا ما نظر اليها بصفتها «أدوات مفاهيمية» ترشد التحليل الصحيح للواقع الملموس ولمسار تطور العملية الواقعي، وليس بصفتها «تعاليم» أو «وصفات جاهزة» تطبق على الواقع قسرا، ولا بصفتها «مسطرة للقياس» والحكم النظري المجرد.
إن التحليل الملموس لواقع التجربة السوڤييتية ومسارها، يؤكد أن هذه المفاهيم، بصفتها أدوت للتحليل، ما تزال صالحة وقادرة على استيعاب حقائق التجربة وتوفير مدخل لفهم دقيق لتناقضاتها وتعرجاتها. ولقد رأينا كيف تساعدنا هذه المفاهيم على تمزيق القشور، وتبديد الحجب الأيديولوجية، التي غلفت بها عملية الانتقال السوفييتية، وعلى النفاذ إلى لبها وجوهرها واكتشاف حقائقها الإجتماعية. والحقيقة، أنه لا يمكن بلورة فهم منسجم وتحليل متماسك لمسار التجربة، أسباب نجاحاتها وعوامل إخفاقها وانهيارها، إلا في ضوء تلك المفاهيم الماركسية الأصيلة بعد تنقيتها من التشويه الذي لحق بها بحجة استيعاب متغيرات العصر. وتلك هي بالضبط وظيفة المنهج الماركسي كمنهج للتحليل، وفيها يكمن مصدر قوته.
5- في الجانب السياسي: انطلاقا من مفهوم ماركس لطبيعة وسمات الدولة في مرحلة الإنتقال، يتضح من تحليل مسار التجربة السوڤييتية، أن اختزال هذا المفهوم إلى محض شعار مجرد حول دكتاتورية البروليتاريا، ينطوي على تبسيط مبالغ فيه، ويخلق إلتباسات عدة تنال من صلاحية هذا المفهوم كمرشد للممارسة:
التبسيط المبالغ فيه نلحظه حين نتذكر أن مصطلح «الدكتاتورية» لا يتناول طبيعة النظام السياسي السائد، بل هو ينبثق من مفهوم ماركس وإنجلز للدولة، أية دولة، باعتبارها «آلة» منفصلة عن المجتمع، و»جهازا» محترفا لفرض القانون.
والتبسيط المبالغ فيه نلحظه، أيضا، حين نتذكر أن ماركس يصف دولة مرحلة الانتقال، بأنها «أعمق وأوسع ديمقراطية للأغلبية المستغلة التي تمارس سلطة الدولة مباشرة للتغلب على مقاومة الأقلية المستغلة»، كما أن ماركس يصف هذه الدولة، «الطبقة العاملة التي تنظم نفسها ديمقراطيا كطبقة حاكمة».
إن المسألة الرئيسية التي ينبغي التركيز عليها هي المضمون، الفكرة الجوهرية التي ينطوي عليها المفهوم الماركسي، وهي: إنه بدون دور قيادي للطبقة العاملة في المجتمع وفي الدولة، لا يمكن بدء مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية ولا ضمان استمرارها، وإن الطبقة العاملة تمارس دورها القيادي على قاعدة أوسع وأعمق ديمقراطية مباشرة للأغلبية المستغلة ضد الأقلية المستغِلة. وهذه الفكرة الجوهرية تبقى تحتفظ بصحتها، وقد أكدها مسار التجربة السوڤييتية، بنجاحه وبإخفاقه معا، ولكن الصيغ الملموسة المناسبة للتعبير عن مضمونها يمكن أن تختلف وتتباين، وفقا لاختلاف الشروط الملموسة التي تجري في سياقها عملية الإنتقال، ولتباين التكوين الطبقي للمجتمعات التي تنخرط فيها.
6- إحدى هذه الصيغ الملموسة، لسلطة مرحلة الإنتقال، هي صيغة السلطة الوطنية الديمقراطية التي تقودها الطبقة العاملة، وهي الصيغة المستخلصة من تحليل تجربة حركة التحرر الوطني في العديد من البلدان العربية وبلدان العالم الثالث ذات التكوين الطبقي المشابه، انطلاقا من الحقيقة التالية: إن الطبقة العاملة لا تفوز بدورها القيادي ولا تمارسه، الا من خلال القناعة الديمقراطية الحرّة لأغلبية الشعب بجدارتها الطليعية، وببرنامجها الجذري لانجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية (التي تحتل الأولوية في المرحلة الأولى من مراحل عملية الانتقال).
إن تداخل وتعدد المراحل التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، في البلدان الصغيرة والمتخلفة، يملي على الطبقة العاملة، لكي تنجح في الظفر بدورها القيادي والدفاع عنه، ضرورة بلورة استراتيجيات مناسبة، واقعية وثورية في آن، تحدد بدقة أولويات المهام السياسية والإجتماعية التي ينبغي التركيز عليها في كل مرحلة، في ضوء مستوى التطور المعطى للمجتمع، وتحدد بالتالي سياسة التحالفات والأشكال والمضامين الإجتماعية لسلطة الدولة.
ينبغي التمييز هنا بين الاستراتيجيات الواقعية والثورية، وبين الاستراتيجيات الإصلاحية. ونقطة التمييز الجوهرية تكمن في أن الاستراتيجيات الإصلاحية تنطلق من تشخيص درجة تخلف المجتمع لتتوصل إلى التسليم بقيادة البورجوازية التي هي، في ظروف عالمنا المعاصر، وصفة لإعادة إنتاج التبعية والتخلف. أما الاستراتيجيات الواقعية والثورية فهي تنطلق من تأكيد أهمية الدور القيادي للطبقة العاملة، وضرورته لشق طريق التطور والإفلات من التبعية والتخلف في ظروف عالمنا المعاصر.
لقد أبرزت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، منذ مؤتمرها الثاني (1981)، على يد الوثيقة الصادرة عن أعماله نشرت تحت عنوان:«عقد النهوض والإنتصارات»، الكتاب الرقم 13 من سلسلة «من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»، أبرزت الجبهة الديمقراطية، ضرورة التمييز – في حالة البلدان المتخلفة – بين المرحلة الأولى من مسيرة الإنتقال، والتي تتطلب التركيز على أولوية إنجاز المهام السياسية والإجتماعية للثورة الديمقراطية، أو الثورة الوطنية الديمقراطية، وبين المرحلة الثانية التي تتعلق بإرساء المقومات المادية – التقنية لبناء المجتمع الإشتراكي. واستخلص المؤتمر، أن على الطبقة العاملة في المرحلة الأولى، أن تفوز بدورها القيادي وتمارسه بوسائل ديمقراطية عبر بلورة استراتيجيات وتحالفات، بما فيها أشكال للسلطة، تتناسب مع درجة تطور المجتمع وتكوينه الطبقي ومستوى تطور قواه المنتجة. إن تحليل تجربة عملية الإنتقال السوڤييتية، كما تجربة الثورات الصينية والكوبية والڤيتنامية، يؤكد مجددا صحة هذا الاستخلاص.
7- في الجانب الإقتصادي: لاحظنا أن ما يقدمه التراث الإشتراكي العلمي لفترة ما قبل ثورة أكتوبر هو، ليس معالجة ملموسة للمعضلات الإقتصادية التي تنطوي عليها عملية الإنتقال، بل هو بشكل رئيسي منهج للمعالجة، أسلوب وطريقة يهتدى بهما لمعالجة هذه المعضلات، وهو منهج ينطلق من إدراك علمي لحدود ما هو ممكن لأية سلطة سياسية، مهما كانت تقدمية وثورية، ولأية إجراءات سياسية – قانونية، مهما تكن جذرية، أن تنجزه في ظل مستوى معيَن مُعطى من التطور المادي والحضاري للقوى المنتجة.
إن تحليل مسار التجربة السوڤييتية يبرز كم هو صحيح ودقيق هذا المنهج، وكم من
التضحيات والآلام كان يمكن تفاديها بالإهتداء به. وخبرة عملية الإنتقال السوڤييتية باتت تمكننا من إغناء هذا المنهج بعدد من العناصر الملموسة التي يمكن أن تشكل هاديا أوضح، وأكثر دقة، للممارسة اللاحقة، ومن بين أبرز هذه العناصر:
أولا: ان الاشتراكية تنبثق بالضرورة من الطابع الاجتماعي المتزايد لتنظيم قوى الانتاج، الطابع الذي يوفره الانتقال الى مستوى الانتاج الكبير. وهذا يقود الى 3 استخلاصات:
1- إن نمط الملكية الإشتراكي، الملكية العامة المودعة إنتقاليا بيد الدولة، لا يجدي ولا يبرز مفعوله في حفز نمو قوى الانتاج، إلا في القطاعات التي انتقلت فعلا الى مستوى الانتاج الكبير. إن النشر المتسرع لنمط الملكية الإشتراكي خارج هذا النطاق يميل وينحو باتجاه تقييد نمو الانتاج من حفزه وتعجيله، وهذه حقيقة يجدر أخذها بعين الاعتبار عند ممارسة مهمة «نزع ملكية غاصبي الملكية».
2- ان الانتقال الى مستوى الانتاج الكبير لا يمكن تحقيقه بشكل مفتعل بتجميع الملكيات الصغيرة، سواء في الحرف، أو الخدمات، أو الصناعات الصغيرة، ما لم تتوفر المعطيات والشروط التقنية، الكميات الكافية من الآلات والمعدات والمستوى الكافي من الخبرة والتأهيل التقني، التي تسمح بابراز أفضليات وميزات الانتاج الكبير.
3- ان الحظر القانوني المفتعل لنشاط القطاع الخاص في المجالات التي لا تبرز فيها أفضليات الانتاج الكبير، بحكم طبيعتها، من جهة، وبحكم درجة التطور التقني المعطاة، من جهة أخرى، يؤدي الى تقييد نمو الانتاج والتبادل ويعرقل تطور القوى المنتجة ويحشرها في اختناقات تأزيمية ضارة.
ثانيا: ان تشريك وتجميع الملكيات الصغيرة، وبخاصة الحيازات الفلاحية في الزراعة، عبر نشر نمط الملكية الجماعي القائم على التعاونيات الانتاجية (والذي تشكل الكولخوزات شكلا من أشكاله)، يتوقف نجاحه أيضا على مدى توفر الامكانيات التقنية، امكانيات المكننة والبذار والعلف والأسمدة ووسائل الري والخبرة الفنية والوسائل التكنولوجية الحديثة لتكثيف الانتاج الزراعي.
ثالثا: ان الضرورات الاقتصادية المحضة، ضرورات حفز نمو الانتاج وزيادة الانتاجية على المدى الطويل، تتطلب احداث درجة من التوازن بين الفائض المقتطع والمخصص للتراكم والتنمية، وبين الحصة المخصصة للاستهلاك ورفع المعيشة للسكان.
رابعا: كما ان الديمقراطية السياسية هي ليست ترفا، بل ضرورة من ضرورات التنمية والتطور الاقتصادي والحضاري في مرحلة الانتقال، كذلك فان الديمقراطية في مواقع الانتاج هي ضرورة قصوى لزيادة الانتاجية ولضمان فعالية عمل نظام التخطيط المركزي، وتقليص الهدر في الموارد الناجم عن نمط الادارة البيروقراطي.
خامسا: إذا كانت فكرة «المؤتمر العام للمنتجين» لا تتناسب مع طبيعة التكوين الطبقي للمجتمع خلال الفترة الأولى من المرحلة الإنتقالية، وتفترض مجتمعا اشتراكيا بدون طبقات، فإن دمقراطة سلطة التخطيط المركزي، وسلطات التخطيط الإقليمية، وإيجاد الآليات المناسبة لزيادة نسبة ممثلي العمال المنتخبين مباشرة من مواقع الإنتاج في هذه السلطات،هي أيضا ضرورة قصوى من ضرورات فعالية نظام التخطيط، وتقليص الهدر البيروقراطي.
8- لقد آن الأوان لإعادة النظر جذريا بمقولة وحدانية حزب الطبقة العاملة، ونبذها دون تردد. إن نبذ هذه المقولة لا يتناقض مع نظرية الحزب الطليعي اللينينية، بل هو بالعكس ينسجم تماما مع جوهر هذه النظرية ومضمونها الديمقراطي الثوري، ويستبعد إمكانية إستغلالها لتبرير ممارسات سلطوية تتظلل بستار «الدور الطليعي للحزب»، ولكنها تتعارض في الجوهر مع سمات الطليعية الحقة. إن مقولة «وحدانية حزب البروليتاريا» هي أصلا مستمدة من تبسيط الماركسية بشأن التجانس الداخلي للبروليتاريا والذي يشكل قاعدة مادية لتماسكها، ووحدتها، وانسجام مصالحها النهائية.
أولا: هذه الموضوعة الماركسية تتحدث عن تجانس البروليتاريا الناجم عن انسجامها الداخلي، فيما يخص علاقتها بوسائل الإنتاج، كون جميع شرائحها محرومة من ملكية وسائل الإنتاج، ومضطرة لبيع قوة عملها مقابل أجر في ظل النظام الرأسمالي، وكونه كطبقة، لا تستطيع تملك وسائل الإنتاج إلا بشكل جماعي، ومن هنا تنبثق وحدة مصلحتها النهائية في التحرر من الاستغلال المرتبط بنظام الملكية الخاصة، وفي تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية للمجتمع.
ثانيا: إن ماركس يتحدث عن ميل التطور الرأسمالي إلى تقليص هذا التفاوت بين شرائح الطبقة العاملة والإقتراب التدريجي من إحداث التجانس فيما بينها، ليس بعلاقتها بوسائل الإنتاج فحسب، بل أيضا فيما يخص درجة التمركز ومستوى المهارة والتأهيل ومستوى الدخل، ولكنه يتحدث عن هذا الميل باعتباره اتجاها يفعل فعله تدريجيا، وفي الأمد البعيد، ويؤدي في التحليل النهائي الى مزيد من التجانس الداخلي للطبقة، ولكن فقط في التحليل النهائي، في المدى البعيد، وليس في واقعها الحالي القائم فعلا.
9- إن الاعتراف بإمكانية، وبحق، التعددية الحزبية داخل حركة الطبقة العاملة لا يعني التخلي عن النظرية اللينينية حول الحزب الطليعي وسماته والمبدأ التنظيمي الأساس الذي يقوم عليه: المركزية الديمقراطية. إنه يعني بالتأكيد الإعتراف بحق جماهير الطبقة العاملة نفسها. بأن تقرر نفسها وبارادتها الحرّة من هو الحزب الذي تؤيده، أو تنتمي اليه.
لقد رأينا نظرية الحزب الطليعي اللينينية أثبتت جدواها وضرورتها لبناء منظمة كفاحية متماسكة تشكل أداة لا غنى للطبقة العاملة في مرحلة نضالها من أجل الظفر بدورها القيادي والدفاع عنه، ولكن من الطبيعي أن تكتسب مباديء هذه النظرية، ومفهوم الحزب الطليعي، مضامين تطبيقية مختلفة في المراحل المختلفة لتطور الطبقة العاملة، وكذلك لتطور الحزب نفسه. كما أن من الضروري التمسك بالمفهوم الديمقراطي، ونبذ المفهوم القسري – الشمولي (السلطوي) لسمات الحزب وجدارته الطليعية. وفي هذا الإطار تندرج التوضيحات التالية:
أولا: كيف يمكن مصالحة مقولة الاعتراف بتعددية أحزاب الطبقة العاملة مع مفهوم الحزب الطليعي؟
إن المفهوم الأخير يجسد، يعبر عن، سمات الفصيل الطليعي من الطبقة، وليس بالضرورة سمات الطبقة كلها. إنه يعكس مزايا الشريحة المتقدمة من البروليتاريا، تلك الشريحة التي تتجسد فيها غاية الصيرورة الجدلية لتطور الطبقة كلها، والتي تتميز بوعي متكامل للمصالح النهائية للطبقة ولرسالتها التاريخية، كما تتميز – منذ الآن – بمزايا الإنضباط والروح الجماعية والتجانس الداخلي، تلك المزايا التي يفرضها التطور الإجتماعي وانتشار الإنتاج الكبير على مجموع الطبقة، ولكنه يفرضها تدريجيا وفي المحصلة النهائية، يفرضها بالتدريج ابتداءا من فصيلها الأكثر تقدما.
ثانيا: ماذا نعني بالمفهوم الديمقراطي، وليس الشمولي، لسمة الحزب الطليعية؟
ان هذا المفهوم ينبثق من حقيقة أن السمة الطليعية للحزب هي ليست معطى ثابتا، جاهزا ونهائيا يتبلور مرة واحدة، ثم يكرس نفسه تلقائيا الى الابد. ان الطبقة العاملة، ككل الظواهر الاجتماعية الحيّة، تتغير بتطور المجتمع، وتتغير أيضا بتطور نضالها من أجل تغيير المجتمع. والعلاقات بين شرائحها ومكوناتها تتحول بالضرورة في مسار هذا التغيير. وهذا ينعكس بالتأكيد على بنية وسمات أحزابها. وبالتالي، فان ما هو جدير بتجسيد السمة الطليعية اليوم، قد لا يكون بالضرورة جديرا بذلك غدا.
ثالثا: هل السمة الطليعية للحزب هي معطى ثابت ودائم؟
إذا سلمنا أن السمة الطليعية للحزب ليست معطى ثابتا ونهائيا ودائما، فان هذا يعني أن تلك السمة الطليعية بحاجة الى نضال دؤوب من أجل اكتسابها، والى نضال أكثر دأبا من أجل الحفاظ عليها. وهونضال أيديولوجي وسياسي وميداني في آن، يجري داخل الحزب نفسه وفي علاقته مع جماهير الطبقة ومنظماتها وأحزابها الأخرى كذلك.
ان السمة الطليعية تتطلب توفر هذا كله، وتتطلب فوقه وعلاوة عليه، تحسينا مضطردا للتكوين الطبقي للحزب، وفعالية كفاحية، وجدارة قيادية في الممارسة العملية مشهودا بها، ولها، من قبل جماهير الطبقة وحلفائها، وقدرة دائبة على بلورة سياسات واقعية تقدم لجماهير الطبقة وحلفائها حلولا ملموسة لمعضلاتها المباشرة، حلولا تأخذ بعين الاعتبار تناسب القوى القائم فعليا في الصراع الاجتماعي السياسي الدائر في المجتمع.
رابعا: هل مبادىء التنظيم المركزية الديمقراطية جامدة بمضامين ثابتة؟
إن مبادىء التنظيم المركزية الديمقراطية، التي هي من أبرز مكونات السمة الطليعية للحزب، ليست مبادىء جامدة تطبق بمضامين واحدة ثابتة في كل مراحل تطور ونضال الحزب وعلاقته بالطبقة. هذه المبادىء التي تنظم الحياة الداخلية وتوجه علاقته بجماهير الطبقة العاملة وحلفائها، تكتسب بالضرورة مضامين مختلفة بتطور نضال وتكوين الطبقة وموقعها الإجتماعي، كما بتطور الحزب نفسه في بنيته الداخلية وموقعه في حركة الطبقة.
إن المضمون التطبيقي لمبادىء المركزية الديمقراطية في فترة النضال من أجل الظفر بالدور القيادي للطبقة العاملة شيء، ومضمونها التطبيقي في فترة الدفاع عن سلطتها شيء آخر. وفي الحالة الأخيرة ينبغي أن تكتسب هذه المضامين مزيدا من التعميق والفعالية لآليات الممارسة الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية، وفي علاقته بحركة الطبقة، ومنظماتها النقابية والإجتماعية وأحزابها الأخرى أيضا.
كذلك، فإن المضامين التطبيقية لهذه المبادىء في فترة نضال الحزب من أجل اكتساب سمته الطليعية وموقعه القيادي في حركة الطبقة العاملة، هي بالضرورة مختلفة عنها في فترة النضال من أجل صون هذه السمة الطليعية، والحفاظ على هذا الموقع القيادي.
10- إن استخلاص دروس التجربة السوڤييتية يتطلب تجديدا لمفهوم الأممية البروليتارية، وإعادة الإعتبار للمضمون الماركسي الأصيل لهذا المفهوم بتنقيته من الشوائب التي ألصقت به على أيدي منظري البيروقراطية السوڤييتية. إن الإشتراكية الكاملة، لا يمكن بلوغها إلا عبر التعاون الثوري بين بروليتاريي جميع البلدان. ويصبح التضامن الأممي بين الطبقات العاملة في جميع البلدان اليوم أكثر ضرورة وإلحاحا في ضوء إنفلات نزعة الهيمنة الإمبريالية من عقالها، وفي ضوء التوحيد المنهجي للعالم، وللسوق العالمي، الذي أحرزته الرأسمالية في الحقبة الأخيرة من تطورها.
ملاحق القسم الأول
1- مرسوم الأرض.
مرسوم الأرض يعلن رسميا حق إلغاء الملكية الخاصة في الأرض، ولكنه لا يلغي حق الحيازة عليها، بل هو بالعكس يضمن حق الفلاحين في الحصول على نصيبهم من الأراضي المصادرة، ويدعو مع بعض الاستثناءات، إلى توزيعها عليهم وفقا لمبدأ «الحيازة المتساوية»، ومبدأ «الأرض لمن يحرثها». وإذا كان المرسوم يحث نظريا على الاستثمار الجماعي للأرض عبر الكومونات، بيد أنه لا يلزم الفلاحين بذلك. وبالفعل، فإن الكومونات القليلة التي قامت بمبادرة العمال الزراعيين والفلاحين المعدمين، بعد ثورة أكتوبر بفترة وجيزة، سرعان ما ذابت وتلاشت في غياب الشروط التقنية للإرتقاء بإنتاجية العمل الزراعي فيها، والتي هي شرط لا غنى عنه للإستفادة من أفضليات الإنتاج الكبير، وبذلك تحولت المساواتية المطلقة بين أعضائها إلى عبء عليها أدى إلى تفتتها وتفجيرها عند اصطدامها بأول صعوبة اقتصادية.
2- حول حل «الجمعية التأسيسية».
في موضوع حل الجمعية التأسيسية، لسنا مع التبرير القائل ببساطة: إنها – مثل كل برلمان – رمز للديمقراطية البورجوازية، وأن ديكتاتورية البروليتاريا هي ديمقراطية أوسع وأغنى وأعمق من أفضل أشكال الديمقراطية البورجوازية، ولذلك كان من الطبيعي أن تتجاوزها.
هذا التبرير يتجاهل أولا: أن ديكتاتورية البروليتاريا تصبح ديمقراطية أغنى أعمق عندما تكون البروليتاريا أغلبية في المجتمع.
كما أن هذا التبرير يتجاهل ثانيا: أن التحالف مع الفلاحين (وبخاصة صغار الفلاحين ومتوسطيهم، تمييزا لهم عن المعدمين، وأشباه البروليتاريا الريفية)، هو بالضبط تحالف مع العنصر الرئيسي من عناصر الديمقراطية البورجوازية.
3- في المسألة النقابية.
فتح النقاش في الحزب والنقابات، مجددا حول نظام «إدارة الرجل الواحد» وحول مهمات النقابات في قيادة عملية الإنتاج، في سياق عملية التحضير لمؤتمر الحزب التاسع التي بدأت في أواخر 1919. ونشأت داخل الحزب حينذاك الكتلة التي أطلقت على نفسها اسم «كتلة المركزية الديمقراطية»، والتي كان مبدأ «الإدارة الجماعية المنتخبة» عنصرا رئيسيا من عناصر برنامجها. وقد حظي هذا البرنامج بتأييد واسع في العديد من منظمات الحزب، حيث ساندته بقوة لجنة مقاطعة موسكو الحزبية. كما نال تأييد الأغلبية الساحقة من الأصوات في مؤتمر منظمة خاركوف. وفي المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في أوكرانيا (آذار/مارس 1920) نال هذا البرنامج أكثر من 50% من الأصوات.
4- موقف الفلاحين (البورجوازية الصغيرة).
التعبير القائل: «إنهم يوقعون الصلح بأقدامهم»، هو تعبير لاذع استخدمه لينين، في سياق النقاش الذي كان محتدما داخل الحزب البلشفي، وبينه وبين حلفائه في الحكومة من يسار الإشتراكيين الثوريين، بشأن توقيع معاهدة بريست - ليتوڤسك بشروطها المجحفة. وهو يصف به حالة الفرار الجماعي لمئات الآلاف من الفلاحين المجندين في الجيش، ويعتبرها دليلا على رغبتهم في الخروج من الحرب الإمبريالية بأي ثمن.
غير أن لينين يعود لاحقا ليعترف أن توقيع الصلح ألحق صدعاً في العلاقة بين البلاشفة وبين الفلاحين، وينسب ذلك إلى سمة التذبذب الكامنة في الفلاحين، والتي يشرحها على النحو التالي: «إن الفلاحين – مثل سائر الشرائح البورجوازية الصغيرة بشكل عام – يحافظون على موقعهم الوسيط، في منتصف الطريق بين البورجوازية والبروليتاريا، حتى في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.
ويتابع لينين في موقع آخر: «إن تذبذب جمهور البورجوازية الصغيرة كان مشهودا بصورة خاصة في المناطق التي كان فيها وجود ونفوذ البروليتاريا أكثر ضعفا. في البداية لمصلحة البلاشفة عندما منحوهم الأرض، وعندما عاد الجنود المسرحون يحملون بشائر السلام. أصبح ضد البلاشفة عندما وافقوا، من أجل تشجيع تطور الثورة على نطاق دولي وحماية مركزها في روسيا، على توقيع معاهدة بريست، وبذلك «أهانوا» المشاعر الوطنية التي هي أعمق المشاعر لدى البورجوازية الصغيرة وأقدسها».
5- الريف # المدينة.
في أيار 1918، على أثر استفحال المجاعة في بتروغراد، أصدرت الحكومة مرسوما باحتكار الدولة لتجارة الحبوب، وتشكيل فصائل مسلحة من العمال، أطلق عليها اسم «فصائل الغذاء»، وتخويلها بمصادرة فوائض الحبوب لقاء أسعار ثابتة تحددها الدولة. في حزيران ضمت فصائل الغذاء أكثر من 3 آلاف عامل. في أواخر آب ارتفع العدد الى 17 ألفا. في 1919 كان ثمة أكثر من ألف فصيل تضم 30 ألف عامل.
في تشرين الثاني 1918، اتخذ مؤتمر السوفييتات السادس قرارا باعادة تنظيم السوفييتات الفلاحية على أساس اعادة شاملة لانتخابات الهيئات السوفييتية على مستوى القرية والناحية. وكلفت لجان الفلاحين الفقراء بالاشراف على هذه المهمة. وعبر هذه العملية تم «تحرير السوفييتات الفلاحية من هيمنة الكولاك». واندمجت لجان الفلاحين الفقراء بالسوفييتات الجديدة، وأصبحت جزءا منها.
6- المؤتمر الخامس للسوفييتات.
على إثر نداء اللجنة التنفيذية المركزية للسوڤييتات، باشر النشطاء البلاشفة حملة تعبوية في عموم البلاد لإعادة الانتخابات للمجالس السوڤييتية المحلية، وإقصاء المناشفة ويمين الإشتراكيين الثوريين الذين رفض قادتهم إدانة تمردات الحرس الأبيض، أو التنصل من أعضاء الحزبين الذين شاركوا في هذه التمردات. وفي 25/6/1918، بعد سلسلة من المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة التي ضمت عشرات الألوف من العمال، إتخذ سوڤييت موسكو قرارا باعادة الانتخابات، ودعوة العمال الى استرجاع تفاويض المندوبين الذين ينتمون لهذين الحزبين. وفي 20/6/1918، بدأت الانتخابات لسوفييت بتروغراد بمعركة حامية، لم تكن تخلو من اللجوء الى العنف من الطرفين.
وكانت نتيجة الإنتخابات فوز 405 مندوبين للبلاشفة، و 75 ليسار الاشتراكيين الثوريين، ورغم كل شيء فاز 59 مندوبا للمناشفة ويمين الاشتراكيين الثوريين. والصورة في موسكو وبتروغراد كانت، بدرجة أو بأخرى، تشكل نموذجا لتطور الحملة في مدن البلاد الأخرى. أما في الريف فقد كان الوضع مختلفا، حيث أن «نداء الاسترجاع» لم يجد طريقه إلى التنفيذ على صعيد الوحدات السوفييتية القاعدية، وكان هذا من بين العوامل وراء تشكيل لجان الفلاحين الفقراء التي كان من بين مهامها «تحرير سوڤييتات الفلاحين من هيمنة الكولاك»، وهي عملية صعبة ومعقدة استمرت شهورا عديدة. ولكن البلاشفة بالإتفاق مع يسار الإشتراكيين الثوريين، الذين كانت لهم أهدافهم الخاصة، سعوا الى حل المشكلة باختراق قاعدة التمثيل النسبي، التي كانت تراعى بدقة حتى ذلك الحين، واستخدام أغلبيتهم المطلقة لتصفية ممثلي المناشفة ويمين الإشتراكيين الثوريين، والحيلولة دون انتخابهم للهيئات السوڤييتية الأعلى.
وهكذا انعقد المؤتمر الخامس للسوڤييتيات في مطلع تموز 1918 بحضور 1164 مندوبا منتخبا، بينهم 773 للبلاشفة، و 370 ليسار الاشتراكيين الثوريين، و 10 غير حزبيين، و 8 لفرق يسارية صغيرة، و 7 مندوبين فقط للمناشفة ويمين الإشتراكيين الثوريين. وهو المؤتمر الذي أقر الدستور الدائم لجمهورية روسيا الإتحادية الإشتراكية السوڤييتية، وصادق على قانون بتشكيل الجيش الأحمر على أساس «التجنيد الإلزامي لأبناء الشعب العامل». وكانت اللجنة المركزية لحزب يسار الإشتراكيين الثوريين قد وضعت خطة لتنظيم عصيان مسلح لتولي السلطة، ووقتت موعد تنفيذها ليتزامن مع انعقاد المؤتمر الخامس للسوڤييتات.
أدى فشل العصيان إلى انهيار الحزب وانقسامه إلى 3 فرق، وجدت اثنتان منها طريقهما لاحقا للانضمام الى الحزب البلشفي، أما الثالثة فتلاشت تدريجياً. أما بشأن «تحرير» سوفييتات الريف من «هيمنة الكولاك»، فان الصعوبات الجمة التي انطوت عليها العملية، والبطء الشديد الذي اتسمت به، دفعت المؤتمر السادس للسوڤييتات إلى اتخاذ قرار في تشرين الثاني 1918، بإعادة تنظيم شاملة للسوڤييتات الفلاحية ودمجها بلجان فقراء الفلاحين. وأدى هذا القرار عمليا الى اغتراب قطاعات واسعة من الجماهير الفلاحية، وابتعادها عن المشاركة المباشرة في هيئات السلطة السوفييتية في الريف.
7- لماذا الخيار الاشتراكي ممكن في روسيا؟
لينين في كانون الثاني 1923، ردا على زوخانوف أحد منظري المناشفة، يقول: «إن تطور القوى المنتجة في روسيا لم يبلغ بعد المستوى الذي يجعل الإشتراكية ممكنة. كل أبطال الأممية الثانية يقرعون طبولهم مؤكدين هذه الموضوعة، وهم جميعا يسمون أنفسهم ماركسيين. ولكنهم يعجزون تماماً عن فهم ما هو حاسم في الماركسية: الديالكتيك الثوري. لقد شاهدوا، حتى الآن، الرأسمالية والديمقراطية البورجوازية في أوروبا الغربية تتبع مسارا محددا، وهم لا يستطيعون أن يتصوروا أن هذا المسار لا يمكن اتخاذه كنموذج إلا بتعديلات معينة. إنهم يتجاهلون ما أحدثته الحرب الإمبريالية. حتى بورجوازيات البلدان الأغنى لم تنجح حتى الآن، منذ الحرب، في إعادة العلاقات البورجوازية إلى وضعها «الطبيعي». ولا يخطر على بالهم أن روسيا، بالضبط لأنها تقف على الخط الفاصل بين البلدان (الرأسمالية) المتطورة، وبين البلدان التي اجتذبتها هذه الحرب للمرة الأولى نهائيا الى فلك التطور (الرأسمالي)، إن روسيا هذه يمكن أن، بل هي في الواقع محكومة، بأن تكشف عن بعض الخصائص المميزة. لقد تعلموا عن ظهر قلب الموضوعة القائلة أننا لسنا بعد ناضجين للإشتراكية.
وفي كراسه «حول الضريبة العينية» يقول لينين: «ان البروليتاريا الروسية متقدمة على البروليتاريا الألمانية، أو البريطانية من حيث قوتها السياسية، ولكنها متأخرة عنهما، من حيث درجة الاستعداد المادي والحضاري لبناء الإشتراكية. في هذه الحالة الفريدة سيكون خطأ قاتلا القول، إنه بسبب من الفارق بين قدراتنا الإقتصادية وقوتنا السياسية، ما كان ينبغي أن نتولى السلطة. هذه الحجة تتجاهل، أنه سيكون ثمة دوما فوارق من هذا النوع. ان هذه المفارقات قائمة دوما، ، في تطور الطبيعة كما في تطور المجتمع، وأنه فقط من خلال سلسلة من المحاولات (كل منها – إذا أخذت على انفراد – ستكون وحيدة الجانب، وستنطوي على العديد من التناقضات) يمكن للإشتراكية الكاملة أن تظهر إلى الوجود عبر التعاون الثوري بين بروليتاريي جميع البلدان».
وفي موقع آخر يقول لينين: عشرة الى عشرة عاما من العلاقات الطبيعية مع الفلاحين وسنضمن النصر ... والا فان ثمة 20 – 40 عاما من جحيم الارهاب الأبيض.
8- حول «وحدة الحزب».
قرار المؤتمر العاشر حول «وحدة الحزب» يعلن: «أن الوحدة والتماسك في صفوف الحزب... يصبحان ضرورة حيوية بخاصة في الوقت الراهن، حيث تتفاعل جملة من الظروف لتزيد من التذبذب بين صفوف الجمهور البورجوازي الصغير في البلاد... إن وحدة الحزب ووحدة إرادة طليعة البروليتاريا هي الشرط الأساسي لصون ديكتاتورية البروليتاريا».
في الفترة التي أعقبت المؤتمر الدولي يولي لينين إهتماما شخصيا لمسألة تطهير الحزب من العناصر غير البروليتارية،والعناصر المنتفعة والمتسلقة والبيروقراطية التي «تنخر طريقها كالديدان داخل صفوفه» على حد تعبيره. وبضغط متواصل منه، أقرت اللجنة المركزية، خلال النصف الثاني من عام 1921، حملة تطهير ترتب عليها فصل حوالي 170 ألف عضو، أي ما يوازي ربع العضوية الحزبية.
هكذا يرى لينين الوضع الملموس السائد في البلد حينذاك: «بعد جهد هائل لا مثيل له، فإن الطبقة العاملة في بلد فلاحي مدمر، الطبقة العاملة التي نال منها إلى حد كبير التفتت الاجتماعي والانحلال الطبقي، بحاجة إلى فترة من الزمن كي تنمي، وتدفع الى المقدمة بقوى جديدة، وكي تتمكن قواها القديمة المنهكة من التقاط أنفاسها. «إن بناء آلة حكومية وعسكرية قادرة على الصمود لامتحانات الفترة من 1917 الى 1921، كان جهدا جبارا أشغل وامتص واستنزف القوى الحقيقية للطبقة العاملة. وعندما يؤيد ميليوكوڤ (زعيم الأحرار الدستوريين البورجوازي) مطالب المناشفة بشأن «الاعتماد على القوى الحقيقية للطبقة العاملة»، فذلك لأن البورجوازية تأخذ بعين الاعتبار حقيقة الوضع: إن القوى الحقيقية للطبقة العاملة تتشكل في الوقت الحاضر من طليعة هذه الطبقة (أي الحزب الشيوعي)، يضاف إليها العناصر التي ضعفت لأقصى درجة بسبب عملية الإنحلال الطبقي، والتي أصبحت أكثر عرضة للتأثر بالتذبذب المنشفي، أو الفوضوي».
ملاحق القسم الثاني
1- في تقييم الدور التاريخي للبيروقراطية.
ان العديد من ماركسيي اليسار الجديد في الغرب، وكذلك التروتسكيين، يعترفون بالنهوض السريع والتطور النوعي الذي حققه الإتحاد السوڤييتي في ظل القيادة الستالينية، ثم القيادات البيروقراطية اللاحقة، ولكنهم ينسبون هذا التطور إلى «أفضليات الإشتراكية»، وليس إلى دور البيروقراطية التي ينكرون عليها أي دور تاريخي تقدمي، بل يذهب معظمهم إلى أنها كانت عقبة بوجه التطور، الذي كان يمكن أن يكون أسرع، وأكثر توازنا لولا الاحتكار البيروقراطي للسلطة، ويبذلون جهودا فائقة للبرهنة على أن نهج ستالين الإقتصادي والقمعي أدى الى خسائر كان يمكن تجنبها.
أما الحجة القائلة بأن وتيرة التطور السوڤييتية كانت نتيجة «أفضليات الإشتراكية»، وأن البيروقراطية لم تلعب أي دور تاريخي تقدمي في هذا التطور، فهي في الواقع حجة تتجاهل الدور الحاسم الذي لعبته البيروقراطية في كسر مأزق الحلقة المفرغة، التي كانت تعرقل إنجاز التراكم الضروري من أجل التصنيع والتنمية السريعة لقوى الإنتاج، بل وحتى في النشر السريع، لنمط الملكية الإشتراكي (ممثلا بشكله الانتقالي: ملكية الدولة)، ونمط الملكية التعاوني الانتقالي في الزراعة (الكولخوزي)، والذي بدونه ما كان يمكن «لأفضليات الاشتراكية» أن تبرز وتؤكد نفسها بهذه السرعة.
وتعود جذور هذا الخطأ إلى الخلل الجوهري الذي تنطوي عليه نظرية تروتسكي الأصلية المعروفة باسم «نظرية الثورة الدائمة». فهذه النظرية، اذ تبرز أهمية الدور القيادي للطبقة العاملة في الثورة الروسية، تميل إلى تجاهل المعضلات التي تنطوي عليها ممارسة هذا الدور في مجتمع متخلف تشكل فيه الطبقة العاملة أقلية في المجتمع، وتقفز فيه إلى المقدمة لها أولوية انجاز المضمون الاجتماعي للثورة الديمقراطية، تمييزا لها عن الثورة الاشتراكية، أي أولوية إنجاز التراكم الضروري لتنمية قوى الإنتاج إلى المستوى الذي بلغته البلدان الرأسمالية المتقدمة، والذي هو وحده يشكل القاعدة المادية لعملية انتقال «طبيعية» إلى الإشتراكية.
ان هذا الخلل، هو الذي يسحب نفسه أيضا على التحليل المتميز لأزمة المجتمع السوفييتي، الذي يقدمه ارنست ماندل، أبرز منظري التروتسكية الحديثة في كتابه حول البيريسترويكا. فالمشكلة في هذا التحليل أنه يطبق المسطرة التروتسكية التقليدية التي لا تأخذ بعين الإعتبار الوظيفة التاريخية المزدوجة لثورة أكتوبر، وما تمليه من أولوية لعملية إنجاز التراكم، وما تفرضه من متطلبات. ولذلك فهو يحاكم وضع الإتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن 20، وفقا لنفس المقاييس والمفاهيم التي أنتجها تروتسكي لمحاكمة الوضع في عشرينياته وثلاثينيات، مهملا الفارق الجوهري في درجة تطور القوى المنتجة، وما يمليه بالضرورة من انعكاسات على مبادىء الديمقراطية العمالية وتطبيقاتها، وعلى مغزى ووظيفة السياسات الإقتصادية، في كل من الحالتين. وهذا ما يدفعه، مستشهدا بتفسخ وطفيلية البيروقراطية في ثمانينيات القرن 20، إلى إنكار الدور التاريخي الذي لعبته في ثلاثينياته.
في المقابل ينبغي أن ننوه بأهمية المنحى الذي يتخذه سمير أمين، في تحليله للتجربة العملية لمسار الانتقال الى الاشتراكية في بلدان رأسمالية متخلفة، والذي يلخصه كتابه الهام «ما بعد الرأسمالية» وفي عدد من مقالاته الأخرى. انه يلتقط بدقة وظيفة ثورة أكتوبر فيما يسميه «فك الارتباط» أي الافلات من مفعول قانون القيمة الذي يسيطر على النظام الرأسمالي العالمي في عصر الامبريالية، والذي يفرض التطور المتفاوت ويحكم على البلدان المتخلفة بمزيد من التخلف.
2- في احتساب الناتج القومي ومعدلات نموه.
يشير بعض المحللين الاقتصاديين في الغرب، الى أن الأساليب والمقاييس التي يستخدمها السوفييت في احتساب الناتج القومي ومعدلات نموه، تنطوي على امكانية المبالغة في تقدير حجم الناتج الاجمالي، وبالتالي معدلات النمو، بينما الناتج النهائي ينمو في الواقع بوتيرة أقل.
ان الفارق الكبير نسبيا فيما يتعلق بتقديرات الدخل القومي، يعود جزئيا الى الاختلاف في مفاهيم الدخل القومي وأساليب احتسابه بين النظامين، وهو على كل حال فارق يتضاءل في السنوات الأخيرة. ان المسافة الفعلية بين التقديرين يمكن تبنيها من الفارق في نسب نمو الناتج الصناعي، وهي لا تتجاوز نقطتين مئويتين في أقصى الحالات.
3- أهمية الانسجام والتوافق بين نمط الملكية، وبين سلطة الادارة.
في «الرأسمالية القائمة بالفعل»، في مراكزها المتطورة، تسيطر الإحتكارات العملاقة على القطاعات الرئيسية من الاقتصاد، وعلى نسبة كبيرة من النشاط الإقتصادي بمجمله. إن أسلوب تنظيم الإنتاج داخل المؤسسة الاحتكارية هو أسلوب أوامري بحت، اذ تتخذ مجالس الادارة المشكلة من كبار المساهمين، وأحيانا رؤساؤها كأفراد، كافة القرارات المتعلقة بحجم الانتاج، ونوعيته، وتأمين الموارد، وحجم الاستثمار وأولوياته، وحجم قوة العمل وتنظيمها. وفروع المؤسسة الاحتكارية، أو شركاتها التابعة والمقاولة، تتلقى عادة هذه القرارات كأوامر وتعمل على تنفيذه.
ان علاقة مالكي المؤسسة بهؤلاء المنتجين، والمسؤولين عن الادارة المباشرة للانتاج، هي علاقة أوامرية بحتة. ومع ذلك، ففي الاقتصاد الرأسمالي المتطور، باعتراف جميع نظريات علم الاقتصاد البورجوازي، يبرز التناقض بين درجة الكفاءة والتنظيم العالية جدا على مستوى المؤسسة، وبين فوضى الانتاج التي تسود على مستوى الاقتصاد ككل.
إن بروز هذا التناقض، كما أسلوب معالجته، يؤكدان حقيقة أنه في الاقتصاد الرأسمالي المتطور بقدر ما تسود الأوامرية، بقدر ما تزداد درجة كفاءة وتنظيم الإنتاج، وبقدر ما تسود المنافسة الناجمة عن «روح المبادرة المرتبطة بالملكية الخاصة»، بقدر ما تزداد فوضى الانتاج، وذلك خلافا للأساطير التي يروجها علماء الإقتصاد البورجوازي.
ماذا عن علاقة المنافسة بتحسين نوعية المنتجات؟
أولا: يجب أن نسجل أن الكثير من المنتجات التي تجد رواجا في السوق الرأسمالية لا تفعل ذلك بفضل التحسن الفعلي في نوعيتها، بل بفعل انخفاض كلفتها مقترنا بشيء من التحسن في مظهرها الخارجي، أو أسلوب تعبئتها، وتغليفها، وتسويقها.
وثانيا: ان قوانين المنافسة الاحتكارية تولّد بالأساس دافعا الى تخفيض كلفة الانتاج، وهو الدافع الذي يحفز على التحديث التكنولوجي والإقتصاد في الموارد ومدخلات الإنتاج. والتحسن النوعي في البضاعة المنتجة، حيثما يتحقق، يأتي كناتج عرضي وثانوي، وبالتالي فإن الموضوعة القائلة بأن المنافسة وآليات السوق هي التي تحفز على تحسين النوعية، هي أيضا إحدى أساطير علم الإقتصاد البورجوازي. فقوانين المنافسة الاحتكارية، خاصة، تجعل من تحسين النوعية إعتبارا ثانويا وناتجا عرضيا، وتجعل خفض الكلفة الاعتبار الرئيسي المخططي الإنتاج.
ان المعضلة الحقيقية للإقتصاد السوڤييتي، تعود إلى التناقض بينن نمط الملكية (العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية) وبين احتكار سلطة الإدارة وتركيزها بأيدي بيروقراطيين ليسوا هم مالكيها الحقيقيين.
4- توزيع العضوية الحزبية على مختلف الفئات الاجتماعية.
في أواخر ثمانينيات القرن 20 (1988/1989) كان حجم القوة العاملة (مجموع عدد السكان الفعالين) يوازي 135 مليونا من بين اجمالي عدد السكان البالغ 280 مليون. وكان عدد العاملين مقابل أجر أو راتب يوازي 115 مليون.
5- امتيازات النومنكلاتورا.
لنتذكر أن أحد القوانين الرئيسية لعمل النظام البيروقراطي هو أن حجم ونوعية الإمتيازات المتاحة للبيروقراطي يرتبط إرتباطا وثيقاً بالموقع الذي يحتله في سلم الهرم. وهذا القانون ينطبق أيضا على امتيازات الفئة العليا من البيروقراطية، أو ما يسمى بالنومنكلاتورا. فأعضاء المكتب السياسي لهم تسهيلات معينة محددة بدقة. وأعضاء اللجنة المركزية والوزراء كذلك. وهكذا، نزولا على مراتب السلم. وإذا فقد عضو المكتب السياسي موقعه، فإنه يفقد امتيازاته حكما. وكذلك الأمر، بالنسبة لشخصيات المراتب الأخرى.
6- نظام السيطرة البيروقراطي وتشكل مجموعات المصالح.
إن النزعة نحو تكتل المجموعات والزمر البيروقراطية على صعيد محلي تبدأ من مستوى إدارات المؤسسات. ففي مواجهة الانقطاعات المتكررة في توريدات المواد الضرورية للإنتاج، أو بهدف التحايل على المخطط المركزي للحصول على موارد أكبر مقابل تنفيذ أهداف الخطة، تلجأ هذه الإدارات إلى الاتصال الشخصي المباشر، ونسج العلاقات، وعقد الصفقات فيما بينها، وفق آليات تبادل المنافع الشهيرة، من أجل ضمان تزويد بعضها بعضا بالموارد اللازمة للإنتاج والتعاون، لإقناع السلطات الأعلى أو مركز التخطيط لتمرير هذه الصفقات، أو للحصول على موارد أكثر، بحجة كونها ضرورية للإنتاج. ومن الطبيعي أن يكون المستوى المحلي، الجغرافي أو المناطقي، هو المستوى الذي يسهل فيه نشوء هذه التكتلات والمراكز، أولا بسبب المعرفة الشخصية المباشرة، وبسبب تنوع المشاريع، واعتمادها المتبادل والقرب الجغرافي بين بعضها البعض، ثانيا.
وترتقي هذه العملية الى مستوى أعلى عندما تبدأ هذه التكتلات باستمالة، أو بشراء العطف والتأييد والتورط من جانب المسؤولين الحزبيين والحكوميين في المنطقة، أو الإقليم بهدف تغطية وتسهيل صفقاتها، والدفاع عن مصالحها لدى المركز، لقاء منافع مادية، أو دعم سياسي يقدم إلى هؤلاء المسؤولين.
هذه النزعة الائتلافية تتعزز أيضا بفعل النظام البيروقراطي لاختيار الكوادر وترقيتها، حيث يتيح هذا النظام نشوء مراكز تستقطب حولها معارفها وصداقاتها، وتشكل مجموعات ضغط غير رسمية على مختلف المستويات، بما في ذلك مستوى المركز. أغانبغيان يشير إلى هذه النزعة مثلا في كتابه حول البيرويسترويكا.
ان هذه الظاهرة تبرز أيضا في العديد من بلدان شرق أوروبا، مما يعزز القناعة بأنها ليست نتيجة للمعضلات المتولدة عن مركزية التخطيط في بلد شاسع ذي اقتصاد ضخم ومتشعب كالإتحاد السوڤييتي، بقدر ما هي نتيجة السمات المتأصلة في نظام السيطرة البيروقراطي ونمط إدارته للإقتصاد، والمصالح التي يولدها، السمات التي تزداد تفاقما في ظل الإصلاحات القائمة على تعزيز إستقلالية المشاريع. بعض الإقتصاديين المجريين، مثلا، يشيرون إلى هذه الظاهرة في هنغاريا وينسبون تفاقمها إلى «تعدد المراكز» التي تنمو في ظل الإصلاحات الليبرالية المعتمدة، وميلها لتحويل البنية الإقتصادية إلى شبكة فدرالية من المراكز والمجموعات التي تكتسب لنفسها استقلالا أكبر.
قائمة تضم بعض المصطلحات والمعاني وردت في الكتاب:
شيوعية الحرب: هي السياسة العامة الاقتصادية، الاجتماعية، العسكرية، السياسية التي اعتمدتها الحكومة البلشفية في روسيا ما بين سنة 1918 – 1921، اتسمت سياسة شيوعية الحرب بتعجيل اجراءات «نزع ملكية الغاصبين» وبالمصادرة القسرية لفائض الحبوب من الفلاحين لقاء أسعار ثابتة تدفع بالروبل الورقي وفرض احتكار الدولة لتجارة الغذاء.
ديكتاتورية البروليتاريا: أي الحفاظ بقوة على الدور القيادي للطبقة العاملة عبر صون تحالفهما مع الفلاحين.
السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب): أعطى المؤتمر العاشر للحزب (آذار – نيسان 1921) باقتراح من لينين، اشارة الانطلاق لبلورة خطة عرفت باسم (النيب)، كانت النيب تراجعا استراتيجيا لصالح الفلاحين ورأس المال المتوسط والصغير عموما، ولاحقا لصالح رأسمالية الدولة التي تجسدت بالمشاركة مع رأس المال الكبير المحلي والأجنبي. وعاد لينين ينفض الغبار عن نظريته حول التعايش والصراع بين الأنماط الاقتصادية الخمسة في المجتمع الروسي المتخلف خلال مرحلة الانتقال.
البونابارتية: ظاهرة محافظة وليست ظاهرة ثورية، حتى بالمقياس البورجوازي، تنشأ عن التوازن بين الطبقتين المتناحرتين في المجتمع، البروليتاريا والبورجوازية، وليس عن التناقضات داخل الطبقة الثورية الصاعدة، أو التحالف الطبقي الثوري الذي فاز بالسلطة، ووظيفة استقلال الدولة البونابارتية هو حفظ التوازن بين الطبقتين المتناحرتين، الى ان تتمكن الطبقة الحاكمة (البورجوازية) من السيطرة عليه بالوسائل العادية.
الاشتراكية المتطورة: مرحلة انتقالية تقع بين المجتمع الاشتراكي وبين الشيوعية الكاملة، والدخول في حقبة السير الحثيث نحو المجتمع الشيوعي الكامل، وليكرس في هذا السياق تبني موضوعتي «حزب الشعب كله»، و «دولة الشعب كله».
الاستلاب الاقتصادي: تغريب الطبقة العاملة عن ممارسة سلطتها المفترضة على وسائل الانتاج التي هي رسميا ملكيتها الجماعية وتغريبها أيضا عن التحكم بناتج عملها.
الاستلاب السياسي: تغريب الطبقة العاملة بسوادها الأعظم عن ممارسة السلطة السياسية في دولتها.
البيريسترويكا: سياسة اعادة البناء، وهي سياسة رسمية للحزب في المؤتمر السابع والعشرين المنعقد في مطلع 1986، انطوى برنامج البيرويسترويكا، كما أقره المؤتمر، على تشخيص نقدي، صحيح اجمالا، لمظاهر الخلل التي كانت تعترض نمو الاقتصاد وتطور المجتمع، ولكن هذا التشخيص كان يقتصر على نقد مظاهر الخلل دون تحليل جوهرها الاجتماعي وأسبابها الكامنة.
الغلاسنوست: العلانية أو الشفافية.
الثورة الديمقراطية: هي المغزى الاجتماعي الرئيسي للانتفاضة الفلاحية والمدخل الذي لا مفر منه للارتقاء بالمجتمع من حالة التبعية والتخلف الى مستوى التطور المادي والحضاري الذي أحرزته الرأسمالية في مراكزها المتقدمة.
الثورة الاشتراكية: هي التعبير عن مصلحة البروليتاريا الثورية الظافرة بالسلطة، على رأس الانتفاضة الفلاحية، أي مصلحتها في مباشرة الانتقال الى الاشتراكية.
البيروقراطية: شريحة إجتماعية متميزة، تنبثق من بين صفوف الطبقة العاملة، وتنمو بفعل تخلف المجتمع، والتناقضات التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية في مراحلها المبكرة. وهي تقيم سلطتها على قاعدة نظام الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية، الذي هو أيضا الأساس الإجتماعي لسلطة الطبقة العاملة، والذي يحدد المضمون الطبقي للدولة السوڤييتية بصفتها دولة عمالية، رغم بقرطتها.
النومنكلاتورا: الفئة العليا من البيروقراطية.
الكولخوزات: أحد أشكال المزارع الجماعية في الاتحاد السوفييتي.
الانتلجنتسيا: هي الطبقة الاجتماعية المتعلمة (النخبة المثقفة).
الكولاك: فئة من الفلاحين الأغنياء.