النموذج السوفييتي لعملية الانتقال الى الاشتراكية

مايو 31, 2024

خيارات المشاركة

الدراسات

النظام السياسي الفلسطيني والإستحقاق الديمقراطي المفوَّت

الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها

الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024

وهكذا تم افشال اسرائيل ... تطور الاستراتيجية الاسرائيلية في ادارة الصراع مع قطاع غزة

من وثائق عقد النهوض والإنتصارات... 1972 ــ 1981

المادة‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬ايدينا‭ (‬النموذج‭ ‬السوفييتي‭ ‬لعملية‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭) ‬هي‭ ‬صيغة‭ ‬موجزة‭ ‬لكتاب‭ ‬صدرت‭ ‬الطبعة‭ ‬الاولى‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬آب‭ ‬1993‭ ‬في‭ ‬اطار‭ ‬معالجة‭ ‬الانهيار‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬واعيد‭ ‬تنقيحه‭ ‬بصيغة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬حزيران‭ ‬2020‭ . ‬وهو‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬للجبهة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لتحرير‭ ‬فلسطين،‭ ‬والناشر‭ ‬المركز‭ ‬الفلسطيني‭ ‬للتوثيق‭ ‬والمعلومات‭ ‬‮«‬ملف‮»‬،‭ ‬وتوزيع‭ ‬الدار‭ ‬الوطنية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬ودار‭ ‬التقدم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬وقد‭ ‬قام‭ ‬مكتب‭ ‬التثقيف‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬الجبهة‭ ‬باعادة‭ ‬اختصار‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭..‬

كما‭ ‬ان‭ ‬الكتاب‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬المؤتمر‭ ‬الوطني‭ ‬الثالث‭ ‬للجبهة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لتحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1994‭. ‬ويتناول‭ ‬في‭ ‬أقسامه‭ ‬الثلاثة‭ ‬تجربة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬سبعة‭ ‬عقود‭ ‬1917‭-‬1991‭.‬

يغطي‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬الاشتراكية‭ ‬العظمى‭ ‬عام‭ ‬1917‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬أوزارها‭ ‬عام‭ ‬1945‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1950،‭ ‬عام‭ ‬انتهاء‭ ‬العمل‭ ‬بالخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الرابعة‭ ‬‮«‬1945‭-‬1950‮»‬‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬ما‭ ‬دمرته‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬عشية‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬الكورية‭ ‬1950‭-‬1953‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬والتوازن‭ ‬الدولي،‭ ‬ونهوض‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬والحروب‭ ‬بالوكالة،‭ ‬يغطي‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1950‭-‬1991‭. ‬في‭ ‬فترة‭ ‬التطور‭ ‬المتسارع‭ ‬للشروط‭ ‬المادية‭ ‬والحضارية‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬بمنحاها‭ ‬الصاعد،‭ ‬ثم‭ ‬جمودها‭ ‬فانحدارها،‭ ‬ودخولها‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ ‬وتفكك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬إلى‭ ‬15‭ ‬جمهورية‭.‬

أما‭ ‬القسم‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬فيقوم‭ ‬على‭ ‬فصلين‭ ‬وملحقين‭ ‬توضيحيين‭ ‬للقسمين‭ ‬الأول‭ ‬والثاني،‭ ‬ويحتوي‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬19‭ ‬موضوعة‭ ‬نقدية‭ ‬للتجربة‭ ‬السوفييتية‭ ‬بمسارها‭ ‬الخاص‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭. ‬بينما‭ ‬يحتوي‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬على‭ ‬10‭ ‬دروس‭ ‬مستخلصة‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية،‭ ‬ويسري‭ ‬مفعولها‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬المجتمعات‭ ‬الانتقالية،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬فهي‭ ‬ذات‭ ‬فائدة‭ ‬لهموم‭ ‬الحركة‭ ‬اليسارية‭ ‬والعمالية،‭ ‬الحركة‭ ‬المناهضة‭ ‬للرأسمالية‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الإمبريالية‭ ‬المتطورة،‭ ‬مرحلة‭ ‬العولمة‭.‬

القسم‭ ‬الأول‭:‬

الفصل‭ ‬الأول‭: ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬والتناقضات‭ ‬في‭ ‬مسارها

1-‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭: ‬مضمونها‭ ‬الطبقي،‭ ‬شروطها‭ ‬التاريخية،‭ ‬واجراءاتها‭ ‬المباشرة‭.‬

ورثت‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬عن‭ ‬روسيا‭ ‬القيصرية‭ ‬ارثا‭ ‬من‭ ‬التخلف،‭ ‬فالتطور‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬يتسارع‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬19،‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬بقايا‭ ‬نظام‭ ‬القنانة‭ ‬الاقطاعية،‭ ‬ويجري‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الأجنبي‭ (‬الألماني،‭ ‬البريطاني،‭ ‬الفرنسي‭) ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬قطاعات‭ (‬البنوك،‭ ‬الكهرباء،‭ ‬النفط‭ ....‬الخ‭).‬

في‭ ‬مؤلف‭ ‬لينين‭ (‬الامبريالية‭ ‬أعلى‭ ‬مراحل‭ ‬الرأسمالية‭) ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬231‭ ‬يوضح‭ ‬بأن‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬العامل‭ ‬للمصارف‭ ‬الروسية‭ ‬تملكه‭ ‬فروع‭ ‬لبنوك‭ ‬أجنبية،‭ ‬وفي‭ ‬الصفحة‭ ‬232‭ ‬يوضح‭ ‬بأن‭ ‬المصارف‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬بتروغراد‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬رأسمال‭ ‬الفرنسي‭ ‬بنسبة‭ ‬55‭% ‬والألماني‭ ‬35‭% ‬والبريطاني‭ ‬10‭% ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬المصارف‭ ‬مملوكة‭ ‬عمليا‭ ‬لرأس‭ ‬المال‭ ‬الأجنبي‭.‬

2-‭ ‬عند‭ ‬منعطف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كانت‭ ‬نسبة‭ ‬السكان‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬الزراعة‭ ‬تفوق‭ ‬77‭% ‬والذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬والصناعة‭ ‬17‭.‬5‭% ‬والباقي‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬الغير‭ ‬منتمية‭ (‬النبلاء‭ ‬–‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬–‭ ‬الجيش‭ ....‬الخ‭) ‬حيث‭ ‬قدرت‭ ‬نسبة‭ ‬البروليتاريين‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬بأجر‭ (‬حوالي‭ ‬18‭% ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬السكان‭)‬،‭ ‬أشباه‭ ‬البروليتاريا‭ (‬الفلاحين‭ ‬المعدمين‭ ‬–‭ ‬الحرفيي‭ ‬الفقراء‭ ‬نسبة‭ ‬33‭%)‬،‭ ‬الفلاحون‭ ‬الصغار‭ ‬والمتوسطون‭ ‬39‭%.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1903،‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬العمال‭ ‬في‭ ‬المشاريع‭ ‬الرأسمالية‭ ‬يوازي‭ ‬2‭.‬9‭ ‬مليون‭ ‬عامل،‭ ‬أما‭ ‬الصناعة‭ ‬حوالي‭ ‬1‭.‬6‭ ‬مليون‭ ‬عامل‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1908،‭ ‬ارتفعت‭ ‬أعداد‭ ‬المنشآت‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصناعة‭ ‬وكانت‭ ‬تستخدم‭ ‬2‭.‬25‭ ‬مليون‭ ‬عامل‭ ‬من‭ ‬الجنسين،‭ ‬ان‭ ‬درجة‭ ‬تخلف‭ ‬التطور‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬يمكن‭ ‬تبنيها‭ ‬من‭ ‬مقارنة‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المعطيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بين‭ ‬الامبراطورية‭ ‬الروسية‭ ‬وبين‭ ‬القارة‭ ‬الأميركية،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مساحة‭ ‬خطوط‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬طاقة‭ ‬الأسطول‭ ‬التجاري،‭ ‬حجم‭ ‬التجارة‭ ‬الخارجية‭ ‬وانتاج‭ ‬الفحم‭ ‬والحديد‭.‬

وبين‭ ‬عامي‭ ‬1890‭ ‬و‭ ‬1913،‭ ‬ازداد‭ ‬الطول‭ ‬الاجمالي‭ ‬لخطوط‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لوحدها‭ ‬بنسبة‭ ‬145‭%‬،‭ ‬ونسبة‭ ‬الزيادة‭ ‬للامبراطورية‭ ‬الروسية‭ ‬46‭% ‬فقط‭.‬

ما‭ ‬هي‭ ‬الخلاصة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬استنتاجها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة؟

ان‭ ‬روسيا‭ ‬الامبرطورية،‭ ‬عشية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬كانت‭ ‬بلدا‭ ‬رأسماليا‭ ‬شديد‭ ‬التخلف‭. ‬الثورة‭ ‬البرجوازية‭ ‬–‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بدأت‭ ‬انطلاقتها‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬عام‭ ‬1905‭ ‬متأخرة‭ ‬بحوالي‭ ‬قرن‭ ‬الى‭ ‬قرنين،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬دخلت‭ ‬مأزقا‭ ‬تاريخيا‭ ‬بسبب‭ ‬جبن‭ ‬البرجوازية‭ ‬الليبرالية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعجز‭ ‬الفلاحين‭ ‬عن‭ ‬شق‭ ‬طريق‭ ‬التحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬بدون‭ ‬قيادة‭ ‬البروليتاريا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

دخلت‭ ‬روسيا‭ ‬وهي‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬احتدام‭ ‬وتفجر‭ ‬التناقضات‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الامبريالية‭ ‬العظمى‭ ‬في‭ ‬صراعها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اعادة‭ ‬اقتسام‭ ‬العالم‭.‬

أدت‭ ‬ورطة‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬الى‭ ‬تعميق‭ ‬شقاء‭ ‬وبؤس‭ ‬العمال‭. ‬وجرى‭ ‬تجنيد‭ ‬15‭ ‬مليون‭ ‬فلاح‭ ‬قسرا‭ ‬في‭ ‬الجيش،‭ ‬كانوا‭ ‬هم‭ ‬طليعة‭ ‬وأداة‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلاحية‭ ‬التي‭ ‬انتظرها‭ ‬وتوقعها‭ ‬لينين‭.‬

المشكلات‭ ‬المستعصية‭ ‬للتحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬حلا‭ ‬على‭ ‬ايدي‭ ‬الحكومات‭ ‬البورجوازية‭ ‬التي‭ ‬تعاقبت‭ ‬على‭ ‬السلطة‭. ‬وبقيت‭ ‬معادية‭ ‬للثورة‭ ‬ورافضة‭ ‬الاستجابة‭ ‬لمطالب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الملحة‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الحكومات‭ ‬العاجزة،‭ ‬تنامت‭ ‬بسرعة‭ ‬سلطة‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والجنود‭ ‬المنظمين‭ ‬في‭ ‬السوفييتات‭. ‬والضاغطين‭ ‬بقوة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬انهاء‭ ‬الحرب،‭ ‬وطالبت‭ ‬بوضع‭ ‬الحكومة‭ ‬البرجوازية‭ ‬المؤقتة‭ ‬جانبا،‭ ‬وتولي‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬سوفييتات‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والجنود‭.‬

انعقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثاني‭ ‬للسوفييتات‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬البلاشفة‭ ‬أغلبية‭ ‬فيه‭ ‬وأعلن‭ ‬انتقال‭ ‬السلطة‭ ‬الى‭ ‬سوفييتات‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والجنود‭ ‬واقامة‭ ‬الحكومة‭ ‬السوفييتية‭. ‬وأقر‭ ‬المؤتمر‭ ‬مرسومي‭ ‬السلام‭ ‬والأرض‭. ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬أقرت‭ ‬اللجنة‭ ‬التنفيذية‭ ‬المركزية‭ ‬المنتخبة‭ ‬عدة‭ ‬مراسيم‭ ‬بفرض‭ ‬الرقابة‭ ‬العمالية‭ ‬في‭ ‬المصانع‭ ‬وتأميم‭ ‬المصارف‭ ‬والسكك‭ ‬الحديدية‭. ‬واعترفت‭ ‬باستقلال‭ ‬فلندا‭ ‬واوكرانيا،‭ ‬وتبنت‭ ‬عام‭ ‬1918‭ (‬الاعلان‭ ‬حول‭ ‬حقوق‭ ‬الشعب‭ ‬العامل‭) ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬روسيا‭ ‬جمهورية‭ ‬فيدرالية،‭ ‬السلطة‭ ‬فيها‭ ‬لسوفييتات‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والجنود‭.‬

ان‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬قد‭ ‬أعلن‭ ‬انتصارا‭ ‬لـ‭ (‬دكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭) ‬فان‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬الحقيقي‭ ‬للسلطة‭ ‬التي‭ ‬انبثقت‭ ‬عن‭ ‬الثورة،‭ ‬والقاعدة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬كانت‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬تحالف‭ ‬شعبي‭ ‬واسع‭ ‬عماده‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحون‭. ‬والمهمات‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬أمام‭ ‬الثورة‭ ‬ليست‭ ‬اشتراكية‭ ‬مباشرة‭ ‬ولا‭ ‬انتقالية،‭ ‬بل‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬ديمقراطية‭.‬

اما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فان‭ ‬تأميم‭ ‬الأرض‭ ‬والمصارف‭ ‬والتجارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اجراء‭ ‬اشتراكيا،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬تدبيرا‭ ‬ديمقراطيا‭ ‬–‭ ‬بورجوازيا،‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يشجع‭ ‬نمو‭ ‬وتطور‭ ‬علاقات‭ ‬الانتاج‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وليس‭ ‬العكس‭.‬

2-‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭: ‬التناقضات‭ ‬في‭ ‬مسارها‭.‬

ان‭ ‬غياب‭ ‬قدرة‭ ‬الفلاحين‭ ‬بحكم‭ ‬عدم‭ ‬تجانسهم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬قيادة‭ ‬طبقية‭ ‬منسجمة،‭ ‬فان‭ ‬قيادة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬هي‭ ‬ضمان‭ ‬استمرار‭ ‬السلطة‭ ‬السوفييتية‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬هي‭ ‬أقلية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬فان‭ ‬استمرار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوفييتية‭ ‬كان‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬صون‭ ‬التحالف‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الفلاحين‭. ‬فالتناقض‭ ‬الجوهري‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬العملية‭ ‬الثورية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬القيادة‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تباشر‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭. ‬وفي‭ ‬ظروف‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف،‭ ‬وتراكم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬تمكن‭ ‬البروليتاريا‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬المسألة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تعجيل‭ ‬عملية‭ ‬التراكم‭ ‬يتطلب‭ ‬اقتطاع‭ ‬نسبة‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬نمو‭ ‬التناقض‭ ‬الذي‭ ‬يحتدم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتسارع‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

1-‭ ‬أول‭ ‬تجليات‭ ‬هذا‭ ‬التناقض،‭ ‬كان‭ ‬الصدام‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬السوفييتية‭ ‬وبين‭ ‬الجمعية‭ ‬التأسيسية،‭ ‬الصدام‭ ‬بين‭ ‬البروليتاريا‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬ثورة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬وبين‭ ‬رمز‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ومطلبها‭ ‬السياسي‭ ‬الرئيسي‭ (‬الجمعية‭ ‬التأسيسية‭).‬

ويكمن‭ ‬جوهر‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬من‭ ‬شقين‭ ‬أولهما‭: ‬أن‭ ‬تأميم‭ ‬الأرض‭ ‬وتوزيعها‭ ‬على‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تخلف‭ ‬مستوى‭ ‬انتاجية‭ ‬الزراعة،‭ ‬يقود‭ ‬الى‭ ‬الارتداد‭ ‬الى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الطبيعي‭. ‬وثانيهما‭: ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬الاجراء‭ ‬يؤدي‭ ‬الى‭ ‬نشر‭ ‬العلاقات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وتشجيع‭ ‬نموها‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬ويقوض‭ ‬الأساس‭ ‬المادي‭ ‬–‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لدور‭ ‬البروليتاريا‭.‬

2-‭ ‬التناقض‭ ‬الجوهري‭ ‬الثاني‭: ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬الى‭ ‬موقع‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬بفعل‭ ‬وقوفها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬السلطة‭ ‬–‭ ‬مضطرة‭ ‬للنهوض‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬وتنمية‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬تخلفت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المحلية‭ ‬عن‭ ‬النهوض‭ ‬بها‭.‬

هناك‭ ‬مسافة‭ ‬بين‭ ‬اقرار‭ ‬تدابير‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬تفتح‭ ‬الطريق‭ ‬لنمو‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬وانجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري،‭ ‬وبين‭ ‬التحقق‭ ‬الفعلي‭ ‬لهذا‭ ‬النمو‭ ‬والانجاز‭ ‬الواقعي‭ ‬للتراكم،‭ ‬وهنا‭ ‬ينمو‭ ‬تناقض‭ ‬قوامه‭ ‬ان‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬ان‭ ‬تحقق‭ ‬نمو‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭ (‬الى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬أنجزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتقدمة‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللجوء‭ ‬الى‭ ‬الوسائل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬نفسها‭. ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬انجاز‭ ‬التراكم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشجيع‭ ‬نمو‭ ‬علاقات‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وتغلغلها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬دون‭ ‬حدود‭.‬

ان‭ ‬غياب‭ ‬تطور‭ ‬ثوري‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬تنشأ‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬تاريخية‭ ‬طويلة‭ ‬يختلط‭ ‬فيها‭ ‬ويتداخل‭ ‬أداء‭ ‬المهمتين،‭ ‬الدورين‭ ‬التاريخيين‭: ‬انجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري،‭ ‬والتحويل‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للمجتمع‭ ‬ولعلاقات‭ ‬الانتاج‭ ‬وهما‭ ‬مهمتان‭ ‬ليستا‭ ‬بالضرورة،‭ ‬ولا‭ ‬دوما‭ ‬متوافقتين،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬أحيانا‭ ‬متناقضتان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العملي‭.‬

هذا‭ ‬التناقض‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬انجاز‭ ‬التراكم‭ ‬تتطلب‭ ‬اقتطاع‭ ‬نسبة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتخصيصها‭ ‬لأغراض‭ ‬تطوير‭ ‬البنية‭ ‬الاساسية‭ ‬لقوى‭ ‬الانتاج،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬فائض‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للفلاحين‭ ‬المتولد‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬المأجور،‭ ‬فائض‭ ‬عمل‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

3-‭ ‬التناقض‭ ‬الجوهري‭ ‬الثالث‭: ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬وبين‭ ‬محيطها،‭ ‬التضاد‭ ‬والصراع‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬الرجعية‭ ‬المضادة‭ ‬للثورة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي،‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬الامبريالية‭ ‬العالمية‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬نتيجة‭ ‬للخيار‭ ‬الثوري‭ ‬الذي‭ ‬تبناه‭ ‬البلاشفة،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬بالعكس‭ ‬نتيجة‭ ‬لهذه‭ ‬التناقضات،‭ ‬والسبيل‭ ‬التاريخي‭ ‬الوحيد‭ ‬الممكن‭ ‬لتجاوزها‭ ‬والتغلب‭ ‬عليها‭.‬

ان‭ ‬الضرورات‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬الثلاث‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬اتخذت‭ ‬طابع‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬طويلة‭ ‬ومعقدة‭ ‬ذات‭ ‬مسار‭ ‬ملء‭ ‬بالتعرجات،‭ ‬وفي‭ ‬اطار‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬يمكننا‭ ‬ان‭ ‬نميز‭ ‬بين‭ ‬طورين‭ ‬رئيسين‭:‬

الطور‭ ‬الاول‭: ‬الذي‭ ‬برزت‭ ‬فيه‭ ‬ضرورة‭ ‬انجاز‭ ‬التراكم‭ ‬اللازم‭ ‬لبلوغ‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتطورة‭.‬

الطور‭ ‬الثاني‭: ‬برزت‭ ‬فيه‭ ‬ضرورة‭ ‬استكمال‭ ‬سيطرة‭ ‬المجتمع‭ ‬بصورة‭ ‬جماعية‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬وعلى‭ ‬تخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض،‭ ‬اي‭ ‬ضرورة‭ ‬استكمال‭ ‬ولادة‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬وهو‭ ‬الطور‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬التجربة‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬استحقاقاته‭ ‬وتراوح‭ ‬مكانها‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬الاستجابة‭ ‬لهذه‭ ‬الاستحقاقات،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬تفاقم‭ ‬أزمتها‭ ‬وقادها‭ ‬الى‭ ‬الانهيار‭.‬

الفصل‭ ‬الثاني‭: ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬و‭ (‬شيوعية‭ ‬الحرب‭).‬

1-‭ ‬تآكل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوفييتية‭.‬

واجهت‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬غزو‭ ‬الماني‭ ‬واسع‭ ‬النطاق،‭ ‬لكن‭ ‬المفاوضات‭ ‬التي‭ ‬بداتها‭ ‬مع‭  ‬المحور‭ ‬الالماني‭ ‬–‭ ‬النمساوي‭ ‬انتهى‭ ‬بمأزق‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬عام‭ ‬1918،‭ ‬بتقدم‭ ‬القوات‭ ‬الالمانية‭ ‬نحو‭ ‬العاصمة‭ ‬بتروغراد،‭ ‬اضطر‭ ‬على‭ ‬اثرها‭ ‬الحزب‭ ‬البلشفي‭ ‬مع‭ ‬حلفائه‭ ‬الى‭ ‬ابرام‭ ‬صلح‭ ‬بريست‭ ‬–‭ ‬ليتوفسك‭ ‬الالحاقي‭ ‬بشروط‭ ‬مجحفة‭ ‬وتنازلات‭ ‬في‭ ‬الاراضي‭ ‬وغرامات‭ ‬حرب‭.‬

ازدادت‭ ‬الامور‭ ‬تعقيدا‭ ‬ودفع‭ ‬ذلك‭ ‬الى‭ ‬تحالف‭ ‬كبار‭ ‬عسكريي‭ ‬الجيش‭ ‬القديم‭ ‬وفلول‭ ‬البورجوازية‭ ‬وكبار‭ ‬الملاك‭ ‬مستندة‭ ‬بقوة‭ ‬الى‭ ‬دعم‭ ‬الفلاحين‭ ‬الاغنياء‭ (‬الكولاك‭) ‬مسندة‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬الامبريالية‭ ‬المتحاربة‭ ‬على‭ ‬شن‭ ‬حرب‭ ‬على‭ ‬الجمهورية‭ ‬السوفييتية‭ ‬الفتية‭ ‬والتسابق‭ ‬على‭ ‬اقتسام‭ ‬اراضيها‭.‬

في‭ ‬نيسان‭ ‬1918‭ ‬احتل‭ ‬اليابانيون‭ ‬فلاديفوستوك‭ ‬وغزو‭ ‬شرق‭ ‬سيبيريا،‭ ‬وانزل‭ ‬الانجليز‭ ‬قواتهم‭ ‬في‭ ‬مورمانسك،وفي‭ ‬ايار‭ ‬خرق‭ ‬الالمان‭ ‬معاهدة‭ ‬بريست‭ ‬واستولت‭ ‬على‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬القرم‭. ‬حينها‭ ‬نظم‭ ‬يسار‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الثوريين‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬اثر‭ ‬ابرام‭ ‬معاهدة‭ ‬بريست‭ ‬عصيانا‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬ان‭ ‬فشل،‭ ‬واعلنت‭ ‬الحكومة‭ ‬السوفييتية‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬والتعبئة‭ ‬العامة‭.‬

الثورة‭ ‬العمالية‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬النمسا‭ ‬في‭ ‬تشرين‭ ‬الاول‭ ‬1918‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬المانيا‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬1918‭ ‬ونهوض‭ ‬حركة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬اعطى‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬الروسية‭ ‬فرصة‭ ‬للتنفس،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تجلب‭ ‬لها‭ ‬السلام‭.‬

اثر‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورتين‭ ‬الالمانية‭ ‬والنمساوية‭ ‬اعلنت‭ ‬روسيا‭ ‬السوفييتية‭ ‬الغاء‭ ‬معاهدة‭ ‬بريست‭ ‬–‭ ‬ليتوفسك‭ ‬الالحاقية،‭ ‬ولكن‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الاولى‭ ‬ادت‭ ‬الى‭ ‬مبادرة‭ ‬بريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬واليابان‭ ‬لبناء‭ ‬تحالف‭ ‬ضم‭ ‬14‭ ‬دولة‭ ‬بهدف‭ ‬تطويق‭ ‬روسيا‭ ‬السوفييتية‭ ‬ومواصلة‭ ‬حرب‭ ‬التدخل‭ ‬ضدها‭. ‬خاضت‭ ‬خلالها‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬نضالا‭ ‬طال‭ ‬3‭ ‬سنوات‭ ‬قدمت‭ ‬خلالها‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬الروسية‭ ‬وحلفاؤها‭ ‬من‭ ‬فقراء‭ ‬الفلاحين‭ ‬تضحيات‭ ‬جسام،‭ ‬حتى‭ ‬تكلل‭ ‬هذا‭ ‬النضال‭ ‬بالظفر‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1921‭.‬

في‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الدامي،‭ ‬كيف‭ ‬تصدت‭ ‬الثورة‭ ‬لمهمتها‭ ‬المزدوجة‭: ‬مهمة‭ ‬انجاز‭ ‬التراكم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والتحويل‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للمجتمع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية؟

في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬اعقبت‭ ‬صلح‭ ‬بريست‭ ‬–‭ ‬ليتوفسك،‭ ‬بدأ‭ ‬لينين‭ ‬يبلور‭ ‬ملامح‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف‭. ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي،‭ ‬وقد‭ ‬أطلقت‭ ‬ثورة‭ ‬اكتوبر‭ ‬مسيرة‭ ‬انتقاله‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يضم‭ ‬انماط‭ ‬انتاجية‭ ‬متعايشة‭ ‬ومتصارعة،‭ ‬حددها‭ ‬لينين‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

1-‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الفلاحي‭ ‬الطبيعي‭ ‬المغلق‭ (‬البطريركي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬الى‭ ‬دائرة‭ ‬التبادل‭ ‬في‭ ‬السوق‭) ‬2-‭ ‬الاقتصاد‭ (‬الانتاج‭) ‬البضاعي‭ ‬الفلاحي‭ ‬والحرفي‭ ‬الصغير‭ ‬3‭- ‬رأسمالية‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬4‭- ‬رأسمالية‭ ‬الدولة‭ ‬5‭- ‬الاشتراكية‭.‬

حدد‭ ‬لينين‭ ‬مهمة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬غافلا‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬الذين‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬بين‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬المتقدم‭ ‬للسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬وبين‭ ‬تدني‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬لقوى‭ ‬الانتاج‭. ‬ولكن‭ ‬اذا‭ ‬كان‭ ‬لينين‭ ‬لم‭ ‬يتعمق‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬هذه‭ ‬التعقيدات‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬التناقض،‭ ‬الا‭ ‬انه‭ ‬اشار‭ ‬اليه‭ ‬وكان‭ ‬يتصور‭ ‬حله‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬من‭ ‬شقين‭: ‬اولهما‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬وثانيهما‭ ‬تعزيز‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭ ‬اي‭ ‬الحفاظ‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬عبر‭ ‬صون‭ ‬تحالفها‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭.‬

2-‭ ‬اجراءات‭ ‬‮«‬شيوعية‭ ‬الحرب‮»‬‭ ‬وانعكاساتها‭.‬

اتسمت‭ ‬سياسة‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب‭ ‬بتعجيل‭ ‬اجراءات‭ ‬‮«‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬الغاصبين‮»‬‭ ‬وبالمصادرة‭ ‬القسرية‭ ‬لفائض‭ ‬الحبوب‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬لقاء‭ ‬أسعار‭ ‬ثابتة‭ ‬تدفع‭ ‬بالروبل‭ ‬الورقي‭ ‬وفرض‭ ‬احتكار‭ ‬الدولة‭ ‬لتجارة‭ ‬الغذاء‭. ‬وانعكاسات‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬تبرز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العناوين‭ ‬الاربعة‭ ‬التالية‭:‬

1-‭ ‬تعجيل‭ ‬وتيرة‭ ‬‮«‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬غاصبي‭ ‬الملكية‮»‬‭.‬

اقرت‭ ‬في‭ ‬مسودة‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثامن‭ ‬للحزب‭ ‬المنعقد‭ ‬في‭ ‬آذار‭ ‬1919،‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬مهمة‭ ‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬غاصبي‭ ‬الملكية،‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬انجازها‭ ‬بنجاح‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬اي‭ ‬ان‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬تصبح‭ ‬ملكية‭ ‬عامة‭ ‬للدولة‭ ‬العمالية‭. ‬في‭ ‬تقريره‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الضريبة‭ ‬العينية‮»‬‭ ‬في‭ ‬نيسان‭ ‬1921،‭ ‬يعود‭ ‬لينين‭ ‬دون‭ ‬الاشارة‭ ‬للبرنامج،‭ ‬الى‭ ‬مراجعة‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬المتسرع،‭ ‬ويعيد‭ ‬احياء‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬الانماط‭ ‬الخمسة‭ ‬للاقتصاد‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال،‭ ‬مؤكدا‭ ‬انها‭ ‬تعكس‭ ‬بصورة‭ ‬ادق‭ ‬واقع‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬فترة‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب‭.‬

2-‭ ‬مشكلة‭ ‬‮«‬الانضباط‭ ‬في‭ ‬العمل‮»‬‭.‬

يولي‭ ‬لينين‭ ‬اهتماما‭ ‬كبيرا‭ ‬لمعضلة‭ ‬الانضباط‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬ويدافع‭ ‬بشراسة‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الاجر‭ ‬بالقطعة‭ ‬ويدعو‭ ‬الى‭ ‬تبني‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬علمي‭ ‬وتقدمي‭ ‬في‭ ‬الاساليب‭ ‬التايلرية‭ ‬لتنظيم‭ ‬العمل،‭ ‬ويركز‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الطاعة‭ ‬والانضباط‭ ‬الحديدي‭ ‬خلال‭ ‬العمل‭ ‬والانصباع‭ ‬لقرارات‭ ‬الرجل‭ ‬الواحد‭ ‬التي‭ ‬يتخذها‭ ‬المدير‭ ‬السوفيتي،‭ ‬الديكتاتور‭ ‬المنتخب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬العمال‭.‬

3-‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الطبقة‭ ‬الفلاحية‭ ‬وانعكاساتها‭ ‬على‭ ‬القاعدة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للسلطة‭ ‬السوفييتية

ان‭ ‬الفوائد‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬يجنيها‭ ‬الفلاحون‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬تحويل‭ ‬أراضي‭ ‬كبار‭ ‬الملاك‭ ‬اليهم‭ ‬هي‭ ‬أقل‭ ‬بكثير،‭ ‬لأنهم‭ ‬يفتقرون‭ ‬الى‭ ‬الأدوات‭ ‬واللوازم‭. ‬لذلك‭ ‬ينظم‭ ‬فقراء‭ ‬الفلاحين‭ ‬أنفسهم‭ ‬لمنع‭ ‬الكولاك‭ ‬من‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬المصادرة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الملاك،‭ ‬وتساعدهم‭ ‬السلطة‭ ‬السوفييتية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬وبالنتيجة‭ ‬يصبح‭ ‬الفلاح‭ ‬المتوسط‭ ‬العنصر‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬الريف‭. ‬نحن‭ ‬نعرف‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الاحصاءات،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬يعرف‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مشاهداته‭ ‬الخاصة‭. ‬لقد‭ ‬حوصر‭ ‬وتراجع‭ ‬الطرفان‭ ‬النقيضان‭: ‬فقراء‭ ‬الفلاحين‭ ‬والكولاك،‭ ‬وأصبحت‭ ‬غالبية‭ ‬السكان‭ ‬الزراعيين‭ ‬أقرب‭ ‬الى‭ ‬وضع‭ ‬الفلاحين‭ ‬المتوسطين‭. ‬واذا‭ ‬كنا‭ ‬نريد‭ ‬رفع‭ ‬انتاجية‭ ‬الزراعة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬فان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتعامل‭ ‬بشكل‭ ‬رئيسي‭ ‬مع‭ ‬الفلاح‭ ‬المتوسط‭.‬

4-‭ ‬تآكل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوفييتية

اتخذ‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثامن‭ ‬للسوفييتات‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬مجددا‭ ‬ممثلون‭ ‬للاحزاب‭ ‬الاخرى‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬والاجراءات‭ ‬لدرء‭ ‬شرور‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وتعزيز‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوفييتية‭. ‬ولكن‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تمليها‭ ‬ضرورات‭ ‬التطور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استئصالها‭ ‬بالقوانين‭ ‬والاجراءات‭ ‬السياسية‭ ‬او‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬الادارية‭. ‬والاساس‭ ‬الاقتصادي‭ ‬–‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لنمو‭ ‬البيروقراطية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ناجما‭ ‬وحسب‭ ‬عن‭ ‬ظروف‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬سببته‭ ‬الحرب‭. ‬كما‭ ‬توحي‭ ‬احيانا‭ ‬كتابات‭ ‬لينين‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬مسار‭ ‬العملية‭ ‬الثورية‭ ‬بمهماتها‭ ‬المزدوجة‭ ‬وبصراعها‭ ‬مع‭ ‬محيطها‭. ‬وهي‭ ‬تناقضات‭ ‬لم‭ ‬ينته‭ ‬مفعولها‭ ‬بنهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الاهلية‭.‬

الفصل‭ ‬الثالث‭: ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬والسياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‭ ‬1921‭ ‬–‭ ‬1927

1-‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬والسياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‭ (‬النيب‭).‬

مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الاهلية‭ ‬كانت‭ ‬روسيا‭ ‬السوفييتية‭ ‬قد‭ ‬غرقت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الخراب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الشامل،‭ ‬وهذا‭ ‬الانهيار‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬انعكاسات‭ ‬خطيرة‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬التكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬للمجتمع‭. ‬حيث‭ ‬برزت‭ ‬عملية‭ ‬التفتت‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والانحلال‭ ‬الطبقي‭ ‬للبروليتاريا‭ ‬المدنية‭ ‬بسبب‭ ‬عوامل‭ ‬ثلاثة‭: ‬1‭- ‬انهيار‭ ‬الصناعة‭ ‬2‭- ‬انخراط‭ ‬اعداد‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬البروليتاريا‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الاحمر‭ ‬3‭- ‬تسرب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬عمال‭ ‬المدن‭ ‬الى‭ ‬الريف‭ ‬حيث‭ ‬استولوا‭ ‬على‭ ‬الارض‭ ‬لضمان‭ ‬مقومات‭ ‬البقاء‭.‬

يقيم‭ ‬لينين‭ ‬الاخطاء‭ ‬التي‭ ‬ارتكبت‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الاهلية‭ ‬والنضال‭ ‬ضد‭ ‬التدخل‭ ‬الامبريالي‭ ‬بالعبارات‭ ‬التالية‭: ‬جزئيا‭ ‬بسبب‭ ‬معضلات‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬وجزئيا‭ ‬بسبب‭ ‬الوضع‭ ‬المدمر‭ ‬والدقيق‭ ‬الذي‭ ‬وجدت‭ ‬فيه‭ ‬الجمهورية‭ ‬نفسها‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الامبريالية‭. ‬وبالتالي‭ ‬أدت‭ ‬حالة‭ ‬الخراب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الشظف‭ ‬والتدني‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬الى‭ ‬تصاعد‭ ‬التذمر‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الجماهير‭ ‬العمالية‭ ‬وتصاعد‭ ‬الاصوات‭ ‬المطالبة‭ ‬باعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬اجراءات‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬اعطى‭ ‬المؤتمر‭ ‬العاشر‭ ‬للحزب‭ ‬آذار‭ ‬–‭ ‬نيسان‭ ‬1921‭ ‬باقتراح‭ ‬من‭ ‬لينين‭ ‬اشارة‭ ‬الانطلاق‭ ‬لبلورة‭ ‬الخطة‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬لاحقا‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬السياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‮»‬‭ (‬النيب‭). ‬كانت‭ ‬النيب‭ ‬تراجعا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬لصالح‭ ‬الفلاحين‭ ‬ورأس‭ ‬المال‭ ‬المتوسط‭ ‬والصغير‭ ‬عموما،‭ ‬ولاحقا‭ ‬لصالح‭ ‬رأسمالية‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تجسدت‭ ‬بالمشاركة‭ ‬مع‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الكبير‭ ‬المحلي‭ ‬والأجنبي‭. ‬وعاد‭ ‬لينين‭ ‬ينفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬التعايش‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬الأنماط‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬المتخلف‭ ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال‭.‬

ان‭ ‬تآكل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوفييتية‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المديين‭ ‬المتوسط‭ ‬والبعيد‭ ‬سوف‭ ‬يعني‭ ‬استفحال‭ ‬النمو‭ ‬والتشوه‭ ‬البروقراطي‭ ‬واضعاف‭ ‬الشروط‭ ‬السياسية‭ ‬–‭ ‬الاجتماعية‭ ‬اللازمة‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭. ‬ان‭ ‬السياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬حلا‭ ‬لهذه‭ ‬التناقضات‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬مسار‭ ‬العملية‭ ‬الانتقالية،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬ترتقي‭ ‬بها‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬اعلى‭ ‬فحسب،‭ ‬وسوف‭ ‬تقود‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬الى‭ ‬عودتها‭ ‬للاحتدام‭ ‬والتفاقم‭.‬

2-‭ ‬نتائج‭ ‬السياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‭ (‬النيب‭).‬

ادت‭ ‬سياسة‭ ‬النيب‭ ‬وظيفتها‭ ‬في‭ ‬اعادة‭ ‬انهاض‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭ ‬والتغلب‭ ‬على‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬احدثته‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب‭ ‬السبعة‭ (‬1914‭ ‬–‭ ‬1921‭).‬

ان‭ ‬الاستثمار‭ ‬المكثف‭ ‬في‭ ‬الصناعة‭ ‬لم‭ ‬ينعكس‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬العرض‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬الصناعية‭ ‬ادى‭ ‬ذلك‭ ‬الى‭ ‬اتساع‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬اسعار‭ ‬الناتج‭ ‬الزراعي‭ ‬واسعار‭ ‬السلع‭ ‬الصناعية،‭ ‬بين‭ ‬مردود‭ ‬عمل‭ ‬الفلاحين‭ ‬ومردود‭ ‬الصناعة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتوزع‭ ‬معظمه‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والدولة،‭ ‬وعبرت‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬اتساع‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬الدخل‭ ‬ومستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬الطبقتين‭.‬

انعكس‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬مجددا‭ ‬تأزما‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وبين‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وتفاقما‭ ‬للتناقض‭ ‬الجوهري‭ ‬الأبرز‭ ‬الذي‭ ‬عانت‭ ‬منه‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭. ‬وبالتالي‭ ‬عادت‭ ‬التجربة‭ ‬لتقف‭ ‬امام‭ ‬مأزقها‭ ‬التاريخي،‭ ‬مأزق‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬البروليتاريا‭ ‬والفلاحين،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تطورات‭ ‬هامة،‭ ‬وان‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬اصبحت‭ ‬حاسمة‭ ‬بعد،‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬وتكوين‭ ‬الحزب‭ ‬والدولة‭ ‬شهدتها‭ ‬سنوات‭ ‬النيب‭ ‬الست‭ (‬1921‭ ‬–‭ ‬1927‭).‬

3-‭ ‬نمو‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬وبدء‭ ‬تمايزها‭ ‬كشريحة‭ ‬اجتماعية‭.‬

ان‭ ‬نمو‭ ‬البيروقراطية‭ ‬يجد‭ ‬جذوره‭ ‬وحوافزه‭ ‬في‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬للسلطة،‭ ‬وبين‭ ‬مستوى‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف‭ ‬يخطو‭ ‬خطواته‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

ان‭ ‬التفسير‭ ‬السوفييتي‭ ‬الرسمي‭ ‬لهذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعترف‭ ‬بوجودها،‭ ‬يميل‭ ‬نحو‭ ‬اعتبارها‭ ‬سلوكا‭ ‬او‭ ‬عقلية‭ ‬او‭ ‬اسلوبا‭ ‬اوامريا‭ ‬–‭ ‬اداريا‭ ‬في‭ ‬القيادة‭ ‬وفي‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭. ‬وهو‭ ‬يستند‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الى‭ ‬تحليلات‭ ‬لينين‭ ‬حول‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬عصره‭. ‬وتنحو‭ ‬بالمقابل‭ ‬بعض‭ ‬التيارات‭ ‬الماركسية‭ ‬المعارضة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الماوية‭ ‬المتأخرة،‭ ‬الى‭ ‬اعتبارها‭ ‬‮«‬طبقة‭ ‬جديدة‮»‬‭ ‬حاكمة‭ ‬ومستغلة‭.‬

البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشكو‭ ‬منها‭ ‬لينين‭. ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬جسما‭ ‬اجتماعيا،‭ ‬كانت‭ ‬موروثة‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬القديم،‭ ‬كانت‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬موظفيه‭ ‬وخبرائه،‭ ‬الذين‭ ‬اضطرت‭ ‬السلطة‭ ‬السوفيتية‭ ‬الى‭ ‬استئجار‭ ‬خبرتهم‭ ‬لقاء‭ ‬امتيازات‭ ‬مشرعة‭ (‬رواتب‭ ‬اعلى‭ ‬من‭ ‬المعدل‭). ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬لينين‭ ‬مصيبا‭ ‬في‭ ‬اعتباره،‭ ‬ان‭ ‬الاساس‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للبيروقراطية‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬خلل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين،‭ ‬في‭ ‬انعدام‭ ‬علاقة‭ ‬التبادل‭ ‬الطبيعية‭ ‬بين‭ ‬الريف‭ ‬والمدينة،‭ ‬فذلك‭ ‬كان‭ ‬فعلا‭ ‬هو‭ ‬الاساس‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للبيروقراطية‭ ‬كجسم‭ ‬اجتماعي‭ ‬في‭ ‬عصره‭.‬

ان‭ ‬الظروف‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬اليها‭ ‬سياسة‭ ‬النيب‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬الاساس‭ ‬الاقتصادي‭ ‬لنمو‭ ‬البيروقراطية‭ ‬السوفييتية‭ ‬كجسم‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وان‭ ‬تكن‭ ‬لم‭ ‬توفر‭ ‬بعد‭ ‬الشروط‭ ‬الكافية‭ ‬لهيمنتها‭ ‬ولاحتكار‭ ‬السلطة‭. ‬وبالتالي‭ ‬ادت‭ ‬سياسة‭ ‬النيب‭ ‬بفعل‭ ‬انهاضها‭ ‬لقوى‭ ‬الانتاج،‭ ‬الى‭ ‬النمو‭ ‬المتجدد‭ ‬للفائض‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وبدء‭ ‬تراكمه‭ ‬النسبي‭.‬

وبالتالي‭ ‬هناك‭ ‬سؤال‭ ‬يطرح،‭ ‬هل‭ ‬تشكل‭ ‬البيروقراطية‭ ‬طبقة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الاقل‭ ‬نواة‭ ‬لطبقة‭ ‬جديدة‭ ‬حاكمة‭ ‬ومستغلة؟

هنا‭ ‬علينا‭ ‬ان‭ ‬نلاحظ‭ ‬التالي‭:‬

1-‭ ‬ان‭ ‬هذه‭ ‬البيروقراطية‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ (‬وفقراء‭ ‬الفلاحين‭). ‬وتشكل‭ ‬البيروقراطية‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬شريحة‭ ‬من‭ ‬شرائحها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬شريحة‭ ‬متميزة‭.‬

2-‭ ‬تجد‭ ‬منشأها‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬اي‭ ‬البيروقراطية‭ ‬قوة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تنشأ‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬تاريخي‭ ‬استثنائي،‭ ‬قوة‭ ‬اجتماعية‭ ‬انتقالية‭ ‬وتفقد‭ ‬مبرر‭ ‬وجودها‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬اضمحلال‭ ‬التناقضات‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬سياقها‭.‬

3-‭ ‬ترتكز‭ ‬بقوتها‭ ‬وسلطتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الى‭ ‬قاعدة‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الانتاج‭.‬

4-‭ ‬ان‭ ‬البيروقراطية‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تستنفد‭ ‬دورها‭ ‬التاريخي‭ ‬وتراكم‭ ‬امتيازاتها‭ ‬الى‭ ‬الذروة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬ثروات‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬مجتمعا‭ ‬على‭ ‬نموذجها‭ ‬مجتمعا‭ ‬بيروقراطيا‭ ‬يتميز‭ ‬عن‭ ‬كلا‭ ‬المجتمعين‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والرأسمالي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬تصل‭ ‬الى‭ ‬مأزقها،‭ ‬وتتفاقم‭ ‬أزمتها‭ ‬وتصل‭ ‬الى‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭: ‬اما‭ ‬التقدم‭ ‬نحو‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬او‭ ‬الارتداد‭ ‬الى‭  ‬الرأسمالية‭.‬

لقد‭ ‬جاءت‭ ‬النقلة‭ ‬نحو‭ ‬اعتماد‭ ‬نظام‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬بصفته‭ ‬مبدأ‭ ‬مطلقا،‭ ‬وسمة‭ ‬نموذجية‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬نظام‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬النظام‭ ‬الاشتراكي‭ ‬نفسه،‭ ‬بفعل‭ ‬تطورات‭ ‬وظروف‭ ‬موضوعية‭ ‬اخرى،‭ ‬مكنت‭ ‬البيروقراطية‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الحزب‭ ‬وتحويله‭ ‬الى‭ ‬اداة‭ ‬لتنظيمها‭ ‬كشريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وأداة‭ ‬لتكريس‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬الاخيرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬الى‭ ‬تغيير‭ ‬جوهري‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للحزب‭ ‬وفي‭ ‬القاعدة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لدكتاتوريته‭.‬

الفصل‭ ‬الرابع‭: ‬النموذج‭ ‬السوفييتي‭ ‬بعد‭ ‬لينين‭ ‬1924‭ ‬–‭ ‬1950

1-‭ ‬التجمع‭ ‬القسري‭ ‬للزراعة‭ ‬الفلاحية،

الخطتان‭ ‬الخمسية‭ ‬الأولى‭ (‬1928‭ ‬–‭ ‬1933‭) ‬والثانية‭ (‬1933‭ ‬–‭ ‬1937‭).‬

الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الاولى‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬اواخر‭ ‬1928‭ ‬حققت‭ ‬اهدافها‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1933،‭ ‬قبل‭ ‬موعدها‭ ‬بتسعة‭ ‬شهور،‭ ‬وأنجز‭ ‬خلالها‭ ‬بناء‭ ‬وتشغيل‭ ‬1500‭ ‬مجمع‭ ‬صناعي‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الصلب‭ ‬والحديد،‭ ‬ومعدات‭ ‬انتاج‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬وبناء‭ ‬الآلات‭ ‬والسيارات‭ ‬والكيماويات‭ ‬والجرارات‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬الاربع‭ ‬ارتفع‭ ‬حجم‭ ‬الانتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬حوالي‭ ‬100‭%.‬

اما‭ ‬خلال‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬انجزت‭ ‬ايضا‭ ‬قبل‭ ‬موعدها‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1937،‭ ‬تضاعف‭ ‬حجم‭ ‬الانتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬مرة‭ ‬اخرى‭ ‬100‭% ‬خلال‭ ‬اربع‭ ‬سنوات،‭ ‬وتضاعف‭ ‬انتاج‭ ‬الفحم‭ ‬100‭%‬،‭ ‬وازداد‭ ‬انتاج‭ ‬الفولاذ‭ ‬من‭ ‬6‭.‬9‭ ‬ملايين‭ ‬طن‭ ‬عام‭ ‬1932‭ ‬الى‭ ‬7‭.‬7‭ ‬مليون‭ ‬طن‭ ‬عام‭ ‬1937،‭ ‬وانجزت‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الجوهر‭ ‬خطة‭ ‬كهربة‭ ‬البلاد‭ ‬وتم‭ ‬تمديد‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬كيلومترات‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬المصانع‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬انشاؤها‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬السوفييتي‭ ‬تقدم‭ ‬80‭% ‬من‭ ‬اجمالي‭ ‬الناتج‭ ‬الصناعي‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬وخلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1929‭ ‬حتى‭ ‬1937‭ ‬كان‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬يوازي‭ ‬خمسة‭ ‬اضعاف‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

أولت‭ ‬الخطتان‭ ‬الخمسينيتان‭ ‬اهتماما‭ ‬فائقا‭ ‬للارتقاء‭ ‬بمستوى‭ ‬التعليم،‭ ‬بمختلف‭ ‬مراحله‭ ‬واختصاصاته‭ ‬وبخاصة‭ ‬الاعداد‭ ‬الهندسي‭ ‬والتقني‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1930‭ ‬تم‭ ‬تطبيق‭ ‬نظام‭ ‬التعليم‭ ‬الابتدائي‭ ‬الالزامي‭ ‬العام‭ ‬واطلقت‭ ‬حملة‭ ‬لمكافحة‭ ‬الامية‭ ‬شملت‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭. ‬ووظفت‭ ‬اموال‭ ‬طائلة‭ ‬لافتتاح‭ ‬مؤسسات‭ ‬الاعداد‭ ‬المهني‭ ‬والتقني‭ ‬والتعليم‭ ‬العالي‭ ‬الهندسي‭.‬

2-‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للحزب‭ ‬والدولة‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬بنيته‭ ‬الايديولوجية‭ ‬ونمط‭ ‬علاقاته‭ ‬الداخلية‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬راهن‭ ‬لينين‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1921‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬دوره‭ ‬القيادي‭ ‬للتحكم‭ ‬بعملية‭ ‬الاستقلال‭ ‬النسبي‭ ‬للدولة‭ ‬الضرورية‭ ‬لكسر‭ ‬دوامة‭ ‬المأزق‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬حشرت‭ ‬فيه‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬بفعل‭ ‬تناقضاتها‭ ‬الموضوعية‭. ‬ففي‭ ‬سياق‭ ‬نهوضه‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬تعرضت‭ ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬للحزب‭ ‬وقبله‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬الى‭ ‬تحولات‭ ‬عميقة‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬المناخ‭ ‬الدولي‭ ‬المتلبد‭ ‬وقعت‭ ‬النقلة‭ ‬النوعية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحزب‭ ‬ونمط‭ ‬علاقاته‭ ‬الداخلية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬في‭ ‬وظيفته‭ ‬ودوره‭ ‬الاجتماعي‭.‬‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ ‬كان‭ ‬الحزب‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالقاعدة‭ ‬العمالية‭. ‬ورغم‭ ‬تفاقم‭ ‬نمو‭ ‬تأثير‭ ‬القوى‭ ‬البيروقراطية‭ ‬داخله‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يعكس‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬التعايش‭ ‬والتوازن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬شرائح‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

في‭ ‬المقابل‭ ‬كانت‭ ‬البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬عززت‭ ‬موقعها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وسيطرت‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬الدولة،‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬حزب‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬آخر،‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬حزبها‭ ‬الخاص‭. ‬اي‭ ‬باتت‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬الانفراد‭ ‬بالحزب‭ ‬واخضاعه‭ ‬الكامل‭ ‬لسيطرتها‭ ‬كما‭ ‬انفردت‭ ‬بسلطة‭ ‬الدولة‭.‬

وبالتالي‭ ‬اصبحت‭ ‬الشروط‭ ‬لاحداث‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬قد‭ ‬اكتملت،‭ ‬وصارت‭ ‬البيروقراطية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬سلطتها‭ ‬لا‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬بل‭ ‬بديلا‭ ‬عنها‭.‬

3-‭ ‬نتائج‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للحزب‭ ‬والدولة‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المغزى‭ ‬التاريخي‭ ‬للتطهير‭ ‬الستاليني‭ ‬لصفوف‭ ‬الحزب‭ ‬والذي‭ ‬اشتدت‭ ‬حمأته‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭. ‬وشمل‭ ‬هذا‭ ‬التطهير‭ ‬الاغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬القيادات‭ ‬والكوادر‭ ‬البلشفية‭ ‬القديمة‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬تحولا‭ ‬نوعيا‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحزب‭ ‬كرَس‭ ‬تحولا‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬علاقاته‭ ‬الداخلية‭.‬

ضمن‭ ‬هذه‭ ‬الاجواء‭ ‬حرمت‭ ‬حرية‭ ‬النقاش‭ ‬الداخلي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فخر‭ ‬البلاشفة‭ ‬وميزتهم‭ ‬وباتت‭ ‬القرارات‭ ‬تتخذ‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬مغلقة‭ ‬وضمن‭ ‬حلقات‭ ‬قيادية‭ ‬ضيقة‭.‬

شهد‭ ‬مؤتمر‭ ‬السوفييتات‭ ‬الثامن‭ ‬لعموم‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬نقلة‭ ‬هامة‭ ‬باقراره‭ ‬الدستور‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬اعلان‭ ‬‮«‬الانتصار‭ ‬النهائي‭ ‬للاشتراكية‮»‬‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬وتحت‭ ‬هذه‭ ‬المظلة‭ ‬احدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬هامة‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الدستورية‭ ‬للسلطة‭ ‬السوفييتية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النظر‭ ‬جذريا‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الانتخابي‭ ‬حيث‭ ‬الغيت‭ ‬قاعدة‭ ‬الانتخاب‭ ‬على‭ ‬اساس‭ ‬موقع‭ ‬الانتاج‭ ‬واستبدلت‭ ‬بتعميم‭ ‬القاعدة‭ ‬الجغرافية‭. ‬وقد‭ ‬نص‭ ‬هذا‭ ‬الدستور‭ ‬رسميا‭ ‬للمرة‭ ‬الاولى‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للحزب‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬السوفييتية‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬مكرسا‭ ‬بذلك‭ ‬دستوريا‭ ‬نظام‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭. ‬وقد‭ ‬يبدو‭ ‬ذلك‭ ‬مفارقة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬مفهوم‭ ‬ماركس‭ ‬ولينين،‭ ‬لدور‭ ‬ووظائف‭ ‬وتكوين‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬‮«‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‮»‬‭ ‬تمييزا‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬مجتمع‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المفارقة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬اولى‭ ‬ثمرات‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬الماركسية‭ ‬–‭ ‬اللينينية‭. ‬وهذه‭ ‬المفارقة‭ ‬تجد‭ ‬تفسيرها‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الى‭ ‬التكريس‭ ‬الدستوري‭ ‬لهيمنة‭ ‬حزبها‭ ‬الواحد،‭ ‬بهدف‭ ‬تبرير‭ ‬وادامة‭ ‬احتكارها‭ ‬للسلطة‭.‬

بعد‭ ‬انجاز‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحزب‭ ‬والدولة‭ ‬وتكريسه‭ ‬على‭ ‬ارض‭ ‬الواقع،‭ ‬انعقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬للحزب‭ ‬في‭ ‬آذار‭ ‬1939‭ ‬ليعلن‭ ‬ان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬توطيد‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والانتقال‭ ‬تدريجيا‭ ‬الى‭ ‬الشيوعية‮»‬‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬بامتياز‭ ‬اعلانا‭ ‬ايديولوجيا‭ ‬يزيف‭ ‬الواقع‭. ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬العنصر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي،‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬شريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬متميزة‭ ‬تحتكرها‭. ‬والنظام‭ ‬الكولخوزي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬ارباع‭ ‬الريف،‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بالتأكيد‭ ‬نظاما‭ ‬للملكية‭ ‬العامة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬افضل‭ ‬الحالات‭ ‬شكل‭ ‬تعاوني‭ ‬متطور‭ ‬من‭ ‬اشكال‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬استمرت‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬محدد‭ ‬بسقف‭ ‬اعلى،‭ ‬حقوق‭ ‬الحيازة‭ ‬الفلاحية‭ ‬الصغيرة‭ ‬الخاصة‭ ‬للأرض‭.‬

ان‭ ‬البيروقراطية‭ ‬نجحت‭ ‬بطريقتها‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬تعبئة‭ ‬الشعب‭ ‬العامل‭ ‬لازالة‭ ‬استعصاء‭ ‬عملية‭ ‬التراكم،‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة‭ ‬وتجاوز‭ ‬المأزق‭ ‬التاريخي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬حشرت‭ ‬فيه‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬الانجاز‭ ‬يعني‭ ‬بدء‭ ‬انتشال‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭ ‬من‭ ‬هاوية‭ ‬التخلف‭ ‬ونجاحه‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قاعدة‭ ‬صناعية‭ ‬متينة‭ ‬ومستقلة‭ ‬وفي‭ ‬تعزيز‭ ‬قدراته‭ ‬الدفاعية،‭ ‬بما‭ ‬يؤهله‭ ‬لمواجهة‭ ‬أهوال‭ ‬الانفجار‭ ‬الكارثي‭ ‬لأزمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬العالمية،‭ ‬كما‭ ‬تمثل‭ ‬بالحرب‭ ‬الكونية‭ ‬الثانية‭.‬

ان‭ ‬نمو‭ ‬البيروقراطية‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬الظاهرة‭ ‬الستالينية‭ ‬وليس‭ ‬العكس‭. ‬وبذلك‭ ‬عبرت‭ ‬الستالينية‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الى‭ ‬السيطرة‭ ‬وباتت‭ ‬أداة‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها‭.‬

4-‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وآثارها‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

بذلت‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬السوفييتية‭ ‬جهودا‭ ‬في‭ ‬لجم‭ ‬تعاظم‭ ‬مخاطر‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬علي‭ ‬يد‭ ‬المانيا‭ ‬النازية،‭ ‬واستجاب‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬للعرض‭ ‬الالماني‭ ‬بعقد‭ ‬اتفاق‭ ‬عدم‭ ‬اعتداء‭ ‬متبادل‭ ‬بين‭ ‬البلدين،‭ ‬وعقد‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1939‭. ‬وكان‭ ‬هتلر‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬الاتفاق‭ ‬كي‭ ‬ينقلب‭ ‬على‭ ‬اتفاق‭ ‬ميونيخ،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬بحاجة‭ ‬لكسب‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬مواصلة‭ ‬خطط‭ ‬التصنيع‭ ‬والاستعدادات‭ ‬الدفاعية‭. ‬لكن‭ ‬المانيا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬استكملت‭ ‬احتلال‭ ‬اوروبا‭ ‬القارية،‭ ‬شنت‭ ‬هجوما‭ ‬واحتلت‭ ‬مساحات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الارض‭ ‬السوفييتية،‭ ‬وحاصرت‭ ‬لينينغراد‭ ‬واقتربت‭ ‬من‭ ‬موسكو‭ ‬والحقت‭ ‬اضرارا‭ ‬هائلة‭ ‬بالبنية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وخسر‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬مليون‭ ‬شهيد‭. ‬لكن‭ ‬التقدم‭ ‬والتطور‭ ‬الصناعي‭ ‬الذي‭ ‬حققه‭ ‬الاتحاد‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العسكري‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬الحرب‭  ‬كان‭ ‬عاملا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الحاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬بالنازيين‭.‬

ساهم‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬بفضل‭ ‬مسيرته‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬المساهمة‭ ‬الرئيسية‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬انقاذ‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬النازية‭. ‬وظل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬كاملة‭ ‬عمليا‭ ‬يقاتل‭ ‬لوحده‭ ‬ضد‭ ‬المحور‭ (‬المانيا‭ ‬–‭ ‬ايطاليا‭ ‬–‭ ‬اليابان‭) ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬بتصرفها‭ ‬موارد‭ ‬اوروبا‭.‬

الدمار‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬احدثته‭ ‬الحرب‭ ‬دفع‭ ‬مسيرة‭ ‬البناء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬سنوات‭ ‬الى‭ ‬الوراء،‭ ‬واحتاجت‭ ‬عملية‭ ‬اعادة‭ ‬الاعمار‭ ‬الى‭ ‬5‭ ‬مليارات‭ ‬دولار،‭ ‬رفضت‭ ‬وقتها‭ ‬الامبريالية‭ ‬الاميركية‭ ‬تقديم‭ ‬العون،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬حتم‭ ‬على‭ ‬السوفييت‭ ‬ان‭ ‬ينهضوا‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬بامكانياتهم‭ ‬الذاتية‭.‬

كانت‭ ‬مهمة‭ ‬اعادة‭ ‬الاعمار‭ ‬جوهر‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الرابعة‭ (‬1945‭ ‬–‭ ‬1950‭) ‬حيث‭ ‬استفاد‭ ‬السوفيت‭ ‬من‭ ‬الجو‭ ‬السياسي‭ ‬السائد‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الدولي‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬التي‭ ‬عانى‭ ‬منها‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬تميَزت‭ ‬بنهوض‭ ‬الحركة‭ ‬العمالية‭ ‬في‭ ‬ابرز‭ ‬بلدان‭ ‬غرب‭ ‬اوروبا‭ ‬وبتعاظم‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التابعة‭ ‬والمستعمرة‭. ‬ونجحت‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الانتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬يزيد‭ ‬175‭% ‬عما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭.‬

بينما‭ ‬تطور‭ ‬الزراعة‭ ‬كان‭ ‬بطيئا‭ ‬لاسباب‭ ‬منها‭ ‬الابادة‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها‭ ‬الثروة‭ ‬الحيوانية،‭ ‬والوقت‭ ‬اللازم‭ ‬لاعادة‭ ‬تمويل‭ ‬الصناعة‭ ‬الحربية‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬استئناف‭ ‬انتاج‭ ‬الآلات‭ ‬والمعدات‭ ‬الزراعية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬النقص‭ ‬الخطير‭ ‬في‭ ‬القوة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬بسبب‭ ‬خسائر‭ ‬الحرب‭ ‬البشرية‭ ‬العالية‭.‬

القسم‭ ‬الثاني

الفصل‭ ‬الأول‭: ‬التطور‭ ‬المتسارع‭ ‬لعملية‭ ‬الانتقال،‭ ‬وتناقضاتها‭ ‬1950‭ ‬–‭ ‬1975

1-‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬النمو‭ ‬المتسارع‭ ‬في‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭ ‬والتطور‭ ‬الحضاري‭.‬

خلال‭ ‬الربع‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬20‭ (‬1950‭ ‬–‭ ‬1975‭) ‬تسارعت‭ ‬عملية‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬والتطور‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬والثقافي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التكنولوجي‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬الذي‭ ‬تفوق‭ ‬على‭ ‬اكثر‭ ‬البلدان‭ ‬الراسمالية‭ ‬تقدما،‭ ‬وهنا‭ ‬يبرهن‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬النظرية‭ ‬اللينينية‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬ان‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬للتقدم‭ ‬امام‭ ‬المجتمعات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتخلفة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الهيمنة‭ ‬الامبريالية‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬هو‭ ‬سبيل‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬بقيادة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

خلال‭ ‬الفترة‭ ‬1951‭ -‬1955،‭ ‬كانت‭ ‬وتيرة‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬السوفييتي‭ ‬تبلغ‭ ‬ضعف‭ ‬وتيرة‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ومن‭ ‬1956‭ ‬–‭ ‬1960‭ ‬كانت‭ ‬ثلاثة‭ ‬اضعاف،‭ ‬وانخفضت‭ ‬قليلا‭ ‬في‭ ‬1961‭ ‬–‭ ‬1965،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬اعلى‭ ‬من‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬الامريكي،‭ ‬وخلال‭ ‬1966‭ ‬–‭ ‬1970‭ ‬ارتفعت‭ ‬مجددا‭ ‬الى‭ ‬ضعف‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬الامريكي،‭ ‬وفي‭ ‬1970‭ ‬–‭ ‬1975‭ ‬كانت‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬المعدل‭ ‬الامريكي‭ ‬بمرة‭ ‬ونصف‭ ‬تقريبا‭.‬

اما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬يسابق‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتطورة‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬والتكنولوجي‭ ‬وفي‭ ‬مجالات‭ ‬الطب‭ ‬والجراحة‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬التعدين‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬مجالات‭ ‬الكيمياء‭.‬اما‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التطور‭ ‬الحضاري‭ ‬تفوق‭ ‬السوفييت‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرياضة‭ ‬الاولمبية‭ ‬والشطرنج‭. ‬وتطور‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬للسكان‭ ‬وارتفعت‭ ‬حصة‭ ‬الفرد‭ ‬السوفييتي‭ ‬من‭ ‬استهلاك‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬والملابس‭ ‬والسلع‭ ‬المنزلية‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬دولي‭ ‬ما‭ ‬انفكت‭ ‬فيه‭ ‬تتصاعد‭ ‬حدة‭ ‬التوتر‭ ‬او‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬ويتسابق‭ ‬سباق‭ ‬التسلح،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬مضطرا‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬احراز‭ ‬التوازن‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬ان‭ ‬يحتفظ‭ ‬بجيش‭ ‬يتفوق‭ ‬بعدده‭ ‬وعتاده،‭ ‬والى‭ ‬بناء‭ ‬قوة‭ ‬نووية‭ ‬رادعة‭ ‬توازي‭ ‬على‭ ‬الاقل‭ ‬قوة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

في‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬كان‭ ‬الحزب،‭ ‬قد‭ ‬استعاد‭ ‬دوره‭ ‬القيادي‭ ‬المهمين‭ ‬على‭ ‬الدولة،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اصبح‭ ‬الاطار‭ ‬الرئيسي‭ ‬لتنظيم‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وبلورة‭ ‬ارادتها‭ ‬الجماعية‭.‬

في‭ ‬1961‭ ‬انعقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرون‭ ‬للحزب،‭ ‬وأعلن‭ ‬المؤتمر‭ ‬ان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬قد‭ ‬انجز‭ ‬مهمة‭ ‬توطيد‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‭ ‬وضمن‭ ‬انتصاره‭ ‬النهائي‭ ‬والكامل‭ ‬وشرع‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬أسس‭ ‬المجتمع‭ ‬الشيوعي‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬بدوره‭ ‬اعلانا‭ ‬‮«‬ايديولوجيا‮»‬‭ ‬بامتياز،‭ ‬ولكن‭ ‬وظيفته‭ ‬تتضح‭ ‬من‭ ‬الاستخلاص‭ ‬الذي‭ ‬حددته‭ ‬قرارات‭ ‬المؤتمر‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬ان‭ ‬الطبقات،‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬الصراع‭ ‬بينها،‭ ‬قد‭ ‬اختفت‭ ‬نهائيا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي،‭ ‬وظهرت‭ ‬الى‭ ‬الوجود‭ ‬تشكيلة‭ ‬اجتماعية‭ ‬منسجمة‭ ‬اسمها‭ ‬الشعب‭ ‬السوفييتي،‭ ‬وبذلك‭ ‬اصبحت‭ ‬الدولة‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬‭ ‬واصبح‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬‭.‬

2-‭ ‬التناقضات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الصعود،‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬التاريخي‭ ‬للبيروقراطية‭.‬

تندرج‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬تحت‭ ‬4‭ ‬عناوين‭ ‬رئيسية‭:‬

أولا‭: ‬التناقض‭ ‬الأول

هو‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والتعاونية‭ ‬الكولخوزية،‭ ‬وبين‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭.‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحفز‭ ‬على‭ ‬نمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الموازي؟

ثانيا‭: ‬التناقض‭ ‬الثاني

هو‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬المصالح‭ ‬ببين‭ ‬الكولخوزات،‭ ‬وبين‭ ‬الدولة‭.‬

تفاقم‭ ‬النقص‭ ‬النسبي‭ ‬في‭ ‬مخزون‭ ‬الغذاء‭ ‬بيد‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬قادها‭ ‬الى‭ ‬محاولة‭ ‬حل‭ ‬المعضلة‭ ‬بحملة‭ ‬مكثفة‭ ‬لاستصلاح‭ ‬الاراضي‭ ‬البكر‭ ‬واقامة‭ ‬السوفخوزات‭ (‬مزارع‭ ‬الدولة‭) ‬عليها،‭ ‬جندت‭ ‬لها‭ ‬مئات‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬العمال‭.‬

غير‭ ‬ان‭ ‬العلاقة‭ ‬الجديدة‭ ‬كانت‭ ‬تنطوي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬تناقضات‭ ‬عدة‭. ‬فهي‭ ‬تعطي‭ ‬باليد‭ ‬اليمنى‭ ‬للكولخوزات‭ ‬مزيدا‭ ‬من‭ ‬الاستقلالية‭ ‬وحقا‭ ‬في‭ ‬تملك‭ ‬آلياتها‭ ‬ومعداتها‭ ‬وكذلك‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬اسعار‭ ‬الشراء‭ ‬بما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬زيادة‭ ‬مؤقتة‭ ‬في‭ ‬الدخل،‭ ‬ولكنها‭ ‬تسحب‭ ‬باليد‭ ‬اليسرى،‭ ‬جانبا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬فوائد‭ ‬هذه‭ ‬الاستقلالية‭ ‬حين‭ ‬تعطي‭ ‬الدولة‭ ‬حقا‭ ‬مطلقا‭ ‬في‭ ‬اقرار‭ ‬مقادير‭ ‬الشراء‭ ‬وفي‭ ‬تحديد‭ ‬اسعاره،‭ ‬وتحرم‭ ‬الكولخوز‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬التصرف‭ ‬بكميات‭ ‬الناتج‭ ‬الزائدة‭ ‬عن‭ ‬اهداف‭ ‬التسليم‭ ‬الالزامية‭ ‬المحددة‭ ‬بالخطة

في‭ ‬عام‭ ‬1965‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬القيادة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ضمن‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬بريجنيف،‭ ‬ألكسي‭ ‬كوسيغين‭ ‬الذي‭ ‬تسلم‭ ‬رئاسة‭ ‬الحكومة‭ ‬حتى‭ ‬سنة‭ ‬1979،‭ ‬ونيكولاي‭ ‬بودغورني‭ ‬الذي‭ ‬اصبح‭ ‬عام‭ ‬1965‭ ‬رئيسا‭ ‬لهيئة‭ ‬رئاسة‭ ‬مجلس‭ ‬السوفييت‭ ‬الاعلى‭ ‬وحتى‭ ‬1977،‭ ‬اعتمد‭ ‬اصلاح‭ ‬كوسيغين‭ ‬الذي‭ ‬يتضمن‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الزراعة،‭ ‬سياسة‭ ‬جديدة‭ ‬قوامها‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬نظام‭ ‬التسليمات‭ ‬الالزامية‭ ‬التي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬اسم‭ ‬الطلبية‭ ‬المحددة‭.‬

ثالثا‭: ‬التناقض‭ ‬الثالث

هو‭ ‬التناقض‭ ‬داخل‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬الذي‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬تعارضا‭ ‬بين‭ ‬مصالحها‭ ‬الآنية‭ (‬في‭ ‬التمتع‭ ‬بثمار‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬والتصرف‭ ‬بالفائض‭ ‬المتولد‭ ‬عنها‭ ‬لصالح‭ ‬تحسين‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭)‬،‭ ‬وبين‭ ‬مصلحتها‭ ‬بعيدة‭ ‬الأمد‭ (‬في‭ ‬فتح‭ ‬طريق‭ ‬التحول‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬مما‭ ‬يتطلب‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬المباشر‭ ‬اقتطاع‭ ‬الفائض‭ ‬لصالح‭ ‬التراكم‭ ‬وتطوير‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج‭).‬

ان‭ ‬عملية‭ ‬التغريب‭ ‬المؤقت‭ ‬للسلطة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العمالية،‭ ‬احالتها‭ ‬مؤقتا‭ ‬الى‭ ‬ايدي‭ ‬البيروقراطية‭ (‬او‭ ‬اذا‭ ‬شاء‭ ‬البعض‭: ‬مصادرتها‭ ‬بصورة‭ ‬مؤقتة،‭ ‬نظريا،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البيروقراطية‭ ‬باسم،‭ ‬او‭ ‬بحجة‭ ‬ضمان‭ ‬المصالح‭ ‬النهائية‭ ‬للبروليتاريا‭)‬،‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬بدأت‭ ‬تفقد‭ ‬ضرورتها‭ ‬ومبررها‭ ‬التاريخي‭ ‬الموضوعي‭. ‬وبسبب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أخذت‭ ‬البيروقراطية‭ ‬تستنفذ‭ ‬دورها‭ ‬التاريخي‭ ‬التقدمي‭ ‬تدريجيا،‭ ‬وتتحول‭ (‬الآن‭ ‬فقط‭ ‬وببطء‭) ‬الى‭ ‬نتوء‭ ‬طفيلي‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬له،‭ ‬يتغذى‭ ‬من‭ ‬جسم‭ ‬الدولة‭ ‬العمالية‭ ‬ويستأثر،‭ ‬بفعل‭ ‬احتكاره‭ ‬للسلطة‭ ‬وتحكمه‭ ‬بتخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض،‭ ‬بحصة‭ ‬متميزة‭ ‬ومتزايدة‭ ‬الارتفاع‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حصة‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬ومساهمته‭ ‬الفعلية‭ ‬في‭ ‬انتاج‭ ‬الفائض‭ ‬الاجتماعي‭.‬

وسائل‭ ‬التعبير‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الشامل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متاحة‭. ‬فالبيروقراطية‭ ‬المتشبثة‭ ‬بالسلطة‭ ‬صارت‭ ‬تعزز‭ ‬نظامها‭ ‬للسيطرة‭ ‬الشمولية‭ ‬بوسائل‭ ‬أكثر‭ ‬فعالية‭ ‬في‭ ‬البداية‭: ‬وسائل‭ ‬القمع‭ ‬الايديولوجي‭ (‬وفي‭ ‬سياقها‭ ‬الاعلانات‭ ‬المتكررة‭ ‬عن‭ ‬انجاز‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والتحول‭ ‬للشيوعية‭)‬،‭ ‬وسائل‭ ‬العقاب‭ ‬القانوني‭ ‬لاي‭ ‬خروج‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الطاعة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والاهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬وسائل‭ ‬التعجيل‭ ‬المتعمد‭ ‬لعملية‭ ‬التشظي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬والتجزئة‭ ‬الذرية‭ ‬لعناصرها‭ ‬الى‭ ‬افراد‭ ‬منطوين‭ ‬ذاتيا‭ (‬اي‭ ‬تحويل‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬عامل‭ ‬‮«‬ذرة‮»‬‭ ‬منعزلة‭ ‬وفاقدة‭ ‬للصلة‭ ‬بالذرات‭ ‬الاخرى‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬ممارستها‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

وهكذا‭ ‬تعمقت‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬حالة‭ ‬الاستلاب‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬تغريب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬سلطتها‭ ‬المفترضة‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬رسميا‭ ‬ملكيتها‭ ‬الجماعية،‭ ‬ايضا‭ ‬عن‭ ‬التحكم‭ ‬بناتج‭ ‬عملها،‭ ‬كما‭ ‬تعمقت‭ ‬حالة‭ ‬الاستلاب‭ ‬السياسي،‭ ‬تغريب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬بسوادها‭ ‬الاعظم‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬دولتها‭.‬

ولكن‭ ‬ثمة‭ ‬فرقا‭ ‬جوهريا‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الاستلاب،‭ ‬وبين‭ ‬الاستلاب‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭. ‬ففي‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ينبثق‭ ‬الاستلاب‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة‭ ‬لوسائل‭ ‬الانتاج‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬فان‭ ‬الاستلاب‭ ‬لا‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬ظاهريا،‭ ‬بصفته‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الأشياء،‭ ‬انه‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬يكشف‭ ‬اكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬عن‭ ‬سمته‭ ‬الشاذة،‭ ‬يتخلى‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬بصفته‭ ‬منافيا‭ ‬لطبيعة‭ ‬الأشياء،‭ ‬منافيا‭ ‬لنمط‭ ‬الملكية‭ ‬السائدة،‭ ‬ومناقضا‭ ‬لمرتكزات‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬ومتعارضا‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬الطبقية‭ ‬للدولة‭.‬

ان‭ ‬توسيع‭ ‬استقلال‭ ‬المؤسسات‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ادخال‭ ‬مبدأ‭ ‬الربحية‭ ‬والحساب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬عملها،‭ ‬وربط‭ ‬نظام‭ ‬الحوافز‭ ‬بالربحية‭ ‬‮«‬اي‭ ‬كلما‭ ‬ازدادت‭ ‬ارباح‭ ‬المؤسسة‭ ‬تزداد‭ ‬العلاوات‭ ‬والمكافآت‭ ‬الممنوحة‭ ‬للعمال،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬تقليص‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر،‭ ‬بل‭ ‬قاد‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الى‭ ‬استفحالها‭. ‬فلقد‭ ‬قال‭ ‬العمال‭: ‬طالما‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نمتلك‭ ‬سلطة‭ ‬اختيار‭ ‬الادارة،‭ ‬ولا‭ ‬سلطة‭ ‬مناقشة‭ ‬القرارات،‭ ‬وهي‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬تتوقف‭ ‬عليها‭ ‬ربحية‭ ‬المؤسسة‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬فلماذا‭ ‬نتحمل‭ ‬النتائج‭ ‬السلبية‭ ‬لهذه‭ ‬القرارات،‭ ‬وطالما‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نمتلك‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬لماذا‭ ‬نتحمل‭ ‬المسؤولية‭ ‬ازاءها؟

وقد‭ ‬برزت‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الكولخوزية‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬التناقض‭ ‬الاساسي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬علاج‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬بحل‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭:‬‭ ‬باعادة‭ ‬السلطة‭ ‬المغتصبة‭ ‬الى‭ ‬اصحابها‭ ‬الشرعيين،‭ ‬اعادة‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬والتحكم‭ ‬بتخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المؤسسة‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والدولة‭ ‬ككل،‭ ‬الى‭ ‬اصحابها‭ ‬العمال‭ ‬وتمكينهم‭ ‬من‭ ‬ممارستها‭ ‬جماعيا‭ ‬وبصورة‭ ‬ديمقراطية‭.‬

رابعا‭: ‬التناقض‭ ‬الرابع

فهو‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬البيروقراطية‭ ‬نفسها،‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬متأصل‭ ‬في‭ ‬اساس‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭ ‬للبيروقراطية،‭ ‬وهو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬موقعها‭ ‬التاريخي‭ ‬ووظيفتها،‭ ‬وفي‭ ‬تكوينها‭ ‬ومصالحها،‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬طبيعتها‭ ‬الانتقالية‭ ‬كشريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬حاكمة،‭ ‬كونها‭ ‬تنشأ‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬انتقالي،‭ ‬وتكتسب‭ ‬سيطرتها‭ ‬بفعل‭ ‬ضرورة‭ ‬انتقالية،‭ ‬وظروف‭ ‬انتقالية‭.‬

النظام‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬كما‭ ‬استقر‭ ‬منذ‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬هو‭ ‬سلم‭ ‬متعدد‭ ‬الدرجات‭ ‬من‭ ‬المراتب‭ ‬الجامدة،‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الوحدة‭ ‬الانتاجية‭ ‬صعودا‭ ‬الى‭ ‬القمة،‭ ‬تخترقه‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬العمودية‭ ‬والأفقية‭ ‬المتقاطعة‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬الوظائف‭ ‬وفق‭ ‬التسلسل‭ ‬المراتبي‭ ‬للأجهزة‭ (‬الجهاز‭ ‬الحزبي،‭ ‬أو‭ ‬النقابي،‭ ‬أو‭ ‬الحكومي،‭ ‬أو‭ ‬جهاز‭ ‬الادارة‭ ‬الاقتصادية‭) ‬او‭ ‬وفق‭ ‬التناظر‭ ‬الوظيفي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المحلى‭ ‬أو‭ ‬الجغرافي،‭ ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬القطاعات‭ ‬الاقتصادية‭.‬

ان‭ ‬مبدأ‭ ‬انتزاع‭ ‬وتخزين‭ ‬أكبر‭ ‬كمية‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬الموارد،‭ ‬مقابل‭ ‬أقل‭ ‬مستوى‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬المحددة‭ ‬في‭ ‬الخطة،‭ ‬هو‭ ‬المبدأ‭ ‬الرئيسي‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يوجه‭ ‬أسلوب‭ ‬عمل‭ ‬الادارة‭ ‬لبيروقراطية‭ ‬الانتاج‭. ‬ويقود‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬الى‭ ‬نتيجتين‭ ‬هامتين‭:‬

1-‭ ‬هي‭ ‬محاولة‭ ‬اخفاء‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬الحقيقي‭ ‬للمؤسسة،‭ ‬اخفائها‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأخرى‭ ‬وكذلك‭ ‬عن‭ ‬المراتب‭ ‬الأعلى‭.‬

2-‭ ‬هي‭ ‬تقليص‭ ‬الدوافع،‭ ‬وانتقاء‭ ‬الشروط،‭ ‬لادخال‭ ‬الوسائل‭ ‬التقنية‭ ‬المتطورة‭ ‬في‭ ‬الانتاج،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬الشرط‭ ‬المادي‭ ‬للارتقاء‭ ‬بمعدل‭ ‬انتاجية‭ ‬العمل‭.‬

ان‭ ‬درجة‭ ‬اكبر‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬السوق‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬كان‭ ‬يمكن،‭ ‬كما‭ ‬ثبت‭ ‬بالوقائع‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬ان‭ ‬تقود‭ ‬الى‭ ‬انتعاش‭ ‬القطاعات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعتها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وبحكم‭ ‬الدرجة‭ ‬المعطاة‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مؤهلة‭ ‬بعد‭ ‬للانتقال‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير‭.‬

وان‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬القطاعات‭ ‬هامة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمستهلك‭ ‬وانتعاشها‭ ‬بمكن‭ ‬ان‭ ‬يشكل‭ ‬رافدا‭ ‬اضافيا‭ ‬لتطور‭ ‬الانتاج‭ ‬والتبادل،‭ ‬فان‭ ‬هذه‭ ‬القطاعات‭ ‬ليست‭ ‬حايمة‭ ‬لتطور‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ككل،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الرأسمالية‭. ‬وفي‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬اليها‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬ستينيات،‭ ‬وبشكل‭ ‬أكثر‭ ‬الحاحا‭ ‬منذ‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن20،‭ ‬كان‭ ‬تطوير‭ ‬هذه‭ ‬القطاعات‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الرقابة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬جمهور‭ ‬المستهلكين‭ ‬توفر‭ ‬حافزا‭ ‬لتطوير‭ ‬نوعية‭ ‬الانتاج‭ ‬وشروطه‭ ‬التقنية،‭ ‬وعاملا‭ ‬ضاغطا‭ ‬على‭ ‬مراكز‭ ‬القرار‭. ‬ولكن‭ ‬درجة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الرقابة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬جمهور‭ ‬المستهلكين‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬بالضرورة‭ ‬عبر‭ ‬آليات‭ ‬السوق،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تتحقق‭ ‬عبر‭ ‬اشاعة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬مشفوعة‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬الانتاج‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭.‬

الفصل‭ ‬الثاني‭: ‬تفاقم‭ ‬التناقضات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭ ‬1964‭ ‬–‭ ‬1982

1-‭ ‬اتجاهات‭ ‬تفاقم‭ ‬التناقضات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭.‬

لقد‭ ‬استفضنا‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬البيروقراطية‭ ‬نفسها،‭ ‬الذي‭ ‬تبرهن‭ ‬صحته‭ ‬الوقائع،‭ ‬بهدف‭ ‬التوصل‭ ‬الى‭ ‬تحديد‭ ‬علمي‭ ‬لمصدر‭ ‬الخلل،‭ ‬منبع‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يتفاقم‭ ‬تدريجيا‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والمجتمع‭ ‬لكي‭ ‬يصل‭ ‬الى‭ ‬نقطة‭ ‬أصبح‭ ‬فيها‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬التناقضات‭ ‬الاخرى،‭ ‬عنصر‭ ‬تعطيل‭ ‬وعرقلة‭ ‬للتطور‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬احداث‭ ‬الأزمة‭.‬

ان‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬لا‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الاحتكار‭ ‬البيروقراطي‭ ‬لسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بالملكية‭ ‬العامة‭. ‬انه‭ ‬لا‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬مركزية‭ ‬التخطيط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬بيروقراطيته،‭ ‬اي‭ ‬من‭ ‬انفراد‭ ‬البيروقراطية‭ ‬بسلطة‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬أولويات‭ ‬التصرف‭ ‬بالفائض،‭ ‬وبالموارد‭ ‬المتاحة‭ ‬وفقا‭ ‬لمصالحها‭ ‬باختلاف‭ ‬مراتبها‭.‬

وأخيرا،‭ ‬فان‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬لا‭ ‬ينبع‭ ‬بالضروة‭ ‬من‭ ‬انعدام،‭ ‬أو‭ ‬قلة‭ ‬الكفاءة‭ ‬التقنية‭ ‬للمدير‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬بل‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬مصالحه‭ ‬ومصالح‭ ‬جمهور‭ ‬العاملين‭ ‬والمستهلكين،‭ ‬ومن‭ ‬التعارض‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مصالح‭ ‬المراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الأعلى‭ ‬وادارات‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأخرى‭.‬

ان‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬يجعل‭ ‬مصالح‭ ‬المدير،‭ ‬كشخص‭ ‬وكمرتبة،‭ ‬العامل‭ ‬المحرك‭ ‬الرئيسي‭ ‬لانجاز‭ ‬الخطة،‭ ‬ولضمان‭ ‬انتظام‭ ‬الأداء‭ ‬اليومي‭ ‬للعملية‭ ‬الانتاجية‭.‬

بتفاقم‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬مع‭ ‬التباين‭ ‬بين‭ ‬مراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬تعرضها‭ ‬للضغط‭ ‬من‭ ‬أدنى،‭ ‬ودرجة‭ ‬تأثرها‭ ‬به‭. ‬فالمراتب‭ ‬الدنيا‭ ‬المعنية‭ ‬بالعلاقة‭ ‬المباشرة‭ ‬مع‭ ‬جمهور‭ ‬المنتخبين‭ ‬والمستهلكين،‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬حساسية‭ ‬لهذا‭ ‬الضغط،‭ ‬كذلك‭ ‬يتفاقم‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬بفعل‭ ‬عملية‭ ‬التمايز‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬التمايز‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬ونوعية‭ ‬الامتيازات‭ ‬المتاحة‭ ‬للمراتب‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية‭.‬

كان‭ ‬الفائض‭ ‬اصلا‭ ‬محدودا،‭ ‬والحصة‭ ‬المخصصة‭ ‬منه‭ ‬للاستهلاك‭ ‬شحيحة،‭ ‬واكن‭ ‬هذا‭ ‬يمس‭ ‬بمستوى‭ ‬حياة‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬أساسا،‭ ‬ولكنه‭ ‬أيضا‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬امتيازات‭ ‬البيروقراطية‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬نمو‭ ‬الفائض‭ ‬والتزايد‭ ‬النسبي‭ ‬لنصيب‭ ‬الاستهلاك‭ ‬منه،‭ ‬تفاقمت‭ ‬هذه‭ ‬الامتيازات،‭ ‬واتسعت‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬مستوى‭ ‬حياة‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬وبين‭ ‬دخول‭ ‬وامتيازات‭ ‬البيروقراطيين‭.‬

لا‭ ‬بد‭ ‬ان‭ ‬نعطي‭ ‬صورة‭ ‬واقعية‭ ‬موجزة‭ ‬عن‭ ‬تطور‭ ‬وتجليات‭ ‬المراحل‭ ‬المبكرة‭ ‬لهذا‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬وستينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الاطار‭ ‬نشير‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬التناقض،‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬هو‭ ‬المحرك‭ ‬الرئيسي‭ ‬للتحولات‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬وفاة‭ ‬ستالين‭. ‬لقد‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬الدافع‭ ‬الرئيسي‭ ‬لهذه‭ ‬التحولات‭ ‬كان‭ ‬سياسيا،‭ ‬يتعلق‭ ‬باعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬مراكز‭ ‬القوى‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬النظام‭: ‬الحزب،‭ ‬الجيش،‭ ‬والأجهزة‭ ‬الأمنية‭. ‬وعملية‭ ‬التصفية‭ ‬الجزئية‭ ‬للستالينية‭ ‬كانت‭ ‬تقتصر‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭ ‬الاستبدادية‭ ‬النافرة‭ ‬للعهد‭ ‬الستاليني،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬نوعي‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الاقتصادية‭.‬

ولكن‭ ‬التغيير‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬هيكل‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الصناعي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الحزبي‭ ‬والحكومي،‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬20‭. ‬كان‭ ‬معدل‭ ‬نمو‭ ‬الصناعة‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يشهد‭ ‬تراجعا‭ ‬نسبيا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭. ‬ففي‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬الخامسة‭ ‬1951‭ ‬–‭ ‬1956،‭ ‬كان‭ ‬المعدل‭ ‬السنوي‭ ‬13‭.‬1‭%‬،‭ ‬وفي‭ ‬الخطة‭ ‬اللاحقة‭ ‬1956‭ ‬–‭ ‬1960،‭ ‬انخفض‭ ‬الى‭ ‬10‭.‬4‭% ‬كانت‭ ‬اعتبارات‭ ‬تخلف‭ ‬الزراعة،‭ ‬وبدء‭ ‬تفاقم‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬الانتاج‭ ‬داخل‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة،‭ ‬تؤثر‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬احداث‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭.‬

مع‭ ‬تأثير‭ ‬نشوب‭ ‬الأزمة‭ ‬الزراعية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬1961‭ ‬–‭ ‬1963،‭ ‬والتفاقم‭ ‬التدريجي‭ ‬لتناقضات‭ ‬علاقات‭ ‬الانتاج‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات،‭ ‬قاد‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الى‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬أدت‭ ‬الى‭ ‬تدهور‭ ‬خطير‭ ‬في‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬الصناعي،‭ ‬ومعدل‭ ‬نمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬عموما‭ ‬في‭ ‬عامي‭ ‬1963‭ ‬–‭ ‬1964‭. ‬وخلال‭ ‬الفترة‭ ‬1961‭ ‬–‭ ‬1965،‭ ‬انخفضت‭ ‬وتيرة‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الى‭ ‬معدل‭ ‬سنوي‭ ‬قدره‭ ‬6‭.‬5‭%‬،‭ ‬والصناعي‭ ‬الى‭ ‬8‭.‬5‭% ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬خلال‭ ‬الخطة‭ ‬الخمسية‭ ‬السابقة‭ ‬1956‭ ‬–‭ ‬1960،‭ ‬توازي‭ ‬9‭.‬1‭% ‬للاقتصاد‭ ‬عموما،‭ ‬و‭ ‬10‭.‬4‭% ‬للصناعة‭.‬

تطلب‭ ‬هذا‭ ‬التدهور‭ ‬تغييرا‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الهرم،‭ ‬وأدى‭ ‬الى‭ ‬الاطاحة‭ ‬بخروتشوف‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬الترويكا‭ ‬القيادية‭ ‬الجديدة،‭ ‬اعتمدت‭ ‬‮«‬اصلاحات‭ ‬كوسيغين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬رئاسة‭ ‬الوزراء‭ ‬ومسؤولية‭ ‬الاشراف‭ ‬على‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الاصلاح‭ ‬مزيجا‭ ‬من‭ ‬الاجراءات‭ ‬المتنافرة‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬ترضي‭ ‬الجميع،‭ ‬ولكن‭ ‬الحصة‭ ‬الرئيسية‭ ‬من‭ ‬الغنيمة‭ ‬فيه‭ ‬ذهبت‭ ‬لصالح‭ ‬التحالف‭ ‬بين‭ ‬مراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الدنيا‭ (‬الصناعية‭ ‬والكولخوزية‭) ‬وبين‭ ‬طواقم‭ ‬الادارات‭ ‬المركزية‭ (‬وهو‭ ‬التحالف‭ ‬الذي‭ ‬أطاح‭ ‬بخروتشوف‭) ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬مراكز‭ ‬القوى‭ ‬الاقليمية‭ ‬المتشكلة‭.‬

مع‭ ‬استمرار‭ ‬تحكم‭ ‬المركز‭ ‬بسياسة‭ ‬التسعير‭ ‬للمنتجات،‭ ‬فقد‭ ‬أعطيت‭ ‬المؤسسة‭ ‬حق‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بنسبة‭ ‬من‭ ‬أرباحها‭ ‬وحق‭ ‬التصرف‭ ‬بهذه‭ ‬النسبة‭ ‬لصالح‭ ‬الاستثمار،‭ ‬أي‭ ‬تحسين‭ ‬عتادها‭ ‬ومخزونها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬أو‭ ‬لصالح‭ ‬تعزيز‭ ‬نظام‭ ‬الحوافز‭ ‬المادية‭ ‬للعمل‭ (‬زيادة‭ ‬الأجور‭ ‬والعلاوات‭). ‬وكان‭ ‬يفترض‭ ‬بهذه‭ ‬الاجراءات‭ ‬ان‭ ‬تعزز‭ ‬قدرة‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬تجديد‭ ‬عتادها،‭ ‬وتطويره‭ ‬تقنيا،‭ ‬وتحسين‭ ‬العلاقات‭ ‬الصناعية‭ ‬داخلها‭ ‬عبر‭ ‬نظام‭ ‬الحوافز‭ ‬المادية‭ ‬للعمال،‭ ‬وأن‭ ‬تقود‭ ‬بالتالي‭ ‬الى‭ ‬زيادة‭ ‬الانتاجية‭ ‬وتسريع‭ ‬معدل‭ ‬نمو‭ ‬الناتج‭ ‬وتحسين‭ ‬نوعيته‭.‬

وهكذا،‭ ‬فان‭ ‬الاصلاح‭ ‬الكوسيغيني،‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬رسميا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1970‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬يجمع‭ ‬بصورة‭ ‬موفقة‭ ‬بين‭ ‬الادارة‭ ‬المركزية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والتخطيط‭ ‬الحكومي‭ ‬الشامل،‭ ‬وبين‭ ‬الاستقلال‭ ‬الذاتي‭ ‬والمبادرة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للمؤسسات‮»‬‭ ‬انتهى‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬الى‭ ‬الفشل‭ ‬المدوي‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الفشل‭ ‬سببا‭ ‬للاطاحة‭ ‬بكوسيغين،‭ ‬والتخلي‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الترويكا‭ ‬وانفراد‭ ‬بريجينيف‭ ‬بسلطة‭ ‬الحزب‭ ‬والدولة‭. ‬ودخلت‭ ‬البلاد‭ ‬بذلك‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬عهد‭ ‬الجمود‮»‬‭.‬

حتى‭ ‬عهد‭ ‬البيرويسترويكا‭ ‬والغلاسنوست،‭ ‬كانت‭ ‬مظاهر‭ ‬الاجماع‭ ‬البيروقراطي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬الخارجي‭ ‬للحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجالاتها،‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والاجتماعات‭ ‬الجماهيرية‭ ‬والندوات‭ ‬الانتخابية‭ ‬والمؤتمرات‭ ‬السوفييتية‭ ‬المعلنة،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الاجتماعات‭ ‬الموسعة‭ ‬للوحدات‭ ‬الحزبية‭ ‬والنقابية‭ ‬القاعدية‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الاجماع‭ ‬البيروقراطي‭ ‬الظاهري،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬والفلاحين،‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬مستلزمات‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭ ‬الذي‭ ‬يحفظ‭ ‬للبيروقراطية‭ ‬هيمنتها‭ ‬عبر‭ ‬تعميق‭ ‬الاستلاب‭ ‬لحقوق‭ ‬الجمهور‭ ‬العمالي‭ ‬والفلاحي‭ ‬العريض‭.‬

هذه‭ ‬الاختلالات‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬هي‭ ‬باختصار‭ ‬نتيجة‭ ‬للتناقضات‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عمليات‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وللصراع‭ ‬الدائر‭ ‬فيه‭ ‬بوسائل‭ ‬المواربة‭ ‬حول‭ ‬تخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬اجتماعية‭ ‬ذات‭ ‬مصالح‭ ‬متعارضة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بيبن‭ ‬المراتب‭ ‬والمراكز‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬بقدر‭ ‬التنافر‭ ‬في‭ ‬مصالحها‭.‬

2-‭ ‬ازاء‭ ‬استحقاقات‭ ‬الطور‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭: ‬أزمة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬تتفاقم‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬‮«‬عهد‭ ‬الجمود‮»‬‭.‬

في‭ ‬اواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬قد‭ ‬استكمل‭ ‬انجاز‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطوره‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وأخذ‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬مختلفة‭ ‬نوعيا‭. ‬فالبنية‭ ‬الأساسية‭ ‬للصناعة‭ ‬استكمل‭ ‬ارساؤها‭ ‬وتطورت،‭ ‬الى‭ ‬مستويات‭ ‬راقية،‭ ‬الطاقة‭ ‬الانتاجية‭ ‬لصناعة‭ ‬انتاج‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج‭ (‬التعدين،‭ ‬الطاقة،‭ ‬وبناء‭ ‬الآلات‭)‬،‭ ‬وانتقلت‭ ‬الزراعة‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬المحراث‭ ‬الخشبي‭ ‬الى‭ ‬عصر‭ ‬المكننة‭ ‬والانتاج‭ ‬الكبير،‭ ‬واستكمل‭ ‬استصلاح‭ ‬الاراضي‭ ‬البكر‭ ‬واستغلال‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬الزاخرة‭ ‬التي‭ ‬تنعم‭ ‬بها‭ ‬البلاد‭. ‬وأصبحت‭ ‬الصناعة‭ ‬تستوعب‭ ‬حوالي‭ ‬ثلثي‭ ‬القوة‭ ‬العاملة،‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬حالة‭ ‬العمالة‭ ‬المستقرة‭ ‬والتشغيل‭ ‬الأقصى‭. ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وبفعل‭ ‬تسارع‭ ‬وتيرة‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والدولة‭ ‬العمالية‭ ‬رغم‭ ‬بقرطتها،‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتقدمة،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬تفوق‭ ‬على‭ ‬بعضها،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬تطور‭ ‬البنية‭ ‬الصناعية‭ ‬الأساسية،‭ ‬أي‭ ‬درجة‭ ‬تطور‭ ‬الطاقة‭ ‬الانتاجية‭ ‬لصناعة‭ ‬انتاج‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الكمي‭ ‬للقدرة‭ ‬الانتاجية‭.‬

ولكن‭ ‬هذه‭ ‬القدرة‭ ‬الانتاجية‭ ‬كانت‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬متخلفة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬تطورها‭ ‬النوعي‭. ‬يؤشر‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬وحسب‭ ‬الى‭ ‬درجة‭ ‬التأخر‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الانتاج،‭ ‬بما‭ ‬يخفض‭ ‬كلفته،‭ ‬بل‭ ‬كذلك‭ ‬الى‭ ‬التخلف‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬انتاج‭ ‬سلع‭ ‬وخدمات‭ ‬الاستهلاك‭ ‬الشعبي‭ ‬وهي‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬نسبة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة‭ ‬الى‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬الاقتصادات‭ ‬المتقدمة‭. ‬ويتبدى‭ ‬هذا‭ ‬التخلف‭ ‬ايضا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقارنة‭ ‬كلفة‭ ‬الانفاق‭ ‬على‭ ‬ضروريات‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المصنعة‭. ‬فالعامل‭ ‬المتوسط‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬انفاق‭ ‬15‭.‬9‭% ‬من‭ ‬دخله‭ ‬في‭ ‬المعدل‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬الملابس‭ ‬والأحذية،‭ ‬بينما‭ ‬تبلغ‭ ‬النسبة‭ ‬المقارنة‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬7‭.‬4‭% ‬في‭ ‬المعدل‭.‬

هل‭ ‬كانت‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬التدهور‭ ‬تقنية‭ ‬تعود‭ ‬الى‭ ‬عوامل‭ ‬اقتصادية‭ ‬فنية‭ ‬محضة؟

لو‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬لكان‭ ‬بالامكان‭ ‬تدارك‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬ومعالجة‭ ‬تلك‭ ‬العوامل‭ ‬وانهاض‭ ‬وتائر‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬الخطط‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحصل،‭ ‬فلقد‭ ‬كانت‭ ‬عوامل‭ ‬التدهور‭ ‬ببنية‭ ‬وهيكل‭ ‬السلطة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬السياسية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ملائمة‭ ‬لمتطلبات‭ ‬المرحلة‭ ‬الجديدة‭ ‬المستحقة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭.‬

أصبح‭ ‬دفع‭ ‬مسيرة‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬يتطلب‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي،‭ ‬ونظام‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬احتكار‭ ‬البيروقراطية‭ ‬لسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬باعتبارها‭ ‬ملكية‭ ‬عامة‭ ‬جماعية‭ ‬للمجتمع‭ ‬مودعة‭ ‬مؤقتا‭ ‬كأمانة‭ ‬بيد‭ ‬الدولة،‭ ‬والذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬استئثار‭ ‬البيروقراطية‭ ‬بسلطة‭ ‬التحكم‭ ‬بالفائض‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ومصادرتها‭ ‬لحق‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العمالية‭ ‬وانفرادها‭ ‬بالتمتع‭ ‬بهذا‭ ‬الحق‭.‬

أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬ممكنة‭ ‬موضوعيا‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وباتت‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬التطور،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا؟

نبدأ‭ ‬بالجانب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للمسألة‭: ‬ان‭ ‬متابعة‭ ‬النمو‭ ‬عبر‭ ‬التكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬لاستغلال‭ ‬الموارد‭ ‬وتخفيض‭ ‬كلفة‭ ‬الانتاج،‭ ‬تتطلب‭ ‬اساسا‭ ‬التجديد‭ ‬التكنولوجي‭ ‬المتزايد‭ ‬باضطراد‭ ‬ورفع‭ ‬معدل‭ ‬انتاجية‭ ‬العمل‭. ‬واذا‭ ‬كان‭ ‬تطور‭ ‬العلم‭ ‬شرطا‭ ‬لازما‭ ‬للتجديد‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬فانه‭ ‬ليس‭ ‬شرطا‭ ‬كافيا‭. ‬انه‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬يستكمل‭ ‬بتوفر‭ ‬الحافز‭ ‬الاقتصادي‭ ‬لتطبيق‭ ‬منجزات‭ ‬العلم،‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬يتوفر‭ ‬هذا‭ ‬الحافز‭ ‬بفعل‭ ‬حاجة‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الى‭ ‬التراكم،‭ ‬والى‭ ‬الارتقاء‭ ‬بنسبة‭ ‬تكوينه‭ ‬العضوي،‭ ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الاحتكارية‭ ‬يزداد‭ ‬هذا‭ ‬الحافز‭ ‬بفعل‭ ‬فيض‭ ‬التراكم‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬وتنامي‭ ‬حاجته‭ ‬الى‭ ‬مجالات‭ ‬جديدة‭ ‬للاستثماراما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬المخطط‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬فان‭ ‬هذا‭ ‬الحافز‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للتجديد‭ ‬التكنولوجي‭ ‬يتضاءل‭ ‬ويتقلص‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ينمو‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬الى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بنية‭ ‬أساسية،‭ ‬يؤمن‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬الانتاجية،‭ ‬تسمح‭ ‬بانتاج‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الفائض‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لاشباع‭ ‬حاجات‭ ‬الشريحة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬حاجاتها‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬كشريحة‭ ‬متميزة،‭ ‬وحاجتها‭ ‬الى‭ ‬الامتيازات‭ ‬والتسهيلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬حافز‭ ‬‮«‬مصلحة‭ ‬النظام‭ ‬ككل»؟

فوق‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضروري‭ ‬لتأمين‭ ‬امتيازات‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬فان‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬صون‭ ‬النظام‭ ‬ككل‭ ‬وضمان‭ ‬استقراره‭ ‬يتطلب‭ ‬تأمين‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الانفاق‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬وتأمين‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬اعاقة‭ ‬قوى‭ ‬القمع‭ ‬وضمان‭ ‬ارتفاع‭ ‬تدريجي‭ ‬ولو‭ ‬بسيط‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬معيشة‭ ‬السكان‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬حافز‭ ‬‮«‬مصلحة‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل»؟

ان‭ ‬مصلحة‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل‭ ‬ليست‭ ‬العامل‭ ‬المحرك‭ ‬لانتظام‭ ‬العمل‭ ‬اليومي‭ ‬للنظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية‭. ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬أي‭ ‬قوة‭ ‬اجتماعية‭ ‬حاكمة‭ ‬ذات‭ ‬امتيازات،‭ ‬فان‭ ‬مصلحتها‭ ‬الفئوية‭ ‬الخاصة،‭ ‬كأفراد‭ ‬وكشريحة‭ ‬حاكمة،‭ ‬مصلحتها‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬ومراكمة‭ ‬امتيازاتها،‭ ‬هي‭ ‬وحدها‭ ‬القوة‭ ‬المنظمة‭ ‬لمسار‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بمجراها‭ ‬اليومي،‭ ‬طالما‭ ‬استمر‭ ‬نظامها‭ ‬قائما‭.‬

التجديد‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والنمو‭ ‬عبر‭ ‬التكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬يفترض‭ ‬حافزا‭ ‬للاستخدام‭ ‬الأمثل‭ ‬للموارد‭ ‬ودخلات‭ ‬الانتاج،‭ ‬حافزا‭ ‬لانتاج‭ ‬كمية‭ ‬أكبر‭ ‬ونوعية‭ ‬أفضل‭ ‬بموارد‭ ‬ومدخلات‭ ‬أقل،‭ ‬ومصلحة‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬تفترض‭ ‬العكس‭ ‬تماما،‭ ‬انها‭ ‬تتطلب‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬اكبر‭ ‬كمية‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬الموارد‭ ‬والمدخلات‭ ‬وتخفيض‭ ‬حصص‭ ‬وتسليمات‭ ‬الانتاج‭ ‬المقررة‭ ‬للمؤسسة‭ ‬في‭ ‬الخطة،‭ ‬و»اقناع‮»‬‭ ‬المخططين‭ ‬والمراتب‭ ‬الاعلى‭ ‬بذلك‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة‭: ‬التزييف،‭ ‬او‭ ‬التملق،‭ ‬او‭ ‬الضغط،‭ ‬او‭ ‬تبادل‭ ‬المنافع‭ ‬والخدمات‭ ‬المالية،‭ ‬او‭ ‬السياسية،‭ ‬او‭ ‬ربما‭ ‬الرشوة‭ ‬الموصوفة‭. ‬وحشد‭ ‬طاقات‭ ‬الصناعة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬التكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬والتحديث‭ ‬التكنولوجي‭ ‬يتطلب‭ ‬مرونة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬التنقيل‭ ‬واعادة‭ ‬التوزيع‭ ‬للموارد‭ ‬ودخلات‭ ‬الانتاه‭ ‬والقوة‭ ‬العاملة‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬وفروع‭ ‬الصناعة،‭ ‬بينما‭ ‬مصلحة‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬تتطلب‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬تخزين‭ ‬واكتناز‭ ‬الموارد‭ ‬والمدخلات‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬واخفاءها‭ ‬عن‭ ‬المخططين‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الاخرى‭.‬

ان‭ ‬جميع‭ ‬الإصلاحات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت،‭ ‬منذ‭ ‬خروتشوڤ‭ ‬مرورا‭ ‬بكوسيجين‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬هذا‭ ‬الخلل‭. ‬فجميع‭ ‬هذه‭ ‬الإصلاحات‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬المعضلة‭ ‬عبر‭ ‬إحداث‭ ‬توازن‭ ‬بين‭ ‬مركزية‭ ‬التخطيط‭ ‬واستقلالية‭ ‬المشروعات،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬تغليب‭ ‬استقلالية‭ ‬المؤسسات‭ ‬واعتماد‭ ‬مبدأ‭ ‬الربحية‭. ‬ولكن‭ ‬المعضلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تكمن‭ ‬هنا‭.  ‬خلافا‭ ‬لما‭ ‬يروجه‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬خراب‭ ‬البصرة،‭ ‬منظرو‭ ‬‮«‬آليات‭ ‬السوق‭ ‬والحساب‭ ‬الإقتصادي‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬المعضلة‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬مركزية‭ ‬التخطيط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬بيروقراطيته‭. ‬فمركزية‭ ‬التخطيط‭ ‬لا‭ ‬تتنافى‭ ‬بالضرورة‭ ‬مع‭ ‬متطلبات‭ ‬التحديث‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حافزا‭ ‬لها‭ ‬إذا‭ ‬اقترنت‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬والإدارة‭ ‬العمالية‭ ‬الجماعية‭.  ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬متطلبات‭ ‬التحديث‭ ‬هي‭ ‬مصلحة‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬ونمط‭ ‬الإدارة‭ ‬والتخطيط‭ ‬البيروقراطي‭ ‬اللذين‭ ‬يتيحان‭ ‬له‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬المصلحة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬مصالح‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل‭.‬

في‭  ‬المجتمع‭  ‬الرأسمالي‭  ‬المتطور‭  ‬يتحقق‭  ‬التوافق‭  ‬بين‭  ‬توجهات‭  ‬المنتجين،‭  ‬وبين‭ ‬‮«‬رغبات‮»‬‭ ‬المستهلكين،‭ ‬ليس‭ ‬بفضل‭ ‬سحر‭ ‬آليات‭ ‬السوق‭ ‬الحرة،‭ ‬كما‭ ‬يزعم‭ ‬منظرو‭ ‬علم‭ ‬الإقتصاد‭ ‬البورجوازي،‭ ‬بل‭ ‬بفعل‭ ‬قوانين‭ ‬المنافسة‭ ‬الإحتكارية‭ ‬التي‭ ‬تملي‭ ‬التجديد‭ ‬التكنولوجي‭. ‬وهذا‭ ‬التجديد‭ ‬يوفر‭ ‬بدوره‭ ‬مرونة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬النوعية‭ ‬وتأمين‭ ‬الإنسجام‭ ‬الفعلي،‭ ‬أو‭ ‬الظاهري‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬حاجات‭ ‬السوق،‭ ‬كما‭ ‬يؤمن‭ ‬التحسين‭ ‬النسبي‭ ‬للنوعية‭ ‬تلقائيا،‭ ‬ويمكن‭ ‬من‭ ‬خفض‭ ‬كلفة‭ ‬الانتاج‭ ‬بصورة‭ ‬جوهرية‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العامل‭ ‬التخطيط‭ ‬الإحتكاري‭ ‬بما‭ ‬يوفره‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬للتنبؤ‭ ‬باتجاهات‭ ‬السوق،‭ ‬ثم‭ ‬الخداع‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه‭ ‬الإحتكارات‭ ‬على‭ ‬المستهلك‭ ‬بتقديم‭ ‬نوعيات‭ ‬أسوأ،‭ ‬ولكن‭ ‬بمظاهر‭ ‬خارجية‭ ‬أكثر‭ ‬بهرجة‭ ‬وتسويقها‭ ‬بفضل‭ ‬كلفتها‭ ‬المنخفضة،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبفضل‭ ‬إنفاق‭ ‬أموال‭ ‬طائلة‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلان‭ ‬والتسويق‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الذوق‭ ‬الإستهلاكي‭ ‬العام،‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬خلق‮»‬‭ ‬حاجات‭ ‬إستهلاكية‭ ‬مفتعلة‭ ‬لتوسيع‭ ‬السوق،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬اقتصاد‭ ‬مخطط‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬ويدار‭ ‬بيروقراطيا؟

بالنسبة‭ ‬للسلع‭ ‬الإستهلاكية‭ ‬المصنعة‭ ‬فهي،‭ ‬خلافا‭ ‬للإنتاج‭ ‬الكولخوزي،‭ ‬تصرف‭ ‬عادة‭ ‬عبر‭ ‬مخازن‭ ‬الدولة‭. ‬وهي‭ ‬تعتبر‭ ‬مباعة‭ ‬بمجرد‭ ‬ان‭ ‬توافق‭ ‬على‭ ‬تسلمها‭ ‬مخازن‭ ‬الدولة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ايضا‭ - ‬بدورها‭ - ‬تخضع‭ ‬لإدارات‭ ‬بيروقراطية‭ ‬يسهل‭ ‬إقناعها‭ ‬بالإستلام،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬نوعية‭ ‬المنتوج،‭ ‬إما‭ ‬عبر‭ ‬آلية‭ ‬تبادل‭ ‬المنافع‭ ‬بين‭ ‬البيروقراطيين،‭ ‬أو‭ ‬باختصار‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬توفر‭ ‬البديل‭. ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل،‭ ‬فإن‭ ‬النقلة‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬مطلوبا‭ ‬إحداثها‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬تطور‭ ‬الإقتصاد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تتنافى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والإقتصاد‭ ‬المخطط،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬تفترضهما،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬متطلباتها‭ ‬تتناقض‭ ‬بحدة‭ ‬مع‭ ‬نمط‭ ‬الإدارة‭ ‬البيروقراطي‭ ‬للإقتصاد،‭ ‬ومع‭ ‬مصالح‭ ‬القائمين‭ ‬عليه‭.‬

من‭ ‬الزاوية‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬فإن‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وهيمنتها‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬أصبحت‭ ‬فائضة‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬المجتمع‭ ‬واستنفذت‭ ‬دورها،‭ ‬بل‭ ‬وباتت‭ ‬عقبة‭ ‬تحتجز‭ ‬طريق‭ ‬النمو‭ ‬وتعرقله‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬بالذات‭ ‬تكمن‭ ‬السمة‭ ‬الانتقالية‭ ‬للبيروقراطية،‭ ‬كونها‭ ‬ليست‭ ‬طبقة‭ ‬حاكمة‭ ‬جديدة،‭ ‬لانها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬ان‭ ‬تضمن‭ ‬استمرار‭ ‬توالد‭ ‬سلطتها‭ ‬بحكم‭ ‬الضرورة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬ان‭ ‬تبني‭ ‬مجتمعا‭ ‬على‭ ‬طرازها‭ ‬ولا‭ ‬اقامة‭ ‬نمط‭ ‬انتاج‭ ‬خاص‭ ‬بها‭ ‬متميز‭ ‬عن‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وعن‭ ‬الاشتراكية‭ ‬بنفس‭ ‬الوقت‭. . ‬إن‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج،‭ ‬بل‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بها‭ ‬مؤقتا‭ (‬طالما‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬موقعه‭)‬،‭ ‬يستمد‭ ‬ضرورته‭ ‬من‭ ‬تخلف‭ ‬مجتمع‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬ويستنفذ‭ ‬دوره‭ ‬ويفقد‭ ‬وظيفته‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬المجتمع‭ ‬هذا‭ ‬التخلف،‭ ‬فيوضع‭ ‬البيروقراطي‭ ‬هكذا‭ ‬أمام‭ ‬الخيار‭: ‬إما‭ ‬الارتداد‭ ‬إلى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬له‭ ‬حق‭ ‬تملك‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج،‭ ‬وإما‭ ‬الزوال،‭ ‬كشريحة‭ ‬حاكمة،‭ ‬والاختفاء‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬التاريخ،‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬العمال‭ ‬ليستردوا‭ ‬أمانتهم،‭ ‬وليمارسوا‭ ‬حقهم‭ ‬الكامل‭ ‬في‭ ‬تولي‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬دولتهم‭.‬

هكذا‭ ‬تقضي‭ ‬الضرورة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وهي‭ ‬الحاسمة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر،‭ ‬ولكن‭: ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬البناء‭ ‬الفوقي‮»‬‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬المسألة؟

اذا‭ ‬كانت‭ ‬النقلة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬التطور‭ ‬باتت‭ ‬تطرح‭ ‬بإلحاح،‭ ‬من‭ ‬الزاوية‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬إستحقاق‭ ‬إعادة‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬أيدي‭ ‬العمال‭ ‬ليديروها‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬نافل‭ ‬القول،‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬السلطة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ممارستها‭ ‬إلا‭ ‬بأسلوب‭ ‬ديمقراطي،‭ ‬عبر‭ ‬التنظيم‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الشامل‭ ‬للعمال‭ ‬كطبقة‭ ‬حاكمة‭. ‬فالإدارة‭ ‬الجماعية‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬فقط‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العمالية‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬الإنتاج،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الشاملة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وفي‭ ‬ممارسة‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭. ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬لم‭  ‬يعد‭ ‬فقط‭ ‬تفضيلا‭ ‬ايديولوجيا،‭ ‬او‭ ‬ضمانة‭ ‬لاتجاه‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭. ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬رأينا‭ ‬كيف‭ ‬أصبح‭ ‬ضرورة‭ ‬ملحة‭ ‬تتطلبها‭ ‬فورا‭ ‬حاجات‭ ‬النمو‭ ‬الإقتصادي‭ ‬للمجتمع‭. ‬فالنمو‭ ‬عبر‭ ‬التكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬لاستغلال‭ ‬الموارد،‭ ‬بما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬حاجات‭ ‬للتحديث‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والإنتاج‭ ‬الجماهيري‭ ‬لسلع‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬إشاعة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مناحي‭ ‬حياة‭ ‬المجتمع‭. ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬حاجات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬النمو‭ ‬ومتابعة‭ ‬السير‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬التحول‭ ‬الإشتراكي،‭ ‬كانت‭ ‬إعادة‭ ‬الإعتبار‭ ‬لمبدأ‭ ‬التعددية‭ ‬الحزبية،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬إحترام‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬السوڤييتي‭ ‬والتزام‭ ‬الخيار‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬تضمن‭ ‬لجماهير‭ ‬العمال‭ ‬والشعب‭ ‬العامل‭ ‬عموما،‭ ‬حق‭ ‬وامكانية‭ ‬الانتظام‭ ‬لممارسة‭ ‬السلطة،‭ ‬وإمكانية‭ ‬إتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬الديمقراطي‭ ‬بشأن‭ ‬الخيارات‭ ‬الرئيسية‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬كما‭ ‬الإجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬التي‭ ‬تطرح‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬والتي‭ ‬تنعكس‭ ‬بالضرورة‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬وخطط‭ ‬الأحزاب‭ ‬المختلفة‭.‬

هذه‭ ‬النقلة‭ ‬كانت‭ ‬ضرورية،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬ممكنة‭ ‬موضوعيا،‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬احداثها‭ ‬يهدد‭ ‬بالخطر‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬ومسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية؟

لقد‭ ‬ثبت‭ ‬ان‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭ ‬وانفراد‭ ‬الحزب‭ ‬البيروقراطي‭ ‬الحاكم‭ ‬بالسلطة‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الضمان‭ ‬السياسي‭ ‬لمواصلة‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬بل‭ ‬ان‭ ‬استمرار‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬أساسه‭ ‬المادي‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعرَض‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬للخطر‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬مؤهلة،‭ ‬موضوعيا،‭ ‬لممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬دولتها‭ ‬بنفسها‭ ‬وصون‭ ‬نظامها‭ ‬بشكل‭ ‬ديمقراطي‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬دكتاتورية‭ ‬الطليعة‮»‬،‭ ‬وبالتأكيد‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاحتكار‭ ‬البيروقراطي‭ ‬للسلطة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬حاجة‭ ‬مشكوك‭ ‬بضرورتها‭ ‬أصلا‭. ‬فلقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬أغلبية‭ ‬ثابتة‭ ‬ومستقرة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأغلبية‭ ‬ساحقة‭ (‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬المجتمع‭ ‬الفعال‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬أصبحت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬والتحصيل‭ ‬العلمي‭ ‬والتطور‭ ‬الحضاري‭ ‬والاستقرار‭ ‬الإجتماعي‭. ‬ولذلك‭ ‬بات‭ ‬الاستحقاق‭ ‬الديمقراطي‭ ‬ممكنا‭ ‬تمام،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬ضرورة‭ ‬للتطور‭.‬

هل‭ ‬كانت‭ ‬الاستجابة‭ ‬لهذه‭ ‬الاستحقاقات،‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬تعني‭ ‬الانتقال‭ ‬فورا‭ ‬الى‭ ‬مجتمع‭ ‬اشتراكي؟

كلا‭ ‬بالطبع‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬فقط‭ ‬تجاوز‭ ‬المنعطف‭ ‬نحو‭ ‬طور‭ ‬جديد،‭ ‬أكثر‭ ‬تقدما،‭ ‬من‭ ‬أطوار‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬طور‭ ‬جديد‭ ‬تتطور‭ ‬فيه‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬وفق‭ ‬قوانينها‭ ‬‮«‬الطبيعية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬اكتشفها‭ ‬ماركس‭ ‬وإنجلز،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنا‭ ‬ان‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متخلف،‭ ‬طور‭ ‬جديد‭ ‬تستكمل‭ ‬فيه‭ ‬العملية‭ ‬لحاقها‭ ‬بمستوى‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتقدمة‭ ‬وتفوقها‭ ‬عليه،‭ ‬وتؤسس‭ ‬بذلك‭ ‬القاعدة‭ ‬المادية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لمجتمع‭ ‬إشتراكي‭. ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تمت‭ ‬الاستجابة‭ ‬لهذا‭ ‬الاستحقاق،‭ ‬فإن‭ ‬الحاجة‭ ‬كانت‭ ‬ستبقى‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬الملكية‭ ‬الكولخوزي‭ ‬في‭ ‬الزراعة،‭ ‬وإلى‭ ‬نشاط‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الخاص‭ ‬ضمن‭ ‬حدود‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬المحرز‭ ‬بشمولها‭ ‬بأفضليات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير،‭ ‬في‭ ‬الزراعة،‭ ‬والخدمات،‭ ‬وتجارة‭ ‬المفرق‭ ‬الصغيرة‭.‬

بهذا‭ ‬المنحى‭ ‬كان‭ ‬يتطور‭ ‬الوضع‭ ‬الداخلي‭ ‬للإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬ومطلع‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬كانت‭ ‬تجيش‭ ‬أعماقه‭ ‬بتيارات‭ ‬التغيير‭ ‬التي‭ ‬تتلاطم‭ ‬أمواجها‭ ‬باتجاهات‭ ‬متناقضة‭. ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المتقدم‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬استنفذ‭ ‬مرحلة‭ ‬الرواج‭ ‬والازدهار‭ ‬النسبي‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬حتى‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬وبدأ‭ ‬يدخل‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬المديدة‭ ‬المركبة‭. ‬والمغامرات‭ ‬العدوانية‭ ‬المتوالية‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أنهكت‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الأميركية‭ ‬وأجبرتها‭ ‬على‭ ‬الانكفاء‭ ‬المؤقت‭. ‬وشهد‭  ‬للحركة‭ ‬الثورية‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬إنتصارات‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬ڤيتنام‭ ‬وكمبوديا‭ ‬ولاوس،‭ ‬وفي‭ ‬البرتغال‭ ‬وأنغولا‭ ‬وموزامبيق،‭ ‬وفي‭ ‬اليمن‭ ‬وأثيوبيا،‭ ‬وفي‭ ‬نيكاراغوا‭  ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬وإيران‭. ‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الانتصارات‭ ‬قد‭ ‬تحققت‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬أحزاب‭ ‬شيوعية،‭ ‬أو‭ ‬حركات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ثورية‭ ‬ترفع‭ ‬راية‭ ‬الإشتراكية‭ ‬العلمية،‭ ‬وتتأثر‭ ‬بعمق‭ ‬بالإنجازات‭ ‬الباهرة‭ ‬التي‭ ‬حققها‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬التطور‭ ‬الإقتصادي‭ ‬والحضاري‭. ‬فالرأسمالية،‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتطورة،‭ ‬كانت‭ ‬تمر‭ ‬بمرحلة‭ ‬من‭ ‬التجدد‭ ‬الهيكلي‭ ‬العميق،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الرأسمالية‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬أزماتها‭ ‬المديدة‭. ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬بثلاثة‭ ‬اتجاهات‭: ‬التحديث‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والهيكلي،‭ ‬وتصعيد‭ ‬سباق‭ ‬التسلح،‭ ‬وتشديد‭ ‬الآليات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬لنهب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭. ‬الأزمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬فائضا‭ ‬في‭ ‬تراكم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭.‬

شكل‭ ‬ذلك‭ ‬ضغطا‭ ‬اضافيا‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬اقتصادت‭ ‬حلفائه‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬اوروبا‭. ‬ولكن‭ ‬التطور‭ ‬الأخطر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬اليه‭ ‬هو‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬الدولي‭ ‬لغير‭ ‬صالح‭ ‬السوفييت‭. ‬فحركة‭ ‬عد‭ ‬الانحياز‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عنصر‭ ‬توازن‭ ‬لصالحهم،‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬عميقة،‭ ‬وتلاشى‭ ‬تدريجيا‭ ‬مضمونها‭ ‬المعادي‭ ‬للامبريالية،‭ ‬وتعززت‭ ‬داخلها‭ ‬الاتجاهات‭ ‬المعادية‭ ‬للسوفييت‭.‬

وكان‭ ‬تحدي‭ ‬حرب‭ ‬النجوم‭ ‬الذي‭ ‬قذفه‭ ‬ريغان‭ ‬بزجه‭ ‬السوفييت‭. ‬الخلاف‭ ‬الصيني‭ ‬–‭ ‬السوفييتي‭ ‬كان‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬الدولي،‭ ‬ومن‭ ‬اضعاف‭ ‬مواقع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬اطار‭ ‬التوازن‭ ‬الدولي‭ ‬القائم‭. ‬هذا‭ ‬الخلاف‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬درجة‭ ‬القطيعة‭ ‬في‭ ‬اواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬تحول‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬سبعينياته‭ ‬الى‭ ‬صراع‭ ‬قوى‭ ‬كبرى،‭ ‬ودخلت‭ ‬على‭ ‬خطه‭ ‬الامبريالية‭ ‬الاميركية‭ ‬لتغذيته،‭ ‬ومارست‭ ‬سياسة‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الصين‭ ‬بهدف‭ ‬تحييد‭ ‬وزنها‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬الدولي‭ ‬القائم‭ ‬بين‭ ‬المعسكرين‭. ‬وفي‭ ‬اواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المسألة‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬التحييد،‭ ‬بل‭ ‬بلغ‭ ‬الصراع‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬التوتر‭ ‬العسكري،‭ ‬الذي‭ ‬القى‭ ‬على‭ ‬كاهل‭ ‬السوفييت‭ ‬عبئا‭ ‬اضافيا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬محاولتهم‭ ‬لحفظ‭ ‬التكافؤ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشكل‭ ‬حجر‭ ‬الاساس‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬الدولي‭ ‬القائم‭.‬

الفصل‭ ‬الثالث‭: ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التوازن‭ ‬الدولي‭ ‬والحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬تفاقم‭ ‬أزمة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

1-‭ ‬الأزمة،‭ ‬والتدهور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والحضاري‭.‬

التحولات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جارية‭ ‬في‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬الدولي‭ ‬لغير‭ ‬صالح‭ ‬السوڤييت،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تغذيها‭ ‬بعوامل‭ ‬إضافية‭ ‬تسارع‭ ‬من‭  ‬تفاقمها‭. ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬كان‭ ‬العبء‭ ‬المتزايد‭ ‬لنفقات‭ ‬سباق‭ ‬التسلح،‭ ‬وخصوصا‭ ‬عندما‭ ‬بلغ‭ ‬هذا‭ ‬السباق‭ ‬ذروته‭ ‬بالإعلان‭ ‬عن‭ ‬البرنامج‭ ‬الأميركي‭ ‬لحرب‭ ‬النجوم‭. ‬كان‭ ‬السباق‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬غير‭ ‬متكافئة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬انعكاساته‭ ‬على‭ ‬اقتصاد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬البلدين‭. ‬هناك‭ ‬أولا،‭ ‬الاختلاف‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬والوظيفة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للانفاق‭ ‬العسكري‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬الاجتماعيين،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الانفاق‭ ‬العسكري‭ ‬عامل‭ ‬تنشيط‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الاميركي‭ ‬الراكد،‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬التراكم‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬المال،‭ ‬وعامل‭ ‬تحفيز‭ ‬لعملية‭ ‬التجديد‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والهيكلي‭ ‬للبنية‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬عامل‭ ‬استنزاف‭ ‬للموارد‭ ‬وتبديد‭ ‬للفائض‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وثمة‭ ‬ثانيا،‭ ‬التفاوت‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬العبء‭ ‬الى‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭. ‬والعامل‭ ‬الثاني‭ ‬كان‭ ‬ناجما‭ ‬عن‭ ‬تعميق‭ ‬التفاوت‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬الدولي،‭ ‬والانخفاض‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬اسعار‭ ‬المواد‭ ‬الأولية‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭ ‬خلال‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭. ‬المواد‭ ‬الأولية‭ ‬كالنفط‭ ‬والغاز‭ ‬والخشب‭ ‬والمعادن،‭ ‬بالاضافة‭ ‬الى‭ ‬الذهب‭ ‬كانت‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تشكل‭ ‬من‭ ‬60‭% ‬من‭ ‬الصادرات‭ ‬السوفييتية‭. ‬وأدى‭ ‬انخفاض‭ ‬اسعار‭ ‬هذه‭ ‬المواد‭ ‬الى‭ ‬خلل‭ ‬متفاقم‭ ‬في‭ ‬الميزان‭ ‬التجاري‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالامكان‭ ‬تعويضه‭ ‬بزيادة‭ ‬تصدير‭ ‬السلع‭ ‬المصنعة‭ ‬بسبب‭ ‬رداءة‭ ‬نوعيتها‭ ‬وتدني‭ ‬قدرتها‭ ‬التنافسية‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الدولية‭.‬

ان‭ ‬النقلة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬كانت‭ ‬تتطلب‭ ‬الارتقاء‭ ‬بمعدل‭ ‬زيادة‭ ‬انتاجية‭ ‬العمل،‭ ‬ولكن‭ ‬التخلف‭ ‬عن‭ ‬الاستجابة‭ ‬للاستحقاقات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬لهذه‭ ‬النقلة،‭ ‬ادى‭ ‬الى‭ ‬تدهور‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الصعيد‭ ‬أيضا‭.‬

أين‭ ‬يكمن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التدهور‭ ‬الاقتصادي؟

ثمة‭ ‬فارقا‭ ‬جوهريا‭ ‬بين‭ ‬الأزمة‭ ‬الإقتصادية‭ ‬في‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬حينذاك‭ ‬وبين‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرأسمالي‭. ‬إن‭ ‬المظهر‭ ‬الرئيسي‭ ‬الأبرز‭ ‬للأزمة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬هو‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬تدني‭ ‬قدرة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬سلع‭ ‬وخدمات‭ ‬الاستهلاك‭ ‬الشعبي،‭ ‬وبين‭ ‬تنامي‭ ‬الحاجات‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬والقدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬للسكان‭. ‬أما‭ ‬الأزمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬فتميزها‭ ‬ظاهرة‭ ‬معاكسة‭: ‬فيض‭ ‬الإنتاج‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬سعة‭ ‬السوق‭. ‬والأزمة‭ ‬الإقتصادية‭ ‬السوڤييتية‭ ‬تجد‭ ‬سببها‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬التدني‭ ‬النسبي‭ ‬للموارد‭ ‬المتاحة‭ ‬للإستثمار،‭ ‬بينما‭ ‬تعود‭ ‬الأزمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬إلى‭ ‬التراكم‭ ‬الفائض‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬المال،‭ ‬مقابل‭ ‬تدني‭ ‬معدل‭ ‬الربح‭ ‬الذي‭ ‬يثبط‭ ‬الاستثمار‭.‬

من‭ ‬الزاوية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التقنية،‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬أسباب‭ ‬التدهور‭ ‬في‭ ‬نسب‭ ‬النمو‭ ‬باعادتها‭ ‬الى‭ ‬الزيادة‭ ‬المضطردة‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬الاستثمار‭ ‬الضروري‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬محددة‭ ‬من‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬الناتج‭ ‬المادي‭.‬

وفي‭ ‬تقرير‭ ‬امام‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬حزيان‭ ‬1985،‭ ‬يحدد‭ ‬غورباتشوف‭ ‬المعضلات‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬تعطل‭ ‬نمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬بما‭ ‬يلي‭: ‬التخلف‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬رداءة‭ ‬نوعية‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬الصناعية،‭ ‬عدم‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬التخطيط،‭ ‬الهدر‭ ‬المزمن‭ ‬للطاقة‭ ‬والمواد‭ ‬الخام،‭ ‬والمردود‭ ‬المتدني‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬مستويات‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الاستثمار‭.‬

هذا‭ ‬التدهور‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬وترافق‭ ‬مع‭ ‬تدهور‭ ‬شامل‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬والحضارية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ابرز‭ ‬علامات‭ ‬هذا‭ ‬التدهور‭ ‬تسارع‭ ‬التخلف‭ ‬التكنولوجي‭ ‬واتساع‭ ‬الفجوة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬بين‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬والغرب‭ ‬الامبريالي‭.‬

الى‭ ‬جانب‭ ‬التدهور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬كان‭ ‬التدهور‭ ‬الحضاري‭ ‬يتفاقم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التفاوت‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬الأجور‭ ‬والثروات،‭ ‬ازداد‭ ‬تفاقما‭ ‬بدوره‭.‬

2-‭ ‬الأزمة،‭ ‬وانعكاساتها‭ ‬في‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الرسمية‭.‬

‭ ‬الأيديولوجيا‭  ‬الرسمية،‭ ‬التي‭  ‬تطورت‭  ‬خلال‭ ‬ستينيات‭  ‬وسبعينيات‭  ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬لتتخذ‭ ‬شكل‭ ‬منظومة‭ ‬متكاملة‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬والنظريات‭ ‬التي‭ ‬تعالج‭ ‬كافة‭ ‬قضايا‭ ‬الثورة‭ ‬العالمية،‭ ‬كانت‭ ‬ترتكز‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬وتحليلها‭ ‬للوضع‭ ‬الدولي،‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬جوهرية‭ ‬شكلت‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬لبنيانها،‭ ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬العالميين‮»‬‭ ‬بصفتها‭ ‬العامل‭ ‬الرئيسي‭ ‬المحرك‭ ‬لتقدم‭ ‬وانتصار‭ ‬الاشتراكية‭ ‬على‭ ‬نظاق‭ ‬دولي‭.‬

هذه‭ ‬المنظومة‭ ‬الايديولوجية،‭ ‬باعلانها‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬كدولة،‭ ‬طليعة‭ ‬قائدة‭ ‬للتحول‭ ‬الثوري‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تستكمل‭ ‬برؤية‭ ‬شاملة‭ ‬لوظائف‭ ‬وأدوار‭ ‬القوى‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الثورية‭ ‬العالمية‭: ‬حركة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتطورة،‭ ‬وحركة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬النامية‭. ‬وهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مستمدة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح،‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬لواقع‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وتناقضاته،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬موضوعة‭ ‬‮«‬المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬متطلبات‭ ‬استراتيجية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬الدولي‭.‬

في‭ ‬البلدان‭ ‬المتطورة‭ ‬وجد‭ ‬هذا‭ ‬الاشتقاق‭ ‬غلافه‭ ‬الايديولوجي‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬‮«‬الانتقال‭ ‬البرلماني‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‮»‬‭ ‬بما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬اقتراب‭ ‬ملموس‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬الاصلاحي‭ ‬للاشتراكية‭ ‬–‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬ومن‭ ‬ابتعاد‭ ‬مناظر‭ ‬عن‭ ‬المفهوم‭ ‬الاشتراكي‭ ‬العلمي‭ ‬للدولة‭.‬

ويكمن‭ ‬جوهر‭ ‬هذه‭ ‬النظرية،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬تعترف‭ ‬بامكانية‭ ‬الانتقال‭ ‬السلمي‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬عبر‭ ‬البرلمان،‭ ‬فهذه‭ ‬الامكانية‭ ‬لا‭ ‬يستبعدها‭ ‬ماركس‭ ‬وانجلز‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬ال‭ ‬19،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تجاهلها‭ ‬لضرورة‭ ‬احداث‭ ‬تغيير‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬ضمان‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وتغاضيها‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭.‬

وفي‭ ‬البدان‭ ‬النامية،‭ ‬كانت‭ ‬نظرية‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬التطور‭ ‬اللارأسمالي‮»‬‭ ‬تلعب‭ ‬وظيفة‭ ‬مكملة‭. ‬هذه‭ ‬النطرية‭ ‬كانت‭ ‬تبلغ‭ ‬الذروة‭ ‬في‭ ‬الوهم‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬وفي‭ ‬التناقض‭ ‬مع‭ ‬بديهيات‭ ‬المنهج‭ ‬الاشتراكي‭ ‬العلمي‭.‬

موضوعة‭ ‬المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬العالميين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شذبت‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬وتمحورت‭ ‬حول‭ ‬المنافسة‭ ‬الإقتصادية‭ ‬السلمية،‭ ‬نالت‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬التصدع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬السباق‭ ‬يتجه‭ ‬لصالح‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتطورة‭ ‬بفجوة‭ ‬متسعة‭ ‬باضطراد‭ ‬بفعل‭ ‬أزمة‭ ‬وجمود‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬وتحت‭ ‬ضغط‭ ‬تسعير‭ ‬سباق‭ ‬التسلح،‭ ‬تحولت‭ ‬المباراة‭ ‬الى‭ ‬لهاث‭ ‬وراء‭ ‬الانفراج‭ ‬والوفاق‭ ‬الدولي‭ ‬بأي‭ ‬ثمن،‭ ‬وفتحت‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬نظرية‭ ‬غورباتشوف‭ ‬حول‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬لحل‭ ‬المشاكل‭ ‬المشتركة‭ ‬للبشرية‭.‬

وازاء‭ ‬تفاقم‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي،‭ ‬وتعاظم‭ ‬شعور‭ ‬البيروقراطية‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬نظامها‭ ‬وترميمه،‭ ‬جرى‭  ‬بهدوء‭  ‬طي‭  ‬يافطة‭ ‬‮«‬الاشتراكية‭ ‬المتطورة‮»‬‭ ‬واستبدالها‭ ‬بعبارة‭ ‬‮«‬الإشتراكية‭ ‬القائمة‭ ‬بالفعل‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬مظهر‭ ‬التمسك‭ ‬بالماركسية‭ ‬–‭ ‬اللينينية،‭ ‬واللجوء‭ ‬الانتقائي‭ ‬إلى‭ ‬عباراتها‭ ‬ومصطلحاتها،‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الأزمة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تغرق‭ ‬فيها‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الحاكمة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتعمق‭ ‬أزمتها‭ ‬الإجتماعية‭ ‬ويكشف‭ ‬التاريخ‭ ‬طبيعتها‭ ‬الإنتقالية‭ ‬التي‭ ‬استنفذت‭ ‬وظائفها‭. ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬مضمون‭ ‬هذه‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬يمعن‭ ‬في‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬منهج‭ ‬الإشتراكية‭ ‬العلمية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬محكومة‭ ‬بمصالحها،‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الإنفصال‭ ‬المادي‭ ‬والإجتماعي‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

3-‭ ‬الأزمة،‭ ‬وتفاقم‭ ‬السمة‭ ‬الطفيلية‭ ‬للبيروقراطية،‭ ‬وانفصالها‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬والمجتمع‭.‬

تفاقم‭ ‬الأزمة‭ ‬الإقتصادية‭ ‬والإجتماعية‭ ‬العامة‭ ‬كان‭ ‬يسير‭ ‬بالتفاعل‭ ‬الجدلي‭ ‬مع‭ ‬تعاظم‭ ‬السمات‭ ‬الطفيلية‭ ‬للشريحة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الحاكمة،‭ ‬وتراكم‭ ‬إمتيازاتها،‭ ‬وتفشي‭ ‬الفساد‭ ‬والتفسخ‭ ‬في‭ ‬صفوفها‭. ‬هذه‭ ‬السمات‭ ‬الطفيلية‭ ‬كانت‭ ‬تنبثق‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬من‭ ‬انتفاء‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬تلعبها‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ودولة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬من‭ ‬استنفاذ‭ ‬دورها‭ ‬التاريخي،‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬زائدة‭ ‬إجتماعية‭ ‬فائضة‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تسارع‭ ‬تفسخها،‭ ‬وإلى‭ ‬سعيها‭ ‬الدائب‭ ‬لزيادة‭ ‬ومراكمة‭ ‬إمتيازاتها‭ ‬الإجتماعية،‭ ‬وثرواتها‭ ‬الشخصية‭. ‬وأدى‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬التفاوت‭ ‬بين‭ ‬دخولها‭ ‬ومستوى‭ ‬معيشتها،‭ ‬وبين‭ ‬معدل‭ ‬الدخل‭ ‬ومستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬قنوات‭ ‬ووسائل‭ ‬مختلفة‭.‬

أول‭ ‬هذه‭ ‬الوسائل،‭ ‬هي‭ ‬الامتيازات‭ ‬الرسمية‭ ‬المعلنة‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬الدولة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬لفئاتها‭ ‬العليا‭. ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬العليا‭ ‬للبيروقراطية،‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬كبار‭ ‬مسؤولي‭ ‬الحزب‭ ‬وأجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬المركزي‭ ‬والمحلي‭ ‬ومدراء‭ ‬المؤسسات‭ ‬الانتاجية‭ ‬والكولخوزية‭ ‬الكبيرة‭ ‬وقطاع‭ ‬متميز‭ ‬من‭ ‬الانتلجنتسيا‭ ‬والتكنوقراط‭.‬

ثاني‭ ‬تلك‭ ‬القنوات،‭ ‬هو‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬نشاطات‭ ‬اقتصاد‭ ‬الظل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجتذب‭ ‬قطاعات‭ ‬متسعة‭ ‬باضطراد‭ ‬من‭ ‬المراتب‭ ‬الدنيا‭ ‬والوسطى‭ ‬للبيروقراطية‭.‬

ثالث‭ ‬تلك‭ ‬القنوات،‭ ‬هو‭ ‬الفساد‭ ‬والنهب‭ ‬غير‭ ‬المشروع‭ ‬لموارد‭ ‬الدولة‭ ‬الذي‭ ‬اتسع‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والرقابة‭ ‬الجماهيرية،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬يكتسب‭ ‬أبعادا‭ ‬هائلة،‭ ‬ويتفشى‭ ‬تدريجيا‭ ‬نحو‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬البيروقراطي‭.‬

فترة‭ ‬عهد‭ ‬الجمود‭ ‬شهدت‭ ‬أيضا،‭ ‬استكمالا‭ ‬للتحول‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للحزب‭ ‬الحاكم‭ ‬والغلبة‭ ‬الساحقة‭ ‬للبيروقراطية‭ ‬على‭ ‬تكوينه‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬اعضاء‭ ‬الحزب‭ ‬المنغرسون‭ ‬في‭ ‬جسم‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬يشكلون‭ ‬سوى‭ ‬4‭% ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬الاجمالي‭ ‬للطبقة،‭ ‬اما‭ ‬وزنهم‭ ‬داخل‭ ‬الحزب‭ ‬فلا‭ ‬يتجاوز‭ ‬خمس‭ ‬العضوية‭ ‬الاجمالية‭. ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحزب‭ ‬الاجتماعية‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬علامات‭ ‬عملية‭ ‬انفصال‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬كشريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬حاكمة،‭ ‬عن‭ ‬جسم‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬انفصال‭ ‬فئاتها‭ ‬العليا‭ ‬وعزلتها‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭.‬

الفصل‭ ‬الرابع‭: ‬البيريسترويكا‭ ‬وانتصار‭ ‬الردَة‭.‬

1-‭ ‬فشل‭ ‬البيريسترويكا‭.‬

كانت‭ ‬الأزمة‭ ‬الإقتصادية‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ضائقة‭ ‬اقتصادية،‭ ‬وتنعكس‭ ‬بحدة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬معيشة‭ ‬السكان‭ ‬وعلى‭ ‬قدرة‭ ‬البلاد‭ ‬الدفاعية‭ ‬وتغرقها‭ ‬في‭ ‬الديون‭. ‬والشعور‭ ‬الإجماعي‭ ‬بضرورة‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬صفوف‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الحاكمة،‭ ‬والتخوف‭ ‬من‭ ‬مغبة‭ ‬انتشار‭ ‬التذمر‭ ‬والاستياء‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬جماهير‭ ‬العمال،‭ ‬كان‭ ‬العامل‭ ‬الظاهري‭ ‬المباشر‭ ‬وراء‭ ‬إطلاق‭ ‬سياسة‭ ‬إعادة‭ ‬البناء‭ (‬البيريسترويكا‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬سياسة‭ ‬رسمية‭ ‬للحزب‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين‭ ‬المنعقد‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1968‭. ‬إنطوى‭ ‬برنامج‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬كما‭ ‬أقره‭ ‬المؤتمر،‭ ‬على‭ ‬تشخيص‭ ‬نقدي،‭ ‬صحيح‭ ‬اجمالا،‭ ‬لمظاهر‭ ‬الخلل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعترض‭ ‬نمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وتطور‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬التشخيص‭ ‬كان‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬مظاهر‭ ‬الخلل‭ ‬دون‭ ‬تحليل‭ ‬جوهرها‭ ‬الإجتماعي‭ ‬وأسبابها‭ ‬الكامنة‭.‬

الهدف‭ ‬الذي‭ ‬حدده‭ ‬برنامج‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬كما‭ ‬تبلور‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1985،‭ ‬هو‭ ‬تحديث‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ورفع‭ ‬معدل‭ ‬الانتاجية،‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬استئناف‭ ‬النمو‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬تخفيض‭ ‬حجم‭ ‬الاستثمار،‭ ‬والاقتصاد‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬الموارد‭. ‬لكن‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬اقترحت‭ ‬لانجاز‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬كانت‭ ‬متواضعة،‭ ‬وقاصرة‭ ‬وغير‭ ‬واقعية‭: ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬وسائل‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬المعلومات‭ ‬والأتمتة‭ ‬والالكترونيات‭ ‬والكيمياء‭ ‬الحيوية،‭ ‬عقلنة‭ ‬الاستثمار‭ ‬والتوفير‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬المعدات‭ ‬والخامات‭ ‬والطاقة‭ ‬عبر‭ ‬تقليص‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الاستثمارات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تنفيذ‭ ‬أهداف‭ ‬الخطة،‭ ‬ورأينا‭ ‬كيف‭ ‬يتناقض‭ ‬هذا‭ ‬المسعى‭ ‬مع‭ ‬نمط‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطي‭ ‬والمصالح‭ ‬التي‭ ‬تتولد‭ ‬عنه،‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬غير‭ ‬واقعي‭.‬

حقيقة‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬كانت‭ ‬تنطوي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬تناقض‭ ‬وصراع‭ ‬بين‭ ‬مفهومين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬بين‭ ‬قوتين‭ ‬اجتماعيتين،‭ ‬احداهما‭ ‬تريد‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬سوق‭ ‬اشتراكي‮»‬‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬المأزق،‭ ‬والأخرى‭ ‬تريد‭ ‬‮«‬اشتراكية‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬كمرحلة‭ ‬مؤقتة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الارتداد‭ ‬الى‭ ‬الرأسمالية‭. ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬كانت‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬كما‭ ‬صيغت‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬المبكرة،‭ ‬صفقة‭ ‬مؤقتة‭ ‬بين‭ ‬القوتين،‭ ‬ولكنها‭ ‬صفقة‭ ‬راجحة‭ ‬لصالح‭ ‬القوة‭ ‬الثانية،‭ ‬القوة‭ ‬الدافعة‭ ‬باتجاه‭ ‬التحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬شعارات‭ ‬‮«‬إشتراكية‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬مجرد‭ ‬برنامج‭ ‬مرحلي،‭ ‬أي‭ ‬مطلبا‭ ‬انتقاليا‭ ‬تتستر‭ ‬وراءه‭ ‬لاكتساب‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬وتأمين‭ ‬شروط‭ ‬انقضاضها‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬بأسره‭.‬

ولذلك‭ ‬كان‭ ‬استبشارهم‭ ‬عظيما‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬وعظيما‭ ‬كان‭ ‬اندفاعهم‭ ‬لتشجيعها‭ ‬ودفع‭ ‬مسارها‭ ‬حتى‭ ‬نهايته‭ ‬المنطقية،‭ ‬حتى‭ ‬انتصار‭ ‬قوى‭ ‬الردَة،‭ ‬وخبثية‭ ‬أيضا‭ ‬كانت‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬استخدموها،‭ ‬بمزيج‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬والاغراء‭ ‬والتدخل‭ ‬المباشر‭ ‬لدعم‭ ‬قوى‭ ‬الردَة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬بالعملية‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬النهاية‭.‬

2-‭ ‬‮«‬التفكير‭ ‬السياسي‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬‮«‬وحدة‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬‮«‬الغلاسنوست‮»‬‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬يملي‭ ‬إعادة‭ ‬نظر‭ ‬جذرية‭ ‬في‭ ‬أولويات‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭. ‬وهكذا‭ ‬اصطحبت‭  ‬ولادة‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬بولادة‭ ‬‮«‬التفكير‭ ‬السياسي‭ ‬الجديد‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬التفكير‮»‬‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬تشذيب‭ ‬نظرية‭ ‬‮«‬المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‮»‬‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬مفاهيم‭ ‬التنافس‭ ‬والمجابهة،‭ ‬والإستعاضة‭ ‬عنها‭ ‬بالدعوات‭ ‬المتهالكة‭ ‬إلى‭ ‬الانفراج‭ ‬والتعاون‭ ‬بين‭ ‬المعسكرين‭ ‬لحل‭ ‬المشاكل‭ ‬المشتركة‭ ‬للبشرية‭.‬

وتبريرا‭ ‬لهذه‭ ‬الدعوة‭ ‬اخترعت‭ ‬الايديولوجيا‭ ‬الرسمية‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬وحدة‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬وأولوية‭ ‬القضايا‭ ‬الكونية،‭ ‬والمعضلات‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬تغليب‭ ‬التعاون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حلها‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬تناقضات‭ ‬طبقية،‭ ‬أو‭ ‬صراعات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭.‬

الى‭ ‬جانب‭ ‬‮«‬اعادة‭ ‬البناء‭ ‬الاقتصادي‮»‬‭ ‬و»التفكير‭ ‬السياسي‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الغلاسنوست‮»‬‭ (‬العلانية‭ ‬أو‭ ‬الشفافية‭) ‬هي‭ ‬الركيزة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تطورها‭ ‬اللاحق‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تمليه،‭ ‬وتدفعه‭ ‬بسرعة،‭ ‬قوانينه‭ ‬الموضوعية‭ ‬الخاصة‭ ‬المنبثقة‭ ‬–‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬نوايا‭ ‬وتمنيات‭ ‬القادة‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬الصراع‭ ‬المتفاقم‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وراء‭ ‬اطلاق‭ ‬العملية،‭ ‬وهو‭ ‬منطق‭ ‬كان‭ ‬يميل‭ ‬باضطراد‭ ‬لصالح‭ ‬ترجيح‭ ‬كفة‭ ‬قوى‭ ‬الردَة‭ ‬وتمكينها‭ ‬–‭ ‬بسرعة‭ ‬مذهلة‭ ‬من‭ ‬نسف‭ ‬أسس‭ ‬الصفقة‭ ‬الهشة‭ ‬المؤقتة،‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بها‭ ‬العملية‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬المبكرة‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الاجماع‭ ‬الظاهري‭.‬

البعض‭ ‬يرى‭ ‬ان‭ ‬الغلاسنوست‭ ‬كانت‭ ‬خيارا‭ ‬لجأ‭ ‬اليه‭ ‬غورباتشوف‭ ‬بهدف‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬‮«‬الاتجاه‭ ‬المحافظ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحزب‭.‬

البعض‭ ‬الآخر‭ ‬يرى‭ ‬انها‭ ‬كانت،‭ ‬بالعكس‭ ‬وسيلة‭ ‬لجأة‭ ‬اليها‭ ‬نخبة‭ ‬النومنكلاتورا‭ (‬الفئة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬العليا‭) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كسر‭ ‬حواجز‭ ‬العزلة‭ ‬والغربة‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيطها‭ ‬بها‭ ‬مراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الوسطى،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬الحواجز‭ ‬حدا‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬على‭ ‬النخبة‭ ‬أن‭ ‬تواصل‭ ‬ممارسة‭ ‬الحكم‭ ‬لمجتمع‭ ‬باتت‭ ‬جاهلة‭ ‬تماما‭ ‬بخفاياه،‭ ‬وعاجزة‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬الحقيقة‭ ‬عما‭ ‬يدور‭ ‬فيه‭.‬

البعض‭ ‬الثالث،‭ ‬أن‭ ‬الغلاسنوست‭ ‬بحرياتها‭ ‬النسبية‭ ‬كانت‭ ‬رشوة‭ ‬تقدمها‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬بشخص‭ ‬غورباتشوف‭ ‬الى‭ ‬العمال‭ ‬الفلاحين‭ ‬بهدف‭ ‬تيسير‭ ‬عملية‭ ‬تبليعهم‭ ‬برشاقة‭ ‬التقشف‭ ‬ورفع‭ ‬الأسعار‭ ‬وتخفيض‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتطلبها‭ ‬اعادة‭ ‬البناؤ‭ ‬الاقتصادي‭.‬

وأخيرا‭ ‬البعض‭ ‬الرابع،‭ ‬ومن‭ ‬عداده‭ ‬غورباتشوف‭ ‬نفسه،‭ ‬يفسر‭ ‬الغلاسنوست‭ ‬بأنها‭ ‬ضرورة‭ ‬تتطلبها‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭ ‬الاقتصادي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشق‭ ‬طريقها‭ ‬الا‭ ‬بتوفر‭ ‬‮«‬الشفافية‮»‬‭. ‬ويقدم‭ ‬منظرو‭ ‬الردَة‭ ‬‮«‬الراديكاليون‮»‬‭ ‬نفس‭ ‬التفسير‭ ‬بلغتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬حين‭ ‬يعتبرون‭ ‬أن‭ ‬‮«‬لبرلة‮»‬‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وادخال‭ ‬آليات‭ ‬السوق‭ ‬تفترض‭ ‬بالضرورة‭ ‬لبرلة‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭.‬

3-‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاقتصادي‭.‬

في‭ ‬المجال‭ ‬الإقتصادي،‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬وقف‭ ‬انشاء‭ ‬مؤسسات‭ ‬جديدة‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬تحديث‭ ‬المؤسسات‭ ‬القائمة،‭ ‬كانت‭ ‬إجراءات‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬وخطواتها‭ ‬العملية‭ ‬محدودة‭ ‬ومتعثرة،‭  ‬ومصحوبة‭ ‬بصراع‭ ‬عنيف‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭. ‬وكانت‭ ‬الخطوات‭ ‬الأولى‭ ‬تتعلق‭ ‬عمليا‭ ‬بتشريع‭ ‬إقتصاد‭ ‬الظل،‭ ‬وتشريع‭ ‬النشاط‭ ‬الفردي‭ ‬والتعاوني‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬وضمن‭ ‬حدود‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬البداية‭.‬

كان‭ ‬تشريع‭ ‬إقتصاد‭ ‬الظل‭ ‬وترسيم‭ ‬نشاط‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬الحرف‭ ‬والخدمات‭ ‬والتجارة‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬الزراعة‭ ‬انجازا‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬للمراتب‭ ‬الوسطى‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتطلع‭ ‬بحقد‭ ‬وغيرة‭ ‬إلى‭ ‬الإمتيازات‭ ‬والتسهيلات‭ ‬الواسعة‭ ‬والباذخة‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭ ‬الفئة‭ ‬العليا،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬تضطر‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬الوقت‭ ‬الثمين‭ ‬وبذل‭ ‬الجهد‭ ‬المضني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تأمين‭ ‬حاجياتها‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬الترفية‭ ‬المتنامية،‭ ‬والتي‭ ‬يؤهلها‭ ‬لها‭ ‬دخلها‭ ‬المرتفع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شبكات‭ ‬السوق‭  ‬في‭ ‬السوداء،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬النشاطات‭ ‬المكلفة‭ ‬والمذلة‭.‬

الى‭  ‬جانب‭  ‬الزراعة‭  ‬الكولخوزية‭  ‬التي‭  ‬استمرت‭  ‬أزمتها‭  ‬تتفاقم،‭  ‬بل‭  ‬ازدادت‭  ‬تفاقما‭ ‬بسبب‭ ‬إنصراف‭ ‬الفلاحين‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬استثماراتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مربحة‭ ‬أكثر‭ ‬بفضل‭ ‬الإصلاحات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬الجديدة،‭ ‬كانت‭ ‬المعضلة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للإقتصاد‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬وتنشيط‭ ‬مؤسسات‭  ‬الإنتاج‭  ‬الكبير‭  ‬المملوكة‭  ‬للدولة‭.  ‬وفي‭  ‬هذا‭  ‬الميدان‭  ‬كان‭  ‬الحل‭  ‬الذي‭  ‬جاءت‭  ‬به‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬استقلالية‭ ‬المؤسسات،‭ ‬واعتماد‭ ‬مبدأ‭ ‬الربحية‭ ‬والحساب‭ ‬الإقتصادي‭.‬

ولذلك،‭ ‬كانت‭ ‬معركة‭ ‬تحرير‭ ‬الأسعار‭ ‬هي‭ ‬المعركة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التمايز‭ ‬الإجتماعي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬اصطفافات‭ ‬جديدة‭. ‬فضجيج‭ ‬التكنوقراط‭ ‬والإنتلجنتسيا‭ ‬المترفة‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬الوسطى‭ ‬ومدراء‭ ‬المؤسسات‭ ‬كان‭ ‬يرتفع‭ ‬بلا‭ ‬انقطاع‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬وفي‭ ‬دهاليز‭ ‬السلطة‭ ‬ومنابرها،‭ ‬مطالبا‭ ‬بتحرير‭ ‬شامل‭ ‬للاسعار،‭ ‬وبالتحول‭ ‬السريع‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬السوق‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬معركة‭ ‬الأسعار‭ ‬عنوانه‭ ‬وحافزه،‭ ‬بدأ‭ ‬يوقظ‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬بطيء‭ ‬ومبعثر‭ ‬ومليء‭ ‬بالتشويش‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬ويحفزها‭ ‬نحو‭ ‬التحرك‭ ‬وتقديم‭ ‬مطالبها‭ ‬الخاصة‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬آثار‭ ‬حالة‭ ‬الإستلاب‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تخيم‭ ‬وتحول‭ ‬دون‭ ‬بلورة‭ ‬برنامج‭ ‬إنقاذي‭ ‬عمالي‭ ‬متميز،‭ ‬فلقد‭ ‬بدأت‭ ‬بواكير‭ ‬اليقظة‭ ‬العمالية‭ ‬تتركز،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬على‭ ‬صون‭ ‬المكتسبات‭ ‬والضمانات‭ ‬الإجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يوفرها‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬تثبيت‭ ‬أسعار‭ ‬المواد‭ ‬الأساسية‭ ‬والسكن،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬على‭ ‬المطالب‭ ‬المتعلقة‭ ‬بدمقرطة‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭.‬

كانت‭ ‬مقترحات‭ ‬منظري‭ ‬الردّة‭ ‬‮«‬الراديكاليين‮»‬‭ ‬تطرح‭ ‬أفكار‭ ‬تحويل‭ ‬المؤسسات‭ ‬المؤممة‭ ‬إلى‭ ‬شركات‭ ‬مساهمة‭ ‬تطرح‭ ‬أسهمها،‭ ‬أو‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسهم،‭ ‬للإكتتاب‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬تغليف‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬المسمومة‭ ‬بغلاف‭ ‬شعبوي،‭ ‬واستثمارها‭ ‬لبلبلة‭ ‬وتقسيم‭ ‬العمال‭ ‬وتشويه‭ ‬وعيهم،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المقترحات‭ ‬تقترن‭ ‬أحيانا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬منح‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬المؤسسة‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬تملك‭ ‬أسهمها‭ ‬المطروحة‭ ‬للإكتتاب‭. ‬ولقيت‭ ‬هذه‭ ‬الافكار‭ ‬استجابة‭ ‬لدى‭ ‬الجناح‭ ‬الغورباتشوفي‭ ‬من‭ ‬النومنكلاتورا‭ ‬الذي‭ ‬أصبح،‭ ‬رغم‭ ‬عباراته‭ ‬الشيوعية‭ ‬المنمقة،‭ ‬مفتونا‭ ‬بالفكرة‭ ‬التالية‭: ‬الملكية‭ ‬الخاصة‭ ‬هي‭ ‬الحافز‭ ‬الرئيسي‭ ‬لتطوير‭ ‬الانتاج‭.‬

لعبت‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬بلبلة‭ ‬قطاعات‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وتقسيمها‭ ‬وصرفها‭ ‬عن‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬مطلب‭ ‬الإدارة‭ ‬العمالية‭ ‬الجماعية‭ ‬المنتخبة‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬المعلومات‭ ‬والوعي‭ ‬الكافي،‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬العمال‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأولوية‮»‬‭ ‬في‭ ‬تملك‭ ‬الأسهم،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أعطيت،‭ ‬لهم‭ ‬نظريا،‭ ‬فإن‭ ‬الاستفادة‭ ‬الفعلية‭ ‬منها‭ ‬كانت‭ ‬تتطلب‭ ‬توفر‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الشراء‭. ‬وهي‭ ‬قدرة‭ ‬كانت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمعظم‭ ‬العمال‭ ‬محدودة‭. ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬كانت‭ ‬متوفرة،‭ ‬بل‭ ‬وفائضة،‭ ‬لدى‭ ‬مكتنزي‭ ‬الثروات‭ ‬من‭ ‬البيروقراطيين‭ ‬الطامحين‭ ‬للتحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وحلفائهم‭ ‬أرباب‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭.‬

لقد‭ ‬وصلت‭ ‬عملية‭ ‬مركمة‭ ‬الثروات‭ ‬لدى‭ ‬أغنياء‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وأرباب‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬الى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬النضج‭. ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك‭ ‬يصبح‭ ‬واضحا‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬يستفيد‭ ‬فعلا‭ ‬من‭ ‬الاقتراحات‭ ‬بشأن‭ ‬طرح‭ ‬أسهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬المؤممة‭ ‬للاكتتاب‭. ‬وهي‭ ‬مقترحات‭ ‬بدأ‭ ‬تنفيذها‭ ‬فعلا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدولة،‭ ‬رغم‭ ‬معارضة‭ ‬من‭ ‬يسمونهم‭ ‬بالمحافظين،‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬العجز‭ ‬المتفاقم‭ ‬في‭ ‬موازنة‭ ‬الدولة‭.‬

4-‭ ‬اما‭ ‬الردّة،‭ ‬أو‭ ‬التقدم‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العمالية‭.‬

هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬المكثفة‭ ‬لخطوات‭ ‬وإجراءات‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬تعطينا‭ ‬صورة‭ ‬أعمق‭ ‬وأكثر‭ ‬وضوحا‭ ‬عن‭ ‬مغزاها‭ ‬وما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تناقضات،‭ ‬وعن‭ ‬المضمون‭ ‬الإجتماعي‭ ‬للقوى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتصارع‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬من‭ ‬الزاوية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬كان‭ ‬التناقض‭ ‬يبرز‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬متأصلا‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والتخطيط‭ ‬المركزي‭. ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭ ‬كان‭ ‬تناقضا‭ ‬بيبن‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والتخطيط‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبين‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬للاقتصاد،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

لقد‭ ‬تفاقم‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬الى‭ ‬درجة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬فيها‭ ‬يحتمل‭ ‬الحلول‭ ‬الوسط،‭ ‬أو‭ ‬التسويات‭ ‬المؤقتة‭. ‬وأصبح‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬حله‭ ‬جذريا‭ ‬بأحد‭ ‬اتجاهين‭: ‬اما‭ ‬بالارتداد‭ ‬الى‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وهو‭ ‬حل‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬قفزة‭ ‬كبيرة‭ ‬الى‭ ‬الوراء،‭ ‬ولكنه‭ ‬يستجيب‭ ‬لمصالح‭ ‬قوى‭ ‬اجتماعية‭ ‬نافذة‭ ‬داخل‭ ‬النظام،‭ ‬واما‭ ‬بالانتقال‭ ‬الى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العمالية،‭ ‬باعادة‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬الى‭ ‬مالكيها‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬وهو‭ ‬الحل‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬بمسيرة‭ ‬المجتمع‭ ‬والتطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الى‭ ‬الأمام‭.‬

إن‭ ‬توفير‭ ‬حافز‭ ‬المبادرة‭ ‬الخاصة‭ ‬يتطلب‭ ‬أحد‭ ‬الحلين‭: ‬إما‭ ‬إعادة‭ ‬سلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬مالكيها‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬إلى‭ ‬العمال‭ ‬المنظمين‭ ‬ديمقراطيا،‭ ‬ليديروها‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي،‭ ‬وبذلك‭ ‬ينتهي‭ ‬الوضع‭ ‬الإنتقالي،‭ ‬الذي‭ ‬يبرز‭ ‬تناقضا‭ ‬بين‭ ‬نمط‭ ‬المليكة‭ ‬وسلطة‭ ‬الإدارة؛‭ ‬وإما‭ ‬تصفية‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬وتحويل‭ ‬المؤسسات‭ ‬إلى‭ ‬ملكية‭ ‬خاصة‭ ‬لمدرائها‭ ‬البيروقراطين‭ ‬المتحولين‭ ‬رأسماليين‭ ‬وحلفائهم‭ ‬أرباب‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬ذوي‭ ‬الثروات‭ ‬المتراكمة‭ ‬في‭ ‬البنوك‭. ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬النتيجة‭ ‬التي‭ ‬توصل‭ ‬إليها،‭ ‬وقد‭ ‬أوصلت‭ ‬إليها‭ ‬بالفعل،‭ ‬التنظيرات‭ ‬المضللة‭ ‬حول‭ ‬‮«‬إشتراكية‭ ‬السوق‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الحل‭ ‬الأخير‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬شروطه‭ ‬السياسية‭ ‬–‭ ‬الإجتماعية‭.  ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة‭ ‬إجتماعية‭.‬

هذه‭ ‬الثورة‭ ‬المضادة‭ ‬وقعت‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬1991،‭ ‬بعد‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬المرير‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬وكانت‭ ‬قواها‭ ‬المحركة‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ومن‭ ‬داخل‭ ‬نظامها‭. ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬المرير‭ ‬عبَر‭ ‬التناقض‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بتغيرات‭ ‬حادة‭ ‬في‭ ‬اصطفافات‭ ‬القوى‭ ‬الإجتماعية‭ ‬المتصارعة‭ ‬وفقا‭ ‬لتناقض‭ ‬أو‭ ‬تقاطع‭ ‬مصالحها‭. ‬في‭ ‬اطار‭ ‬الفئة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية‭ (‬النومنكلاتورا‭) ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬تمسك‭ ‬بمركز‭ ‬القرار،‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬بوضوح‭ ‬تمييز‭ ‬ثلاث‭ ‬نزعات‭:‬

النزعة‭ ‬الاولى،‭ ‬تتمثل‭ ‬بالاتجاه‭ ‬الغورباتشوفي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬مشروع‭ ‬بيروستريكا‭ ‬مقننة‭ ‬تقدم‭ ‬بديلا‭ ‬بيروقراطيا‭ ‬للاستحقاق‭ ‬التاريخي‭ ‬المتمثل‭ ‬بتحديث‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ودخول‭ ‬عصر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬المتقدمة‭ ‬والتكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬للصناعة‭ ‬والانتاج‭ ‬الجماهيري‭ ‬لسلع‭ ‬الاستهلاك‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬يطمح‭ ‬الى‭ ‬اصلاح‭ ‬النظام‭ ‬وترميمه،‭ ‬بما‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬الاستجابة‭ ‬لهذا‭ ‬الاستحقاق،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بأسس‭ ‬سيطرة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وسلطتها‭.‬

النزعة‭ ‬الثانية،‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬النظام‭ ‬كانت‭ ‬تتمثل‭ ‬بالاتجاه‭ ‬المحافظ،‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬ويخرج‭ ‬على‭ ‬اجماعها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬بسياسة‭ ‬الغلاسنوست‭. ‬وجوهر‭ ‬اهتمامات‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬كانت‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬امتيازات‭ ‬النومنكلاتورا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترتبط‭ ‬بدورها‭ ‬باستمرار‭ ‬سيطرة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬واحتكارها‭ ‬للسلطة‭.‬

النزعة‭ ‬الثالثة،‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬النظام‭ ‬كانت‭ ‬تتمثل‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬بالإتجاه‭ ‬‮«‬الراديكالي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمثل،‭ ‬ويستند‭ ‬إلى،‭ ‬الاختراق‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬القوى‭ ‬الطامحة‭ ‬للتحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬داخل‭ ‬النومنكلاتورا‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬كان‭ ‬ضعيفا‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬وكان‭ ‬يستظل‭ ‬بالكامل‭ ‬بالاتجاه‭ ‬الغورباتشوڤي‭ ‬الأول‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬امتيازات‭ ‬النومنكلاتورا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬توفر‭ ‬حافزا‭ ‬للطموح‭ ‬الى‭ ‬التحول‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬سوى‭ ‬لعدد‭ ‬قليل‭ ‬نسبيا‭ ‬من‭ ‬عناصرها،‭ ‬وقطاعاتها،‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يطمحون‭ ‬الى‭ ‬ارساء‭ ‬امتيازاتهم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬أكثر‭ ‬ثباتا‭ ‬بتحويل‭ ‬ثرواتهم‭ ‬المتراكمة‭ ‬إلى‭ ‬رأسمال‭.‬

هذه‭ ‬النزعات‭ ‬الثلاث‭ ‬في‭ ‬الفئة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬العليا‭ ‬كانت‭ ‬تتقاطع‭ ‬وتتداخل‭ ‬مع‭ ‬اتجاهات‭ ‬القوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومع‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬اصطفافاتها‭ ‬وفقا‭ ‬لتطور‭ ‬مجرى‭ ‬الصراع‭. ‬والقوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الرئيسية‭ ‬المؤثرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجرى‭.‬

تشكلت‭ ‬هكذا،‭ ‬نخب‭ ‬بيروقراطية‭ ‬قومية،‭ ‬أو‭ ‬مناطقية‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬البيروقراطية‭  ‬الوسطى‭ ‬المتحولة‭ ‬رأسماليا،‭ ‬والمندمجة‭ ‬مع‭ ‬أرباب‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬على‭ ‬السمتوى‭ ‬المحلي،‭ ‬وباتت‭ ‬تتمتع‭ ‬بالنفوذ‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬مناطقها‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬سياسة‭ ‬الغلاسنوست‭ ‬وفرت‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬لنفسها‭ ‬المناخ‭ ‬السياسي‭ ‬الملائم‭ ‬للائتلاف‭ ‬بين‭ ‬تكتلاتها‭ ‬والانتظام‭ ‬كتيار‭ ‬سياسي‭ ‬مؤتلف،‭ ‬ومتميز‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإتحاد‭ ‬ككل‭. ‬وتعززت‭ ‬مواقع‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬أكثر‭ ‬باعتماد‭ ‬سياسة‭ ‬التحرير‭ ‬الجزئي‭ ‬للأسعار‭.‬

رغم‭ ‬هذه‭ ‬البلبلة،‭ ‬كانت‭ ‬مؤشرات‭ ‬استفتاءات‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬تشير‭ ‬الى‭ ‬معارضة‭ ‬جماهيرية‭ ‬واسعة‭ ‬للشعارات‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬يرفعها‭ ‬الاتجاه‭ ‬الراديكالي‭ ‬المزعوم،‭ ‬وكذلك‭ ‬لسياسات‭ ‬الحكومة‭ ‬الغورباتشوفية‭. ‬ففي‭ ‬استفتاء‭ ‬نشرته‭ ‬إحدى‭ ‬الصحف‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬بتاريخ‭  ‬8‭/‬7‭/‬1990،‭ ‬عبّر‭ ‬51‭% ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تم‭ ‬استفتاؤهم‭ ‬عن‭ ‬معارضتهم‭ ‬للتحول‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق،‭ ‬وبلغت‭ ‬نسبة‭ ‬المؤيدين‭ ‬لاقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬14‭% ‬فقط،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬35‭% ‬قد‭ ‬شكل‭ ‬رأيا‭ ‬محددا‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭.‬

نتائج‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإقتصادي،‭ ‬لم‭ ‬تفشل‭ ‬وحسب‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬مسيرة‭ ‬الإقتصاد،‭ ‬وانتشاله‭ ‬من‭ ‬أزمته،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬قادت‭ ‬بالعكس‭ ‬إلى‭ ‬تعميق‭ ‬الأزمة‭ ‬وتعجيل‭ ‬التدهور‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬منطقيا‭ ‬ومتوقعا‭. ‬الزراعة‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتخبط‭ ‬في‭ ‬أزمتها‭. ‬إنتاج‭ ‬الحبوب‭ ‬إرتفع‭ ‬قليلاً‭ ‬الى‭ ‬215‭ ‬مليون‭ ‬طن‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986،‭ ‬وحافظ‭ ‬تقريبا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬سنوات‭ ‬تميزت‭ ‬بمواسم‭ ‬ممتازة،‭  ‬ولكنه‭ ‬بقي‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬دون‭ ‬مستوى‭ ‬حاجة‭ ‬السكان‭ ‬التي‭ ‬تقدر‭ ‬بحوالي‭ ‬250‭ ‬مليون‭ ‬طن‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬استمرار‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الغرب‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬استيراد‭ ‬الحبوب‭ ‬لتغطية‭ ‬النقص،‭ ‬وشكل‭ ‬سببا‭ ‬رئيسيا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬تفاقم‭ ‬الدين‭ ‬الخارجي‭.‬

5-‭ ‬نتائج‭ ‬الردَة،‭ ‬بصفتها‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة‭.‬

البيريسترويكا،‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬ببرنامجها‭ ‬الغورباتشوڤي‭ ‬أن‭ ‬تبلور‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬بديلا‭ ‬بيروقراطيا‭ ‬للإستحقاق‭ ‬التاريخي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتطلبه‭ ‬تطور‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬إنتهت‭ ‬إلى‭ ‬فشل‭ ‬ذريع‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإقتصادي،‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الصعد‭ ‬الأخرى،‭ ‬وكانت‭ ‬العامل‭ ‬المباشر‭ ‬لانهيار‭ ‬النظام‭ ‬وتفكك‭ ‬الإتحاد‭. ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانت‭ ‬الصاعق‭ ‬المفجر‭ ‬للتناقضات‭ ‬الإجتماعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتفاعل‭ ‬وتتفاقم‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬داخل‭ ‬صفوف‭ ‬الشريحة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الحاكمة‭ ‬نفسها‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬لعملية‭ ‬التحول،‭ ‬ودلالة‭ ‬على‭ ‬الشوط‭ ‬البعيد‭ ‬الذي‭ ‬قطعته‭  ‬عملية‭ ‬التحول‭ ‬الطبقي‭ ‬للفئات‭ ‬العليا‭ ‬والوسطى‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬عملية‭ ‬انفصالها‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وانتقالها‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬طبقي‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭.‬البيريسترويكا‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الشوط‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬وساهمت‭ ‬بدورها‭ ‬في‭ ‬تعجيل‭ ‬العملية‭ ‬وإيصالها‭ ‬إلى‭ ‬نهايتها‭.‬

إنتصار‭ ‬قوى‭ ‬الردة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬كان‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬وأدى‭ ‬إلى‭ ‬تحطيم‭ ‬مرتكزات‭ ‬الدولة‭ ‬بأكملها‭. ‬وهذا‭ ‬يؤشر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البيروقراطية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬طبقة‭ ‬حاكمة‭ ‬جديدة‭ ‬مستغلة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬شريحة‭ ‬إجتماعية‭ ‬إنتقالية‭ ‬إنبثقت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وأقامت‭ ‬احتكارها‭ ‬للسلطة‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬نظام‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬تنفصل‭ ‬عنها‭ ‬تدريجيا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عملية‭ ‬تمايزها‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬كشريحة‭ ‬حاكمة،‭ ‬وتفاقم‭ ‬التناقضات‭ ‬داخلها‭ ‬وصولا‭ ‬الى‭ ‬انفجارها‭ ‬وتدمير‭ ‬النظام‭. ‬ان‭ ‬استكمال‭ ‬عملية‭ ‬الانفصال‭ ‬والتحول‭ ‬الطبقي‭ ‬هذه‭ ‬وايصالها‭ ‬الى‭ ‬نهايتها،‭ ‬بتغيير‭ ‬نوعي‭ ‬للسمة‭ ‬الطبقية‭ ‬للدولة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنا‭ ‬بدون‭ ‬ثورة‭ ‬اجتماعية‭ ‬مضادة‭ ‬عنيفة،‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬نتائجها‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬مجموعة‭ ‬حاكمة‭ ‬بأكملها،‭ ‬بل‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬بأكمله،‭ ‬أسسه‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬بنيته‭ ‬السياسية‭ ‬–‭ ‬الدستورية‭.‬

انتصار‭ ‬الردّة‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬قطع‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وانهاء‭ ‬الطابع‭ ‬السوفييتي‭ (‬العمالي‭ ‬المشوه‭) ‬لسلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬ونقل‭ ‬السلطة‭ ‬الى‭ ‬القوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتبرجزة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬بكل‭ ‬قواها،‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬العالمي،‭ ‬الى‭ ‬التصفية‭ ‬المادية‭ ‬لنظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الانتاج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألغته‭ ‬دستوريا‭ ‬وسياسيا‭. ‬ان‭ ‬انتصار‭ ‬الردّة‭ ‬لم‭ ‬يقد‭ ‬الى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬المجتمع،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬أدى‭ ‬بالعكس‭ ‬الى‭ ‬تعميقها،‭ ‬وهو‭ ‬أضاف‭ ‬الى‭ ‬عواملها‭ ‬السابقة‭ ‬المتفاقمة‭ ‬عاملا‭ ‬مدمرا‭ ‬جديدا،‭ ‬هو‭ ‬تفكيك‭ ‬الاتحاد‭ ‬والتقطيع‭ ‬القسري‭ ‬لصلات‭ ‬التكامل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬أطرافه‭.‬

ان‭ ‬انتصار‭ ‬الردّة‭ ‬لم‭ ‬يقد‭ ‬ايضا‭ ‬الى‭ ‬حل‭ ‬معضلة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬رغم‭ ‬المتاجرة‭ ‬المتواصلة‭ ‬بالشعارات‭ ‬الليبريالية،‭ ‬ان‭ ‬محاولات‭ ‬فرض‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬الرئاسية‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬واللجوء‭ ‬المتكرر‭ ‬الى‭ ‬اعلان‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬وانتزاع‭ ‬صلاحيات‭ ‬استثنائية‭ ‬للحكومة‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وبعض‭ ‬الجمهوريات‭ ‬الأخرى،‭ ‬والصراعات‭ ‬المسلحة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والانقلابات‭ ‬المتوالية‭ ‬في‭ ‬جمهوريات‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى‭ ‬والقفقاس،‭ ‬كلها‭ ‬دلالات‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬‮«‬الديمقراطية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يزعم‭ ‬منظرو‭ ‬الردّة،‭ ‬ومعهم‭ ‬أبواق‭ ‬الدعاية‭ ‬الامبريالية،‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬انتصرت‭ ‬في‭ ‬جمهوريات‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬السابق‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬–‭ ‬الاجتماعية‭ ‬؟

ان‭ ‬طبيعة‭ ‬الردّة‭ ‬بصفتها‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة،‭ ‬تتجلى‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬صارخ‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإقتصادي‭ ‬–‭  ‬الإجتماعي‭  ‬الذي‭ ‬يشهد‭ ‬تدهورا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صعيد‭. ‬إن‭ ‬سنتين‭ ‬كاملتين‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬الردّة‭ ‬في‭ ‬الجمهوريات‭ ‬السوفييتية‭ ‬السابقة،‭ ‬وأربع‭ ‬سنوات‭ ‬ونيف‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية،‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬استقرار‭ ‬الاقتصاد‭ ‬رغم‭ ‬الظروف‭ ‬السلمية‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬البلدان،‭ ‬وأكثرها‭ ‬تطورا،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬حروب‭ ‬أهلية،‭ ‬ولا‭ ‬تدخلات‭ ‬عسكرية‭ ‬خارجية‭. ‬وعلى‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬يزداد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬تدهورا‭ ‬وتتفاقم‭ ‬المعضلات‭ ‬الإجتماعية،‭ ‬وتعم‭ ‬البطالة،‭ ‬وتتعثر‭ ‬عمليات‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية،‭ ‬وتتعمق‭ ‬التبعية‭ ‬لرأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬العالمي‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬يوضح‭ ‬بالوقائع‭ ‬الملموسة‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬التحول‭ ‬المضاد‭ ‬باتجاه‭ ‬الرأسمالية‭ ‬لا‭ ‬تلبي‭ ‬حاجات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬التطور‭ ‬والتقدم‭ ‬والإزدهار،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تعاكسها‭ ‬وتتناقض‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال،‭ ‬وتنطوي‭ ‬على‭ ‬تبديد‭ ‬وتدمير‭ ‬كبير‭ ‬للقوى‭ ‬المنتجة،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬احتجاز‭ ‬وعرقلة‭ ‬نموها‭ ‬فحسب‭.‬

ماذا‭ ‬اذن‭ ‬عن‭ ‬استمرار‭ ‬الردّة‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬الاجتماعي؟

عمليات‭ ‬تخصيص‭ ‬ملكية‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ (‬أي‭ ‬تحويلها‭ ‬من‭ ‬ملكية‭ ‬عامة‭ ‬إلى‭ ‬ملكية‭ ‬خاصة‭)‬،‭ ‬تسير‭ ‬ببطء‭ ‬شديد،‭ ‬وتشق‭ ‬طريقها‭ ‬بتعثر‭ ‬محدثة‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬دمارا‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬وتصطدم‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات‭ ‬بمقاومة‭ ‬إجتماعية‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬والمراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الدنيا‭ ‬التي‭ ‬انضمت‭ ‬إليها‭ ‬عمليا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الوضع‭ ‬الجديد‭. ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬بعض‭ ‬مدراء‭ ‬المؤسسات‭ ‬الذين‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أن‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬وهم‭ ‬مدمر‭. ‬والمقاومة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬المتزايدة‭ ‬لعمليات‭ ‬تخصيص‭ ‬الملكية‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬دلالة‭ ‬هامة‭. ‬فهي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬الراهن‭ ‬بين‭ ‬القدرة‭ ‬العالية‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬للتعبير‭ ‬العفوي‭ ‬عن‭ ‬مصالحها،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبين‭ ‬ضعف‭ ‬تعبيراتها‭ ‬السياسية‭ ‬وتدني‭ ‬وعيها‭ ‬السياسي‭ ‬لذاتها‭ ‬ومصالحها،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

إن‭ ‬عملية‭ ‬تخصيص‭ ‬الملكية،‭ ‬هي‭ ‬نهب‭ ‬مافيوي‭ ‬لملكية‭ ‬المجتمع‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭. ‬وتحاول‭ ‬قوى‭ ‬الردّة‭ ‬القابضة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬أن‭ ‬تخفي‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬وأن‭ ‬تضفي‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التخصيص‭ ‬طابعا‭ ‬شعبويا‭ ‬زائفا‭. ‬ولذلك‭ ‬أطلقت‭ ‬برنامجاً‭ ‬يوزع‭ ‬بموجبه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭ ‬روسي‭ ‬كوبون‭ ‬يخوله‭ ‬شراء‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬المطروحة‭ ‬للتخصيص‭ ‬بقيمة‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬روبل،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يوازي‭ ‬بالقيمة‭ ‬الحالية‭ ‬للروبل‭ ‬حوالي‭ ‬15‭ ‬دولار‭.‬

يبدو‭ ‬ذلك،‭ ‬وكأنه‭ ‬تنفيذ‭ ‬لنظرية‭ ‬مارغريت‭ ‬ثاتشر‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الرأسمالية‭ ‬الشعبية‮»‬‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع،‭ ‬بأن‭ ‬ملكية‭ ‬الدولة‭ ‬يجري‭ ‬تقسيمها‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب‭ ‬بالتساوي‭. ‬ولذلك‭ ‬يحاط‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬بحفاوة‭ ‬اعلامية‭ ‬مفتعلة‭ ‬داخل‭ ‬روسيا‭ ‬وخارجها‭. ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬التقسيم‭ ‬بالتساوي‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬خدعة‭ ‬مسرحية،‭ ‬أولا‭ ‬لأن‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬دون‭ ‬مستوى‭ ‬خط‭ ‬الفقر‭ ‬يفضلون‭ ‬أن‭ ‬يبيعوا‭ ‬هذه‭ ‬الكوبونات،‭ ‬أو‭ ‬الأسهم‭ ‬المقابلة‭ ‬لها،‭ ‬ليأكلوا‭ ‬بثمنها‭. ‬والمافيات‭ ‬المحلية‭ ‬وغيلان‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الأجنبي‭ ‬جاهزة‭ ‬للشراء‭ ‬عندما‭ ‬ترى‭ ‬ذلك‭ ‬مناسبا‭ ‬لمصلحتها‭.‬

حتى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬المتطورة‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬مركز‭ ‬قدرات‭ ‬وخبرات‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الإحتكاري‭ ‬الأوروبي،‭ ‬تشق‭ ‬عملية‭ ‬التخصيص‭ ‬طريقها‭ ‬بصعوبة‭ ‬وتحدث‭ ‬دمارا‭ ‬هائلا،‭ ‬ولا‭ ‬تنجح‭ ‬الا‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬الصناعة‭ ‬الهامشية‭ ‬الأقل‭ ‬تمركزا‭ ‬وتطورا،‭ ‬بينما‭ ‬تعجز‭ ‬تمام‭ ‬عن‭ ‬شق‭ ‬طريقها‭ ‬في‭ ‬الصناعات‭ ‬الأساسية،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تنجح‭ ‬فهي‭ ‬تسبب‭ ‬تدميرا‭ ‬كارثيا‭ ‬للقوى‭ ‬المنتجة،‭ ‬وتلقي‭ ‬بملايين‭ ‬العمال‭ ‬إلى‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق‭ ‬حيث‭ ‬تجري‭ ‬محاولة‭ ‬استيعاب‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬التطوير‭ ‬المؤقتة‭ (‬شق‭ ‬الطرق‭ ‬وبناء‭ ‬المساكن‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الخدمات‭ ‬غير‭ ‬المنتجة‭. ‬إن‭ ‬الدلالة‭ ‬واضحة‭: ‬فالرأسمالية‭ ‬العالمية‭ ‬تغص‭ ‬وتختنق،‭ ‬وهي‭ ‬تحاول‭ ‬عبثا‭ ‬ابتلاع‭ ‬منجزات‭ ‬مسيرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

إن‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الطفيلية‭ ‬المتبرجزة،‭ ‬لكي‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬نهبها‭ ‬المافيوي‭ ‬عبر‭ ‬النشاطات‭ ‬التجارية‭ ‬وسائر‭ ‬أشكال‭ ‬النشاط‭ ‬الطفيلي،‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بتدمير‭ ‬الصناعة‭ ‬وإلحاق‭ ‬الخراب‭ ‬بمنجزات‭ ‬سبعين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬البناء‭ ‬والتطور،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬لا‭ ‬تتوزع‭ ‬عن،‭ ‬وانما‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تتهالك‭ ‬على،‭ ‬بيع‭ ‬ممتلكات‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬إلى‭ ‬غيلان‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬العالمي‭ ‬وتحويل‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬مستعمرة‭ ‬تابعة‭ ‬خاضعة‭ ‬للإستعمار‭ ‬الجديد‭. ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬ببيع‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬الأجنبي‭. ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬الخطة‭ ‬التي‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬التخصيص‭ ‬عبر‭ ‬اجتذاب‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬يتضح‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬طموح‭ ‬وهمي‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬التطبيق،‭ ‬باستثناء‭ ‬الاندفاع‭ ‬نحو‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬وبعض‭ ‬مجالات‭ ‬الصناعة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬الخفيفة‭ ‬المربحة‭.‬

ان‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬العالمي‭ ‬يحجم‭ ‬عن‭ ‬الاستثمار‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الاغراءات‭ ‬والتسهيلات‭ ‬والتنازلات‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬الحكومة‭ ‬لاجتذابه‭. ‬وذلك‭ ‬طبيعي،‭ ‬فرأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬له‭ ‬أولوياته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وهو‭ ‬يتحرك‭ ‬بدافع‭ ‬تحسين‭ ‬معدل‭ ‬الربح‭. ‬ان‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬الدولي‭ ‬ينتظر‭ ‬حتى‭ ‬تتدهور‭ ‬روسيا،‭ ‬وسائر‭ ‬البلدان‭ ‬‮«‬الاشراكية‮»‬‭ ‬السابقة،‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬المكسيك‭ ‬وماليزيا‭ ‬حتى‭ ‬يندفع‭ ‬نحوها،‭ ‬لا‭ ‬لتطوير‭ ‬صناعاتها،‭ ‬بل‭ ‬لنهب‭ ‬ثرواتها‭ ‬وابتزاز‭ ‬فائض‭ ‬عمل‭ ‬عمالها‭ ‬وفلاحيها‭.‬

وهكذا‭ ‬تكتمل‭ ‬دائرة‭ ‬النتائج‭ ‬الكارثية‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬اليها‭ ‬الردَة‭: ‬التدمير‭ ‬المأسوي‭ ‬للقوى‭ ‬المنتجة،‭ ‬إلحاق‭ ‬الخراب‭ ‬بالصناعة،‭ ‬التدهور‭ ‬المريع‭ ‬والتراجع‭ ‬المضطرد‭ ‬في‭ ‬الإنتاج،‭ ‬التضخم‭ ‬المفرط،‭ ‬تآكل‭ ‬مكتسبات‭ ‬المنتجين‭ ‬ودخولهم،‭ ‬إنتشار‭ ‬البطالة‭ ‬والفقر‭ ‬على‭ ‬أوسع‭ ‬نطاق،‭ ‬إستفحال‭ ‬النهب‭ ‬المافيوي‭ ‬الطفيلي،‭ ‬بيع‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬إلى‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وكذلك‭ ‬أسواق‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬والسقوط‭ ‬المتسارع‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة‭ ‬للتخلف‭ ‬والتبعية‭ ‬للإستعمار‭ ‬الجديد‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬محاولات‭ ‬التصفية‭ ‬المادية‭ ‬لنظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬تبرهن‭ ‬على‭ ‬صعوبتها،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إستحالتها،‭ ‬وعملية‭ ‬تخصيص‭ ‬الملكية‭ ‬تشق‭ ‬طريقها‭ ‬بتعثر‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الثانوية‭ ‬وتحدث‭ ‬خرابا‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭: ‬إن‭ ‬الارتداد‭ ‬عن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬ومحاولة‭ ‬التحول‭ ‬المضاد‭ ‬نحو‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬المخرج‭ ‬من‭ ‬المأزق،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬الاستجابة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لاستحقاقات‭ ‬التطور‭ ‬والتقدم‭ ‬والتحديث‭. ‬إن‭ ‬استحقاقات‭ ‬النقلة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬هي‭ ‬استحقاقات‭ ‬توطيد‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية‭ ‬وإرسائه‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬متينة‭ ‬من‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العمالية،‭ ‬وهذه‭ ‬الإستحقاقات‭ ‬مازالت‭ ‬ماثلة،‭ ‬ومطروحة‭ ‬على‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬القوى‭ ‬الثورية‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬العمالية‭ ‬وعموم‭ ‬القوى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المحبة‭ ‬للسلام،‭ ‬والساعية‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬الإجتماعي‭.‬

القسم‭ ‬الثالث

مسار‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية

عوامل‭ ‬الانهيار‭ ‬والدروس‭ ‬المستخلصة

الفصل‭ ‬الأول‭: ‬مسار‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية‭ ‬وعوامل‭ ‬انهيارها‭.‬

ان‭ ‬أهمية‭ ‬تحليل‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية،‭ ‬تحليلا‭ ‬علميا‭ ‬جادا‭ ‬يشكل‭ ‬مدخلا‭ ‬لاستخلاص‭ ‬درويها‭ ‬الحقّة،‭ ‬الدروس‭ ‬العلمية‭ ‬المشتقة‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬علمي‭ ‬للواقع،‭ ‬والتي‭ ‬تسلح‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وحركتها‭ ‬الثورية‭ ‬بوعي‭ ‬أغنى‭ ‬وأكثر‭ ‬تطورا‭ ‬يرشدها‭ ‬الى‭ ‬سبل‭ ‬نضالية‭ ‬أكثر‭ ‬فعالية،‭ ‬واستراتيجيات‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬في‭ ‬المعارك‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬قادمة‭ ‬حتما‭.‬

وفيما‭ ‬يلي‭ ‬نتائج‭ ‬تحليل‭ ‬مسار‭ ‬تطور‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية‭ ‬بمراحلها‭ ‬المختلفة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬19‭ ‬موضوعة‭:‬

1-‭ ‬انتصرت‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬رأسمالي‭ ‬متأخر‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬والتبعية،‭ ‬تخلفت‭ ‬بورجوازيته‭ ‬عن‭ ‬إنجاز‭ ‬مهام‭ ‬الثورة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بفعل‭ ‬رعبها‭ ‬من‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬وبفعل‭ ‬وشائج‭ ‬التبعية‭ ‬التي‭ ‬تربطها‭ ‬بالرأسمال‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬دخلت‭ ‬فيها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬مرحلتها‭ ‬الإمبريالية،‭ ‬وتفجرت‭ ‬تناقضاتها‭. ‬هذا‭ ‬التأخر‭ ‬كان‭ ‬يقود‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬مأزق‭ ‬تاريخي‭ ‬ويهدد‭ ‬البلاد‭ ‬بالتفكك،‭ ‬وبمزيد‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬والسقوط‭ ‬فريسة‭ ‬للضواري‭ ‬الإمبريالية‭ ‬المتناحرة‭. ‬المخرج‭ ‬كان‭ ‬الثورة‭ ‬الظافرة‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬الى‭ ‬السلطة‭ ‬تحالفا‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬بقيادة‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الثورية،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬حزبها‭ ‬البلشفي‭ ‬قد‭ ‬تصلّب‭ ‬كحزب‭ ‬طليعي‭ ‬متمرس‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬المعارك‭ ‬الطبقية‭ ‬الطاحنة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬البلاد‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬وما‭ ‬تخللها‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬أيديولوجي‭ ‬غني‭ ‬ومحتدم‭.‬

2-‭  ‬واجهت‭ ‬الثورة‭ ‬الظافرة‭ ‬مهاما‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬مزدوجة‭ ‬ومتداخلة،‭ ‬مهام‭ ‬الثورتين‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬معا‭: ‬الثورة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬المغزى‭ ‬الإجتماعي‭ ‬الرئيسي‭ ‬للانتفاضة‭ ‬الفلاحية‭ ‬والمدخل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭ ‬للارتقاء‭ ‬بالمجتمع‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬التبعية‭ ‬والتخلف‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتقدمة؛‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬مصلحة‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الثورية‭ ‬الظافرة‭ ‬بالسلطة،‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬أي‭ ‬مصلحتها‭ ‬في‭ ‬مباشرة‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭.‬

خطة‭ ‬لينين‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬في‭ ‬الشهور‭ ‬الأولى‭ ‬للثورة،‭ ‬كانت‭ ‬تتصور‭ ‬تحولا‭ ‬تدريجيا‭ ‬نحو‭ ‬الاشتراكية‭ ‬عبر‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقال‭ ‬مديدة‭ ‬يتخللها‭ ‬التعايش‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬أنماط‭ ‬الانتاج‭ ‬والملكية‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬وهي‭: ‬1‭- ‬الاقتصاد‭ ‬الفلاحي‭ ‬البطريركي‭ ‬2‭- ‬الانتاج‭ ‬الفلاحي‭ ‬البضاعي‭ ‬الصغير‭ ‬3‭- ‬رأسمالية‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬4‭- ‬رأسمالية‭ ‬الدولة‭ ‬5‭- ‬ملكية‭ ‬الدولة‭ ‬الاشتراكية‭.‬

3-‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التخلف‭ ‬الإقتصادي‭ ‬المتعمق‭ ‬بسبب‭ ‬دمار‭ ‬الحرب،‭ ‬أدى‭ ‬توزيع‭ ‬الأرض‭ ‬على‭ ‬الفلاحين‭ ‬مقترنا‭ ‬برداءة‭ ‬الموسم،‭ ‬إلى‭ ‬انخفاض‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬فائض‭ ‬الانتاج‭ ‬الزراعي‭ ‬الموردَ‭ ‬الى‭ ‬المدن‭. ‬وتحت‭ ‬تهديد‭ ‬المجاعة‭ ‬إضطرت‭ ‬السلطة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬إلى‭ ‬سياسة‭ ‬مصادرة‭ ‬الفائض‭ ‬الزراعي‭. ‬وقاد‭ ‬ذلك،‭ ‬إلى‭ ‬تصدع‭ ‬خطير‭ ‬في‭ ‬التحالف‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مقاومة‭ ‬الرأسماليين‭ ‬لنظام‭ ‬الرقابة‭ ‬العمالية‭ ‬في‭ ‬المصانع‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تعجيل‭ ‬نزع‭ ‬ملكياتهم‭ ‬وتأميمها‭. ‬والضرورات‭ ‬القاهرة،‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬الحرب‭ ‬ضد‭ ‬الثورة‭ ‬المضادة‭ ‬والتدخل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬خطة‭ ‬الإنتقال‭ ‬اللينينية‭ ‬جانبا،‭ ‬والاستعاضة‭ ‬عنها‭ ‬بسياسة‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬أنتجت،‭ ‬لفترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬وهما‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬حول‭ ‬امكانية‭ ‬الانتقال‭ ‬المباشر‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬رغم‭ ‬التخلف‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭.‬

4-‭ ‬الدولة‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬الثورة،‭ ‬كانت‭ ‬ديمقراطية‭ ‬واسعة‭ ‬للعمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬يمارسون‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭ ‬مباشرة‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الرأسماليين‭ ‬وكبار‭ ‬الملاك‭. ‬وهي‭ ‬تميزت‭ ‬بالتعددية‭ ‬الحزبية‭ ‬وضمان‭ ‬حق‭ ‬التنظيم‭ ‬وحرية‭ ‬الصحافة‭ ‬والعمل‭ ‬لجميع‭ ‬أحزاب‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين،‭ ‬وتشكيل‭ ‬الهيئات‭ ‬السوڤييتية‭ ‬بالإنتخاب‭ ‬الحر‭ ‬المباشر‭ ‬ووفق‭ ‬مبدأ‭ ‬التمثيل‭ ‬النسبي،‭ ‬وحق‭ ‬إنتخاب‭ ‬المندوبين‭ ‬والموظفين،‭ ‬واسترجاع‭ ‬تفاويضهم‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬لحظة،‭ ‬وتحديد‭ ‬رواتب‭ ‬المسؤولين‭ ‬ضمن‭ ‬سقف‭ ‬معدل‭ ‬الأجر،‭ ‬للعامل‭ ‬الماهر‭.‬

‭ ‬ولكن‭ ‬التصدع‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين،‭ ‬بين‭ ‬البلاشفة‭ ‬الذين‭ ‬يمنحونهم‭ ‬الأرض‭  ‬ويأخذون‭ ‬منهم‭ ‬الفائض،‭ ‬وبين‭ ‬الحراس‭ ‬البيض‭ ‬الذين‭ ‬يأخذون‭ ‬منهم‭ ‬الأرض‭ ‬والفائض‭ ‬معا‭. ‬ميزان‭ ‬التذبذب‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬لصالح‭ ‬البلاشفة‭ ‬ومكنهم‭ ‬من‭ ‬كسب‭ ‬الحرب،‭ ‬ولكن‭ ‬المسار‭ ‬المعقد‭ ‬للتذبذب‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تآكل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السوڤييتية‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬تحولت‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين،‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الواسعة‭ ‬للأغلبية‭ ‬المستغلة‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الأقلية‭ ‬المستغلة،‭ ‬تحولت‭ ‬تدريجيا‭ ‬الى‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬بروليتارية‭ ‬خالصة،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تشكل‭ ‬فيه‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬أقلية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمجموع‭ ‬السكان،‭ ‬وهي‭ ‬نفسها‭ ‬بدأت‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الانحلال‭ ‬الطبقي‭ ‬بفعل‭ ‬الخراب‭ ‬الذي‭ ‬حل‭ ‬بالصناعة

5-‭ ‬انتصرت‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬ضد‭ ‬الحراس‭ ‬البيض‭ ‬والمتدخلين‭ ‬الإمبرياليين‭. ‬ولكن‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬والتدخل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وقبلهما‭ ‬معارك‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬التخلف‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭. ‬وفي‭ ‬ظروف‭ ‬الحصار‭ ‬السياسي‭ ‬والإقتصادي‭ ‬الإمبريالي،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬أن‭ ‬تنتشل‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الخراب‭ ‬والتخلف،‭ ‬وأن‭ ‬تنهض‭ ‬بمهماتها‭ ‬المزدوجة‭ ‬لدفع‭ ‬مسيرة‭ ‬التطور‭ ‬الإقتصادي‭ ‬–‭ ‬الإجتماعي،‭ ‬والإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭.‬

الطور‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬إنجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري‭ ‬للنهوض‭ ‬بقوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتطورة‭. ‬وإنجاز‭ ‬التراكم‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬اقتطاع‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬العمل‭ ‬الإجتماعي‭ ‬وتخصيصها‭ ‬للنهوض‭ ‬بمستوى‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭.‬

إنهاء‭ ‬سياسة‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب،‭ ‬وإحياء‭ ‬الخطة‭ ‬اللينينية‭ ‬للإنتقال‭ ‬التدريجي‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬التي‭ ‬تبلورت‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬فيما‭ ‬عرف‭ ‬بالسياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‭ (‬النيب‭/‬NEP‭)‬،‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬إنهاض‭ ‬الزراعة‭ ‬وإعادة‭ ‬تشغيل‭ ‬الصناعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬إنعاش‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬تتولد‭ ‬دوما‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬البضاعي‭ ‬الصغير،‭ ‬ويضعف‭ ‬بالتالي‭ ‬القاعدة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للسلطة‭ ‬العمالية،فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬حلا‭ ‬جذريا‭ ‬لمعضلة‭ ‬الفائض‭ ‬الضروري‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التصنيع‭.‬

‭ ‬بفعل‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬دخل‭ ‬مجتمع‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬مأزق‭ ‬تاريخي‭ ‬يحتجز‭ ‬تطوره‭ ‬ويهدد‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬السلطة،‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الشرط‭ ‬السياسي‭ ‬–‭ ‬الإجتماعي‭ ‬الضروري‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إفلات‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬الدائرة‭ ‬المفرغة‭ ‬للتخلف‭ ‬والتبعية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬قانون‭ ‬التطور‭ ‬المتفاوت‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الامبريالية‭.‬

6-‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬التاريخي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬لكسر‭ ‬حلقته‭ ‬المفرغة‭ ‬سوى‭ ‬بانفصال‭ ‬الدولة‭ ‬واستقلالها‭ ‬النسبي‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬الطبقية‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬تمثلها‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬إلى‭ ‬دكتاتورية‭ ‬حزبها‭ ‬الطليعي‭ ‬الذي‭ ‬يجسد‭ ‬مصالحها‭ ‬النهائية،‭ ‬ويمارس‭ ‬السلطة‭ ‬مؤقتا‭ ‬نيابة‭ ‬عنها‭ ‬بهدف‭ ‬تأمين‭ ‬تلك‭ ‬المصالح،‭ ‬وهو‭ ‬الانتقال‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬ضرورة‭ ‬موضوعية‭ ‬مرحلية‭ ‬يتطلبها‭ ‬دفع‭ ‬مسيرة‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬قدما،‭ ‬وضرورة‭ ‬ملحة‭ ‬تمليها‭ ‬مؤقتا‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬صون‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للبروليتاريا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عملية‭ ‬إنحلالها‭ ‬الطبقي،‭ ‬وفي‭ ‬ظروف‭ ‬إنتعاش‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الذي‭ ‬تولده‭ ‬سياسة‭ ‬النيب‭.‬

7-‭ ‬إستنفذت‭ ‬سياسة‭ ‬النيب‭ ‬وظيفتها،‭ ‬وبدأت‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬معاكسة‭: ‬فالفجوة‭ ‬المتسعة‭ ‬بين‭ ‬أسعار‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬المنخفضة‭ ‬وبين‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬السلع‭ ‬المصنعة،‭ ‬كانت‭ ‬تدفع‭ ‬الفلاحين‭ ‬مجددا‭ ‬إلى‭ ‬تخزين‭ ‬الفائض‭. ‬ولم‭ ‬تنجح‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬معضلة‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري‭ ‬للتصنيع‭. ‬وقاد‭ ‬ذلك‭ ‬مجددا‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬تناقضات‭ ‬مجتمع‭ ‬الإنتقال‭ ‬وارتطامه‭ ‬بمأزقه‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬الإمبريالية،‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتعاش‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المؤقت‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ ‬ذروتها،‭  ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬تقرع‭ ‬طبول‭ ‬الحرب‭ ‬وتشدد‭ ‬الحصار‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬كانت‭ ‬خطة‭ ‬التصنيع‭ ‬تتقدم‭ ‬بوتائر‭ ‬عالية‭ ‬وتنجح‭ ‬في‭ ‬مضاعفة‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬مرتين‭ ‬خلال‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭. ‬وأدى‭ ‬هذا‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬إغراق‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬بدفق‭ ‬غير‭ ‬مستقر‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬الجدد‭ ‬الذين‭ ‬تتم‭ ‬تعبئتهم‭ ‬وتنظيمهم‭ ‬للإنتاج‭ ‬بوسائل‭ ‬تكريس‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬الإدارة‭ ‬البيروقراطي‭.‬‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تغير‭ ‬سريع‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وتحول‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬القوى‭ ‬الإجتماعية‭ ‬داخلها،‭ ‬لغير‭ ‬صالح‭ ‬نواتها‭ ‬الطليعية‭ ‬المستقرة‭ ‬في‭ ‬الصناعات‭ ‬الموروثة‭ ‬عن‭ ‬العهد‭ ‬القيصري‭. ‬ونجم‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬التسييد‭ ‬الشامل‭ ‬لنظام‭ ‬‮«‬إدارة‭ ‬الرجل‭ ‬الواحد‮»‬‭ ‬المعيّن‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬الغاء‭ ‬المساواتية‭ ‬وادخال‭ ‬نظام‭ ‬الأجور‭ ‬التفاضلي،‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬ستارا‭ ‬لبدء‭ ‬بروز‭ ‬الامتيازات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للبيروقراطية‭. ‬وأدى‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا،‭ ‬الى‭ ‬تعزيز‭ ‬مواقع‭ ‬الهيمنة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

8-‭ ‬ان‭ ‬البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬وكرّست‭ ‬نفوذها‭ ‬داخل‭ ‬جهاز‭ ‬الدولة،‭ ‬واستوعبت‭ ‬أغلبية‭ ‬الجهاز‭ ‬الحزبي‭ ‬المكلف‭ ‬بإدارة‭ ‬عمل‭ ‬الدولة،‭ ‬ثم‭ ‬بسطت‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬الريف‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬التجميع،‭ ‬وعلى‭ ‬الصناعة‭ ‬بفضل‭ ‬تسارع‭ ‬وتائر‭ ‬التصنيع،‭ ‬أصبحت‭ ‬جاهزة‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬الحزب‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬لسلطتها‭.‬

كان‭ ‬التحول‭ ‬التدريجي‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للحزب،‭ ‬الذي‭ ‬أصبحت‭ ‬العناصر‭ ‬غير‭ ‬البروليتارية‭ ‬تشكل‭ ‬نسبة‭ ‬هامة‭ ‬في‭ ‬صفوفه،‭ ‬يوفر‭ ‬التربة‭ ‬المناسبة‭ ‬لهذه‭ ‬النقلة‭.‬

وفي‭ ‬أجواء‭ ‬هستيرية‭ ‬يولدها‭ ‬تفاقم‭ ‬تهديد‭ ‬الحرب‭ ‬الشاملة‭ ‬ضد‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي،‭ ‬جرت‭ ‬حملة‭ ‬التطهير‭ ‬الستالينية‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الحزب‭ ‬والدولة‭ (‬1937‭ ‬–‭ ‬1938‭) ‬التي‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬تصفية‭ ‬الأغلبية‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬مؤتمر‭ ‬الحزب‭ ‬ولجنته‭ ‬المركزية،‭ ‬وصف‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬كوادره‭ ‬البلشفية‭ ‬القديمة‭ ‬المنغرسة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬البروليتاريا‭.‬

بهذه‭ ‬الحملة،‭ ‬استكمل‭ ‬تحول‭ ‬الحزب‭ ‬من‭ ‬طليعة‭ ‬للبروليتاريا‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬لتنظيم‭ ‬البيروقراطية‭ ‬وتعزيز‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭. ‬واستكمل‭ ‬تحول‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الطليعة‭ ‬البروليتارية‭ ‬إلى‭ ‬دكتاتورية‭ ‬بيروقراطية‭.‬

وبلغ‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬ذروته‭ ‬بالإعلان‭ ‬الأيديولوجي‭ (‬1939‭) ‬عن‭ ‬استكمال‭ ‬انجاز‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬وبدء‭ ‬مرحلة‭ ‬توطيد‭ ‬المجتمع‭ ‬الإشتراكي،‭ ‬وهو‭ ‬إعلان‭ ‬يناقض‭ ‬الواقع،‭ ‬ولكنه‭ ‬يؤدي‭ ‬وظيفة‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬تشويه‭ ‬وعي‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وإخضاعها‭ ‬للإستلاب‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬وفي‭ ‬خدمة‭ ‬مصلحة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬تكريس‭ ‬نظامها‭ ‬الشمولي‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتبرير‭ ‬إحتكارها‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولة‭ ‬وعبرها‭ ‬لسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬ملكية‭ ‬عامة،‭ ‬والتحكم‭ ‬بتخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض‭ ‬الإجتماعي‭.‬

9-‭ ‬البيروقراطية‭ ‬شريحة‭ ‬إجتماعية‭ ‬متميزة،‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وتنمو‭ ‬بفعل‭ ‬تخلف‭ ‬المجتمع،‭ ‬والتناقضات‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬المبكرة‭. ‬وهي‭ ‬تقيم‭ ‬سلطتها‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬الأساس‭ ‬الإجتماعي‭ ‬لسلطة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬والذي‭ ‬يحدد‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬للدولة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬بصفتها‭ ‬دولة‭ ‬عمالية،‭ ‬رغم‭ ‬بقرطتها‭.‬

إن‭ ‬احتكار‭ ‬البيروقراطية‭ ‬للسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العمالية‭ ‬يعزز‭ ‬انفرادها،‭ ‬كشريحة‭ ‬إجتماعية،‭ ‬بسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬ملكية‭ ‬عامة‭ ‬للمجتمع‭ ‬موكلة‭ ‬انتقاليا‭ ‬بيد‭ ‬الدولة،‭ ‬حيث‭ ‬ملكية‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬شكل‭ ‬إنتقالي‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ (‬ملكية‭ ‬المجتمع‭ ‬الجماعية‭) ‬يسود‭ ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال‭ ‬من‭ ‬الرأسمالية‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭. ‬والانفراد‭ ‬بسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬المملوكة‭ ‬للدولة‭ ‬يمنح‭ ‬البيروقراطية‭ ‬سلطة‭ ‬التحكم‭ ‬بتخصيص‭ ‬وتوزيع‭ ‬الفائض‭ ‬الإجتماعي،‭ ‬ويوفر‭ ‬الإمكانية‭ ‬لاستئثارها‭ ‬بحصة‭ ‬متميزة‭ ‬من‭ ‬الفائض‭ ‬والمراكمة‭ ‬التدريجية‭ ‬لامتيازاتها‭ ‬الإجتماعية‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬البيروقراطية‭ ‬ليست‭ ‬طبقة‭ ‬حاكمة‭ ‬جديدة‭ ‬مستغلة،‭ ‬انها‭ ‬تستمد‭ ‬مادتها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وتمارس‭ ‬السلطة‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وعلى‭ ‬قاعدة‭ ‬نظامها‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وفي‭ ‬نطاق‭ ‬دولتها‭.‬

في‭ ‬البداية‭ ‬تلعب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬دورا‭ ‬تاريخيا‭ ‬تقدميا‭ ‬بتعزيز‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬الذي‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬مصالحها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬وبتعجيل‭ ‬إنجاز‭ ‬مهمة‭ ‬التراكم‭ ‬وتسريع‭ ‬تطور‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬يستنفذ‭ ‬وظيفته‭ ‬مع‭ ‬خروج‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬التخلف‭ ‬ونهوض‭ ‬قواه‭ ‬المنتجة،‭ ‬ويبدأ‭ ‬يشكل‭ ‬عبئا‭ ‬على‭ ‬تطوره‭ ‬وحاجزا‭ ‬يعرقل‭ ‬انطلاق‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬نحو‭ ‬أطوارها‭ ‬الجديدة‭ ‬المتقدمة‭. ‬وتترافق‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬مع‭ ‬تراكم‭ ‬إمتيازات‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬وتعمق‭ ‬سماتها‭ ‬الطفيلية،‭ ‬وبدء‭ ‬انفصالها‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

10-‭ ‬في‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للصورة‭ ‬كان‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬قد‭ ‬قطع‭ ‬شوطا‭ ‬واسعا‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬التطور‭ ‬الإقتصادي‭ ‬والحضاري،‭ ‬وأنجز‭ ‬بناء‭ ‬قاعدة‭ ‬صناعية‭ ‬متينة‭ ‬وقدرة‭ ‬دفاعية‭ ‬هائلة‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬حماس‭ ‬المواطنين‭ ‬السوڤييت‭ ‬وتفانيهم‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬سيادة‭ ‬البلاد،‭ ‬وعن‭ ‬مكاسب‭ ‬الثورة‭ ‬والتحول‭ ‬الإشتراكي،‭ ‬أثبتت‭ ‬الصناعة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬مقومات‭ ‬الصمود‭ ‬والتفوق‭ ‬على‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الألمانية‭ ‬ومحورها‭ ‬الفاشي،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تحت‭ ‬تصرفه‭ ‬كل‭ ‬موارد‭ ‬أوروبا‭ ‬القارية‭ ‬وقدراتها‭ ‬الصناعية‭ ‬المتقدمة‭. ‬وطوال‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬قاتل‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬لوحده‭ ‬ضد‭ ‬الجيش‭ ‬النازي،‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬دحره‭ ‬وإلحاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬به‭. ‬ورغم‭ ‬الدمار‭ ‬الواسع،‭ ‬خرج‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭ ‬توازن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬زعيمة‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬بلا‭ ‬منازع،‭ ‬ووحدت‭ ‬المراكز‭ ‬الإمبريالية‭ ‬في‭ ‬تحالف‭ ‬متماسك‭ ‬تحت‭ ‬قيادتها‭.‬

في‭ ‬السياق‭ ‬نفسه،‭ ‬كان‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي،‭ ‬رغم‭ ‬ثقل‭ ‬عبء‭ ‬سباق‭ ‬التسلح‭ ‬والتزاماته‭ ‬الباهظة‭ ‬إزاء‭ ‬الحلفاء‭ ‬والبلدان‭ ‬المتحررة‭ ‬حديثا،‭ ‬يواصل‭ ‬مسيرة‭ ‬تطوره‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والحضاري‭ ‬بوتائر‭ ‬مذهلة،‭ ‬ويلحق‭ ‬بسرعة‭ ‬بأكثر‭ ‬المراكز‭ ‬الإمبريالية‭ ‬تطورا‭.‬

لقد‭ ‬برهن‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬وجيزة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬قياسي،‭ ‬وبالوقائع‭ ‬الملموسة‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬النظرية‭ ‬اللينينية‭ ‬القائلة،‭ ‬إن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬والسمة‭ ‬العمالية‭ ‬للدولة‭ (‬رغم‭ ‬بقرطتها‭)‬،‭ ‬هي‭ ‬السبيل‭ ‬أمام‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتخلفة‭ ‬نحو‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬الدائرة‭ ‬المفرغة‭ ‬للتبعية‭ ‬والتخلف،‭ ‬ونحو‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬مفعول‭ ‬قانون‭ ‬التطور‭ ‬المتفاوت‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الإمبريالية‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬الرأسمالية‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬تسارع‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬استكملت‭ ‬أيضا‭ ‬عملية‭ ‬تمايز‭ ‬البيروقراطية‭ ‬كشريحة‭ ‬إجتماعية‭ ‬حاكمة‭ ‬ذات‭ ‬إمتيازات،‭ ‬وبدأت‭ ‬تبرز‭ ‬سماتها‭ ‬الطفيلية‭ ‬وتتعمق،‭ ‬وأخذت‭ ‬تتسارع‭ ‬عملية‭ ‬إنفصالها‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭.‬

11-‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬تبلورت‭ ‬أيديولوجية‭ ‬‮«‬الاشتراكية‭ ‬المتطورة‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬ترتكز‭ ‬هذه‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬للوضع‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬موضوعة‭ ‬‮«‬المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬العالميين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬‮«‬المنظومة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬العالمية‭ ‬بقيادة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‮»‬‭ ‬بصفتها‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬الثورة‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬عصرنا‮»‬،‭ ‬وتعتبر‭ ‬مباراتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المتقدم،‭ ‬الميدان‭ ‬الرئيسي‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تمارس‭ ‬فعلها‭ ‬الثوري،‭ ‬والمحرك‭ ‬الرئيسي‭ ‬لمسيرة‭ ‬التقدم‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬دولي‭.‬

وفي‭ ‬رؤيتها‭ ‬للواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬السوفييتي‭ ‬تعلن‭ ‬هذه‭ ‬الأيدلولوجية‭ ‬انجاز‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬الاشتراكية‭ ‬المتطورة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬انتقالية‭ ‬من‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الى‭ ‬الشيوعية،‭ ‬وتزعم‭ ‬أنه‭ ‬بفعل‭ ‬اختفاء‭ ‬الطبقات‭ ‬وزوال‭ ‬التناقضات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي،‭ ‬فان‭ ‬الدولة‭ ‬أصبحت‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬‭ ‬والحزب،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬حاجتها‭ ‬اليه‭ ‬قائمة‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها،‭ ‬أصبح‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يتعزز‭ ‬دوره‭ ‬بصفته‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬القائدة‭ ‬لعملية‭ ‬بناء‭ ‬الشيوعية‮»‬‭.‬

12-‭ ‬رغم‭ ‬الاعلان‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬عن‭ ‬اختفائها،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬قد‭ ‬اتخذت‭ ‬أشكالها‭ ‬الجديدة،‭ ‬وبدأت‭ ‬تتفاقم‭ ‬بصمت‭ ‬تحت‭ ‬سطح‭ ‬المظهر‭ ‬الخارجي‭ ‬المتماسك‭ ‬لنظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭ ‬البيروقراطي‭:‬

أولها،‭ ‬هو‭ ‬التناقض‭ ‬مع‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يحتل‭ ‬موقعا‭ ‬هاما‭ ‬في‭ ‬الزراعة‭ ‬ويلعب‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬الخدمات‭ ‬والحرف‭ ‬وتجارة‭ ‬المفرق‭.‬

هذه‭ ‬التناقضات،‭ ‬هو‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬نمط‭ ‬الملكية‭ ‬الكولخوزي،‭ ‬وحاجاته‭ ‬الى‭ ‬النمو‭ ‬ومصالح‭ ‬فلاحيه،‭ ‬وبين‭ ‬الدولة‭ ‬العمالية‭ ‬المبقرطة،‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬بوسائل‭ ‬وسياسات‭  ‬مختلفة‭ ‬الى‭ ‬اقتطاع‭ ‬أكبر‭ ‬نسبة‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬الفائض‭ ‬الزراعي،‭ ‬وتوظيفها‭ ‬في‭ ‬التراكم‭ ‬والنهوض‭ ‬بالتصنيع‭ ‬وبالقدرة‭ ‬الدفاعية‭.‬

ثالث‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات،‭ ‬هو‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وبين‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬وتفردها‭ ‬بسلطة‭ ‬التصرف‭ ‬بوسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ملك‭ ‬للعمال،‭ ‬وبالفائض‭ ‬المتولد‭ ‬عن‭ ‬الصناعة‭.‬

رابع‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬المحور‭ ‬الذي‭ ‬تتكثف‭ ‬فيه‭ ‬سائر‭ ‬التناقضات‭ ‬الأخرى‭ ‬بحكم‭ ‬السمات‭ ‬المميزة‭ ‬لنظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭ ‬والاحتكار‭ ‬البيروقراطي‭ ‬للسلطة،‭ ‬هو‭ ‬التناقض‭ ‬داخل‭ ‬البيروقراطية‭ ‬نفسها،‭ ‬كشريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬حاكمة‭.‬

13-‭  ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ ‬بدأ‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي‭ ‬بفعل‭ ‬انجازاته‭ ‬الباهرة،‭ ‬موضوعيا‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬منعطف‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬ويراوح‭ ‬أمام‭ ‬استحقاقات‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬طور‭ ‬جديد‭ ‬أرقى‭ ‬من‭ ‬أطوار‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭. ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬إنتاج‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج،‭ ‬واستنفذت‭ ‬إمكانيات‭ ‬النمو‭ ‬عبر‭ ‬التوسع‭ ‬الأفقي‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬الموارد،‭ ‬وبدأت‭ ‬حاجات‭ ‬استمرار‭ ‬النمو‭ ‬والتقدم‭ ‬تتطلب‭ ‬بإلحاح‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬التكثيف‭ ‬العمودي‭ ‬للصناعة،‭ ‬والتحديث‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬والإنتاج‭ ‬الجماهيري‭ ‬لسلع‭ ‬الإستهلاك‭. ‬كانت‭ ‬القدرات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬المادية‭ ‬والعلمية‭ ‬والتقنية‭ ‬متوفرة‭ ‬وناضجة‭ ‬لإحداث‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭. ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬كانت‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬الإدارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬والمصالح‭ ‬التي‭ ‬يولدها،‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي‭.‬

14-‭ ‬التخلف‭ ‬عن‭ ‬الاستجابة‭ ‬لاستحقاقات‭ ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬أدخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬ومسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬الذي‭ ‬يخفي‭ ‬تحت‭ ‬سطحه‭ ‬الخارجي‭ ‬تفاقما‭ ‬متسارعا‭ ‬لعوامل‭ ‬الأزمة‭. ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬الشمولي،‭ ‬ونمط‭ ‬التخطيط‭ ‬والإدارة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬للإقتصاد،‭ ‬أصبحا‭ ‬عقبة‭ ‬تحتجز‭ ‬التطور‭ ‬وتعرقل‭ ‬مسيرة‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭. ‬البيروقراطية‭ ‬استنفذت‭ ‬وظيفتها‭ ‬وباتت‭ ‬عبئا‭  ‬ونتوءا‭ ‬طفيليا‭ ‬يتغذى‭ ‬من‭ ‬جسم‭ ‬المجتمع‭ ‬ويشل‭ ‬حركته‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬جسم‭ ‬المجتمع‭.‬

الأساس‭ ‬المادي‭ ‬لأيديولوجية‭ ‬‮«‬الإشتراكية‭ ‬المتطورة‮»‬‭ ‬راح‭ ‬يتصدع‭. ‬ولكن‭ ‬كما‭ ‬تمسكت‭ ‬البيروقراطية‭ ‬بدورها‭ ‬التاريخي‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬وظيفته‭ ‬وأساسه‭ ‬المادي،‭ ‬كذلك‭ ‬تمسكت‭ ‬بأيديولوجيتها‭ ‬بعد‭ ‬تصدع‭ ‬أساسها‭ ‬المادي،‭ ‬واكتفت‭ ‬بمحاولات‭ ‬ترميمها‭ ‬ومصالحتها‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬دون‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬جوهرها‭ ‬ووظيفتها‭. ‬وهكذا‭ ‬حلت‭ ‬يافطة‭ ‬‮«‬الإشتراكية‭ ‬القائمة‭ ‬بالفعل‮»‬‭ ‬محل‭ ‬يافطة‭ ‬‮«‬الإشتراكية‭ ‬المتطورة‮»‬‭. ‬وحلت‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬التوجه‭ ‬الاشتراكي‮»‬‭ ‬محل‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬التطور‭ ‬اللارأسمالي‮»‬‭. ‬و»المباراة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‮»‬‭ ‬تحولت‭ ‬الى‭ ‬تهالك‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬الانفراج،‭ ‬والوفاق‭ ‬الدولي،‭ ‬ووقف‭ ‬سباق‭ ‬التسلح‭.‬

15-‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬كانت‭ ‬ظاهريا‭ ‬حصيلة‭ ‬إجماع‭  ‬البيروقراطية‭  ‬على‭  ‬ضرورة‭  ‬التغيير‭. ‬النومنكلاتورا‭ ‬التي‭ ‬تفاقمت‭ ‬عزلتها‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬باتت‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬الحكم‭ ‬رغم‭ ‬استمرار‭ ‬إمساكها‭ ‬بالقرار‭.‬

الإتجاه‭ ‬الغورباتشوڤي‭ ‬في‭ ‬النومنكلاتورا،‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬بلورة‭ ‬بديل‭ ‬بيروقراطي‭ ‬لاستحقاقات‭ ‬الطور‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬أطوار‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال،‭ ‬بديل‭ ‬يستجيب‭ ‬للجوانب‭ ‬التقنية‭ ‬لهذه‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بأسس‭ ‬السيطرة‭ ‬البيروقراطية‭. ‬وهو‭ ‬مشروع‭ ‬مستحيل‭ ‬ومحكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالفشل‭ ‬سلفا‭.‬

الإتجاه‭ ‬‮«‬المحافظ‮»‬‭ ‬في‭ ‬النومنكلاتورا،‭ ‬كان‭ ‬يهمه‭ ‬انقاذ‭ ‬النظام‭ ‬المتصدع‭ ‬بهدف‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬امتيازاته‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬مع‭ ‬الإجماع‭ ‬الظاهري‭ ‬على‭ ‬التغيير،‭ ‬ولكن‭ ‬ضمن‭ ‬حدود‭ ‬تزييت‭ ‬ماكنة‭ ‬النظام‭ ‬المكربجة،‭ ‬وإخراجه‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬الجمود‭.‬

في‭ ‬صفوف‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الوسطى،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ضغطها‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬اطلاق‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬كانت‭ ‬تنمو‭ ‬وتهيمن‭ ‬قوى‭ ‬الردّة‭ ‬الطامحة‭ ‬للتحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والمؤتلفة‭ ‬مع‭ ‬أرباب‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬ومافيات‭ ‬اقتصاد‭ ‬الظل،‭ ‬وهي‭ ‬تطرح‭ ‬‮«‬اشتراكية‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬مطلبا‭ ‬مرحليا‭ ‬يمهد‭ ‬للردّة‭ ‬والتحول‭ ‬الرأسمالي‭.‬

في‭ ‬أوساط‭ ‬المراتب‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الدنيا،‭ ‬كان‭ ‬يتصاعد‭ ‬الاستياء‭ ‬والتذمر‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬والتدهور‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬ومن‭ ‬امتيازات‭ ‬النومنكلاتورا‭ ‬وعجرفة‭ ‬الفئات‭ ‬الوسطى،‭ ‬ومن‭ ‬تدهور‭ ‬الوضع‭ ‬المعيشي‭ ‬للمراتب‭ ‬الدنيا،‭ ‬وتآكل‭ ‬امتيازاتها‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭.‬

16-‭ ‬سياسة‭ ‬الغلاسنوست،‭ ‬التي‭ ‬استجاب‭ ‬الجناح‭ ‬الغورباتشوڤي‭ ‬لضغط‭ ‬المطالبة‭ ‬بها‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬‮«‬الشفافية‭ ‬الاقتصادية‮»‬‭ ‬اللازمة‭ ‬للتحديث،‭ ‬والضرورة‭ ‬لفك‭ ‬عزلة‭ ‬النومنكلاتورا‭ ‬وعماها‭ ‬عن‭ ‬حقائق‭ ‬الواقع‭ ‬الإقتصادي‭ ‬والإجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يجعلها‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬الحكم،‭ ‬مكنت‭ ‬قوى‭ ‬الردّة‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬نفسها‭ ‬بسرعة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬قومي،‭ ‬واتحادي،‭ ‬بحيث‭ ‬باتت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬الكامل‭ ‬بمسار‭ ‬الصراع‭ ‬اللاحق‭ ‬مستفيدة‭ ‬من‭ ‬نفوذها‭ ‬الواسع‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬الإعلام،‭ ‬ومن‭ ‬موقعها‭ ‬كحزام‭ ‬وسيط‭ ‬بين‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬وبين‭ ‬المجتمع‭ ‬ومفاصل‭ ‬السلطة‭ ‬الدنيا؛‭ ‬ومستفيدة‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬الإجتماعية‭ ‬الإضافية‭ ‬التي‭ ‬اكتسبتها‭ ‬بفعل‭ ‬الإجراءات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬الأولى‭ ‬للبيريسترويكا‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حريات‭ ‬الغلاسنوست‭ ‬مقننة‭ ‬بحيث‭ ‬تتيح‭ ‬امكانية‭ ‬الانتظام‭ ‬والتحرك‭ ‬الاعلامي‭ ‬للبيروقراطية‭ ‬الوسطى‭ ‬وتحالفها‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬الردّة،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبحيث‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الاستلاب‭ ‬والتشظي‭ ‬وتعميق‭ ‬البلبلة‭ ‬والسلبية‭ ‬واللامبالاة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وانجرارها‭ ‬الجزئي‭ ‬وراء‭ ‬الديماغوجيا‭ ‬الشعبوية،‭ ‬كم‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬لدى‭ ‬الجناح‭ ‬‮«‬المحافظ‮»‬‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الهرم،‭ ‬الذي‭ ‬انتقل‭ ‬الى‭ ‬معارضة‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬وبدأ‭ ‬يفترق‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭.‬

17-‭ ‬إجراءات‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬المبكرة‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإقتصادي‭ ‬بدأت‭ ‬بتشريع‭ ‬إقتصاد‭ ‬الظل،‭ ‬الذي‭ ‬أشاع‭ ‬ارتياحا‭ ‬عند‭ ‬الجميع،‭ ‬وتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬النشاط‭ ‬القانوني‭ ‬للقطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬واعتماد‭ ‬سياسة‭ ‬استقلالية‭ ‬المشروعات‭ ‬وإدخال‭ ‬مبدأ‭ ‬الربحية‭ ‬والحساب‭ ‬الإقتصادي،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إمكانية‭ ‬الإفلاس‭.  ‬وعززت‭  ‬هذه‭  ‬الإجراءات‭  ‬مواقع‭  ‬البيروقراطية‭  ‬الوسطى،‭  ‬وتحالفها‭  ‬الطامح‭  ‬للتحول‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬التي‭ ‬قبضت‭ ‬عليها‭ ‬وراحت‭ ‬تطالب‭ ‬باستكمالها‭ ‬بتحرير‭ ‬الأسعار،‭ ‬والإنتقال‭ ‬الكامل‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭.‬

18-‭ ‬الصراع‭ ‬المحتدم‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عملية‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬دولي،‭ ‬تميّز‭ ‬بتفاقم‭ ‬الخلل‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬لصالح‭ ‬الامبريالية،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬شهدت‭ ‬انتعاشا‭ ‬نسبيا‭ ‬للرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتطورة‭. ‬في‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬الدولي،‭ ‬استكملت‭ ‬البيريسترويكا،‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬نفسها‭ ‬بصفتها‭ ‬مشروعا‭ ‬لتجديد‭ ‬الاشتراكية‭ ‬واصلاح‭ ‬الثغرات‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬‮«‬الاشتراكية‭ ‬القائمة‭ ‬بالفعل‮»‬‭ ‬استكملت‭ ‬ركائزها‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬بتبني‭ ‬منظور‭ ‬‮«‬التفكير‭ ‬السياسي‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬وحدة‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬ويستخلص‭ ‬منه‭ ‬ضرورة‭ ‬احلال‭ ‬التعاون‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬النظامين‭ ‬العالميين‭.‬

وقد‭ ‬عبرت‭ ‬سياسة‭ ‬‮«‬التفكير‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬عن‭ ‬مصلحة‭ ‬النومنكلاتورا‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬أعباء‭ ‬المواجهة‭ ‬الدولية‭ ‬بهدف‭ ‬كسب‭ ‬الوقت،‭ ‬ولجم‭ ‬التداعي‭ ‬في‭ ‬موقعها‭ ‬الدولي،‭ ‬كما‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬طموح‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الوسطى،‭ ‬وتحالف‭ ‬قوى‭ ‬الردّة،‭ ‬الى‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الامبريالية‭ ‬وسوقها‭ ‬العالمية،‭ ‬والتعاون‭ ‬مع‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬‮«‬المشكلة‭ ‬المشتركة‮»‬‭ ‬المتمثلة‭ ‬بتسهيل‭ ‬التحول‭ ‬الى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬السوفييت‭.‬

19-‭ ‬تحكم‭ ‬البيروقراطية‭ ‬الوسطى‭ ‬وتحالفها‭ ‬الطامح‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬الرأسمالي‭ ‬بمسار‭ ‬البيريسترويكا‭ ‬قاد‭ ‬الى‭ ‬نتيجته‭ ‬المنطقية‭ ‬قوى‭ ‬الردّة‭. ‬وبرهنت‭ ‬الأحداث‭ ‬أن‭ ‬الردّة،‭ ‬اذا‭ ‬كانت‭ ‬تستجيب‭ ‬لمصالح‭ ‬البيروقراطية‭ ‬المتبرجزة،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تستجيب‭ ‬لحاجات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬التطور،‭ ‬بل‭ ‬العكس‭ ‬تتناقض‭ ‬معها،‭ ‬وتعمق‭ ‬أزمته‭.‬

أدت‭ ‬الردّة‭ ‬الى‭ ‬تفكيك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬ونقلت‭ ‬الى‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬جمهورياته‭ ‬قوى‭ ‬متبرجزة‭ ‬طامحة‭ ‬الى‭ ‬التحول‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬وأطاحت‭ ‬بالأسس‭ ‬الدستورية‭ ‬لنظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة،‭ ‬وأحدثت‭ ‬قطعا‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وشرعت‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬اطلاق‭ ‬عملية‭ ‬انتقال‭ ‬معاكس‭ ‬الى‭ ‬الرأسمالية‭. ‬وتشهد‭ ‬نتائج‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة‭ ‬كم‭ ‬أصبحت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬متطلبات‭ ‬التطور،‭ ‬وتنطوي‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬هائل‭ ‬للقوى‭ ‬المنتجة‭. ‬ان‭ ‬الردّة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬المخرج‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬النظام‭ ‬البيروقراطي،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬قادت‭ ‬بالعكس‭ ‬الى‭ ‬تعميق‭ ‬أزمة‭ ‬المجتمع‭.‬

الفصل‭ ‬الثاني‭: ‬الدروس‭ ‬المستخلصة‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬السوفييتية

1-‭ ‬إنهيار‭ ‬النموذج‭ ‬السوڤييتي‭ ‬لا‭ ‬يدحض‭ ‬جوهر‭ ‬الموضوعة‭ ‬اللينينية‭ ‬حول‭ ‬إمكانية‭ ‬إنتصار‭ ‬الثورة‭ ‬العمالية‭ ‬وبدء‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف‭. ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعة‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬قانون‭ ‬التطور‭ ‬المتفاوت‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬تطور‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الإحتكارية،‭ ‬مرحلة‭ ‬الإمبريالية،‭ ‬والذي‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬تحديد‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬مراكز‭ ‬العالم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وأطرافه،‭ ‬فيحكم‭ ‬على‭ ‬الأطراف‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬والتبعية،‭ ‬بينما‭ ‬تتراكم‭ ‬الثروة‭ ‬في‭ ‬المراكز‭ ‬وتزداد‭ ‬غنى‭ ‬وتطورا‭.‬

إن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬بقيادة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬انطوت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ثغرات‭ ‬وتناقضات‭ ‬وتشويه‭ ‬بيروقراطي‭ ‬في‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬السبيل‭ ‬للإفلات‭ ‬من‭ ‬قبضة‭ ‬التخلف‭ ‬والتبعية‭ ‬وكسر‭ ‬حلقتها‭ ‬المفرغة،‭ ‬والضمان‭ ‬لمتابعة‭ ‬مسار‭ ‬التقدم‭ ‬الإقتصادي‭ ‬والإجتماعي‭  ‬والحضاري‭. ‬وجمود‭  ‬هذه‭  ‬المسيرة،‭  ‬الناجم‭  ‬عن‭  ‬انفصال‭  ‬البيروقراطية‭  ‬الحاكمة‭ ‬عن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬إغلاق‭ ‬طريق‭ ‬التطور‭ ‬ولجم‭ ‬مساره‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬يؤكد‭ ‬صحة‭ ‬الموضوعة‭ ‬اللينينية‭ ‬بجوهرها‭ ‬ومضمونها‭ ‬الرئيسي،‭ ‬فإن‭ ‬وقائع‭ ‬مسار‭ ‬التجربة‭ ‬ودروسها‭ ‬تتطلب،‭ ‬برأينا،‭ ‬تدقيق‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعة‭ ‬وإعادة‭ ‬صوغها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا‭ ‬ودقة‭. ‬ذلك،‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬اللينيني‭ ‬يستخدم‭ ‬مفاهيم‭: ‬الثورة‭ ‬البروليتارية،‭ ‬والثورة‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬والدور‭ ‬القيادي‭ ‬للبروليتاريا،‭ ‬ودكتاتورية‭ ‬البروليتاريا،‭ ‬بمعانٍ‭ ‬مترادفة‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الإلتباسات،‭ ‬وتفتح‭ ‬الطريق‭ ‬لسوء‭ ‬الفهم‭ ‬أو‭ ‬سوء‭ ‬التأويل،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف،‭ ‬تأخر‭ ‬فيه‭ ‬إنجاز‭ ‬المهام‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للثورة‭ ‬الديقراطية‭. ‬هذه‭ ‬الموضوعة‭ ‬اللينينية‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬واكتمالا،‭ ‬إذا‭ ‬تم‭ ‬صوغها‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬مرحلتها‭ ‬الإمبريالية،‭ ‬فإن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬انطلاقتها‭ ‬عندما‭ ‬تحتل‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬موقعا‭ ‬قياديا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وسلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬ويتواصل‭ ‬تقدمها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحافظ‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬على‭ ‬دورها‭ ‬القيادي‭ ‬هذا؛‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬تصبح‭ ‬هي‭ ‬السبيل‭ ‬التاريخي‭ ‬المفتوح‭ ‬للإفلات‭ ‬من‭ ‬دوامة‭ ‬التخلف‭ ‬والتبعية،‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬مفعول‭ ‬قانون‭ ‬التطور‭ ‬المتفاوت،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف،‭ ‬تأخرت‭ ‬بورجوازيته‭ ‬عن‭ ‬إنجاز‭ ‬المهام‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للثورة‭ ‬الديمقراطية‭.‬

2-‭ ‬ان‭ ‬بدء‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬بقيادة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬إنطلاقا‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف،‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬إمكانية‭ ‬الشروع‭ ‬فورا‭ ‬بتنظيم‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬اشتراكية‭. ‬ينبغي‭  ‬التمييز‭  ‬بدقة‭  ‬بين‭  ‬مرحلة‭  ‬الإنتقال‭  ‬إلى‭  ‬الإشتراكية‭  ‬وبين‭  ‬مرحلة‭  ‬المجتمع‭  ‬الإشتراكي‭ (‬المرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬الدنيا،‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التطور‭ ‬نحو‭ ‬الشيوعية‭). ‬وهذا‭ ‬التمييز‭ ‬لا‭ ‬تتطلبه‭ ‬الدقة‭ ‬العلمية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬له‭ ‬أهمية‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية،‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الإنتقالية‭ ‬وفي‭ ‬التحديد‭ ‬الدقيق‭ ‬للمهام‭ ‬المرحلية‭ ‬والتحالفات‭ ‬الطبقية‭ ‬والإجتماعية‭.‬

إن‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬ماركس،‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬التحويل‭ ‬الثوري‭ ‬للمجتمع‭ ‬من‭ ‬الرأسمالية‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭. ‬وهي‭ ‬لذلك‭ ‬تنطوي‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬استمرار‭ ‬عناصر‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬الرأسمالي‭ ‬واحتفاظها‭ ‬بوجودها‭ ‬وفعلها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬واستمرار‭ ‬فعل‭ ‬بعض‭ ‬القوانين‭ ‬والمقولات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الرأسمالية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يكمن‭ ‬التمايز‭ ‬بين‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬الإنتقال‮»‬‭ (‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متقدم‭) ‬وبين‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬المجتمع‭ ‬الإشتراكي‮»‬‭. ‬ويزداد‭ ‬فعل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وتصبح‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا،‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬مستوى‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تنطلق‭ ‬فيه‭ ‬أكثر‭ ‬تخلفا‭.‬

ان‭ ‬مجتمعا‭ ‬اشتراكيا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬يقوم‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬مادية‭ ‬–‭ ‬تقنية‭ ‬وحضارية‭ ‬متطورة،‭ ‬الا‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭  ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج،‭ ‬ومن‭ ‬التقدم‭ ‬الإجتماعي‭ ‬والحضاري،‭ ‬تفوق‭ ‬ما‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬مراكزها‭ ‬تقدما‭. ‬ووظيفة‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬الشروط‭  ‬السياسية‭ ‬–‭ ‬الإجتماعية‭ ‬المناسبة‭ ‬لإطلاق‭ ‬التطور‭ ‬المتسارع‭ ‬لقوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬وصولاً‭ ‬الى‭ ‬توفير‭ ‬القاعدة‭ ‬المادية‭ ‬–‭ ‬الحضارية‭ ‬لقيتم‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‭. ‬فالإشتراكية،‭ ‬وفقا‭ ‬لماركس،‭ ‬تنبثق‭ ‬اصلا‭ ‬من‭ ‬الطابع‭ ‬الإجتماعي‭ ‬المتزايد‭ ‬لتنظيم‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬ملكية‭ ‬جماعية‭ ‬كي‭ ‬يبرز‭ ‬أفضلياته‭ ‬وميزاته‭. ‬وإذا‭ ‬توفرت‭ ‬الشروط‭ ‬السياسية‭ ‬–‭ ‬الإجتماعية‭ ‬المناسبة،‭ ‬فإن‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬ونمط‭ ‬الملكية‭ ‬الإشتراكي،‭ ‬ينتشر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتوفر‭ ‬الشروط‭ ‬المادية‭ ‬–‭ ‬التقنية،‭ ‬والحضارية،‭ ‬لانتشار‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير‭ ‬وإبراز‭ ‬أفضلياته‭.‬

3-‭ ‬إن‭ ‬تولي‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬موقعا‭ ‬قياديا‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وسلطة‭ ‬الدولة‭ ‬وبدء‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬ثورة‭ ‬إشتراكية‭ ‬خالصة،‭ ‬وأنه‭ ‬بات‭ ‬بمقدورها‭ ‬أن‭ ‬تتطور‭ ‬وفق‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬ماركس‭ ‬لتطور‭ ‬الثورة‭ ‬الإشتراكية‭.‬

إن‭ ‬المضمون‭ ‬الإجتماعي‭ ‬للعملية‭ ‬الثورية،‭ ‬سماتها‭ ‬ومهماتها،‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬أيضا،‭ ‬وبالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬تطور‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج،‭ ‬التقدم‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬للمجتمع‭. ‬وحين‭ ‬تنطلق‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬متخلف؛‭ ‬أي‭ ‬بالتعريف،‭ ‬مجتمع‭ ‬لم‭ ‬يستكمل‭ ‬بعد‭ ‬إنجاز‭ ‬المهام‭ ‬الإجتماعية‭ ‬لثورته‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬فإن‭ ‬مهمات‭ ‬وسمات‭ ‬الثورتين‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والإشتراكية‭ ‬تختلط‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬الإنتقالية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يتطلب‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وعيا‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬للمراحل‭ ‬المعقدة‭ ‬والمتداخلة،‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة،‭ ‬ولما‭ ‬تفرضه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المراحل‭ ‬من‭ ‬أولويات‭ ‬في‭ ‬المهام‭ ‬والتحالفات‭.‬

إن‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬تتطلب‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬إعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬لإنجاز‭ ‬المهام‭ ‬الإجتماعية‭ ‬للثورة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬مهام‭ ‬إنجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري‭ ‬لتنمية‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬بلغته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتطورة‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬وعي‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وحزبها‭ ‬أو‭ ‬أحزابها،‭ ‬لهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬مرهفا‭ ‬اكثر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تقود‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬المعقدة،‭ ‬فإن‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬ستكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬مسيرة‭ ‬طويلة‭ ‬ومعقدة،‭ ‬تستغرق‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬بكاملها‭.‬

4-‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬ماركس‭ ‬وإنجلز‭ ‬بشأن‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬وتمايزها‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬المجتمع‭ ‬الإشتراكي‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬معرفية‭ ‬جمة،‭ ‬اذا‭ ‬ما‭ ‬نظر‭ ‬اليها‭ ‬بصفتها‭ ‬‮«‬أدوات‭ ‬مفاهيمية‮»‬‭ ‬ترشد‭ ‬التحليل‭ ‬الصحيح‭ ‬للواقع‭ ‬الملموس‭ ‬ولمسار‭ ‬تطور‭ ‬العملية‭ ‬الواقعي،‭ ‬وليس‭ ‬بصفتها‭ ‬‮«‬تعاليم‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬وصفات‭ ‬جاهزة‮»‬‭ ‬تطبق‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬قسرا،‭ ‬ولا‭ ‬بصفتها‭ ‬‮«‬مسطرة‭ ‬للقياس‮»‬‭ ‬والحكم‭ ‬النظري‭ ‬المجرد‭.‬

إن‭ ‬التحليل‭ ‬الملموس‭ ‬لواقع‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬ومسارها،‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم،‭ ‬بصفتها‭ ‬أدوت‭ ‬للتحليل،‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬صالحة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬حقائق‭ ‬التجربة‭ ‬وتوفير‭ ‬مدخل‭ ‬لفهم‭ ‬دقيق‭ ‬لتناقضاتها‭ ‬وتعرجاتها‭. ‬ولقد‭ ‬رأينا‭ ‬كيف‭ ‬تساعدنا‭ ‬هذه‭  ‬المفاهيم‭ ‬على‭ ‬تمزيق‭ ‬القشور،‭ ‬وتبديد‭ ‬الحجب‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬التي‭ ‬غلفت‭ ‬بها‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬السوفييتية،‭ ‬وعلى‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬لبها‭ ‬وجوهرها‭ ‬واكتشاف‭ ‬حقائقها‭ ‬الإجتماعية‭. ‬والحقيقة،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بلورة‭ ‬فهم‭ ‬منسجم‭ ‬وتحليل‭ ‬متماسك‭ ‬لمسار‭ ‬التجربة،‭ ‬أسباب‭ ‬نجاحاتها‭ ‬وعوامل‭ ‬إخفاقها‭ ‬وانهيارها،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬تلك‭ ‬المفاهيم‭ ‬الماركسية‭ ‬الأصيلة‭ ‬بعد‭ ‬تنقيتها‭ ‬من‭ ‬التشويه‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بها‭ ‬بحجة‭ ‬استيعاب‭ ‬متغيرات‭ ‬العصر‭. ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬بالضبط‭ ‬وظيفة‭ ‬المنهج‭ ‬الماركسي‭ ‬كمنهج‭ ‬للتحليل،‭ ‬وفيها‭ ‬يكمن‭ ‬مصدر‭ ‬قوته‭.‬

5-‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬السياسي‭: ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬ماركس‭ ‬لطبيعة‭ ‬وسمات‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬مسار‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬أن‭ ‬اختزال‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬إلى‭ ‬محض‭ ‬شعار‭ ‬مجرد‭ ‬حول‭ ‬دكتاتورية‭ ‬البروليتاريا،‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬تبسيط‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬ويخلق‭ ‬إلتباسات‭ ‬عدة‭ ‬تنال‭ ‬من‭ ‬صلاحية‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬كمرشد‭ ‬للممارسة‭:‬

التبسيط‭ ‬المبالغ‭ ‬فيه‭ ‬نلحظه‭ ‬حين‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الدكتاتورية‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يتناول‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬السائد،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬ماركس‭ ‬وإنجلز‭ ‬للدولة،‭ ‬أية‭ ‬دولة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬‮«‬آلة‮»‬‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬المجتمع،‭ ‬و»جهازا‮»‬‭ ‬محترفا‭ ‬لفرض‭ ‬القانون‭.‬

والتبسيط‭ ‬المبالغ‭ ‬فيه‭ ‬نلحظه،‭ ‬أيضا،‭ ‬حين‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬ماركس‭ ‬يصف‭ ‬دولة‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال،‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬أعمق‭ ‬وأوسع‭ ‬ديمقراطية‭ ‬للأغلبية‭ ‬المستغلة‭ ‬التي‭ ‬تمارس‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭ ‬مباشرة‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الأقلية‭ ‬المستغلة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ماركس‭ ‬يصف‭ ‬هذه‭ ‬الدولة،‭ ‬‮«‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬التي‭ ‬تنظم‭ ‬نفسها‭ ‬ديمقراطيا‭ ‬كطبقة‭ ‬حاكمة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬المسألة‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬التركيز‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬المضمون،‭ ‬الفكرة‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬المفهوم‭ ‬الماركسي،‭ ‬وهي‭: ‬إنه‭ ‬بدون‭ ‬دور‭ ‬قيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وفي‭ ‬الدولة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بدء‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬ولا‭ ‬ضمان‭ ‬استمرارها،‭ ‬وإن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬تمارس‭ ‬دورها‭ ‬القيادي‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬أوسع‭ ‬وأعمق‭ ‬ديمقراطية‭ ‬مباشرة‭ ‬للأغلبية‭ ‬المستغلة‭ ‬ضد‭ ‬الأقلية‭ ‬المستغِلة‭. ‬وهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬الجوهرية‭ ‬تبقى‭ ‬تحتفظ‭ ‬بصحتها،‭ ‬وقد‭ ‬أكدها‭ ‬مسار‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬بنجاحه‭ ‬وبإخفاقه‭ ‬معا،‭ ‬ولكن‭ ‬الصيغ‭ ‬الملموسة‭ ‬المناسبة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬مضمونها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تختلف‭ ‬وتتباين،‭ ‬وفقا‭ ‬لاختلاف‭ ‬الشروط‭ ‬الملموسة‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال،‭ ‬ولتباين‭ ‬التكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬للمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تنخرط‭ ‬فيها‭.‬

6-‭ ‬إحدى‭ ‬هذه‭ ‬الصيغ‭ ‬الملموسة،‭ ‬لسلطة‭ ‬مرحلة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬هي‭ ‬صيغة‭ ‬السلطة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬تقودها‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وهي‭ ‬الصيغة‭ ‬المستخلصة‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬تجربة‭ ‬حركة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬وبلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬ذات‭ ‬التكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬المشابه،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬التالية‭: ‬إن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬لا‭ ‬تفوز‭ ‬بدورها‭ ‬القيادي‭ ‬ولا‭ ‬تمارسه،‭ ‬الا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القناعة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحرّة‭ ‬لأغلبية‭ ‬الشعب‭ ‬بجدارتها‭ ‬الطليعية،‭ ‬وببرنامجها‭ ‬الجذري‭ ‬لانجاز‭ ‬مهمات‭ ‬الثورة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية‭ (‬التي‭ ‬تحتل‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭).‬

إن‭ ‬تداخل‭ ‬وتعدد‭ ‬المراحل‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية،‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمتخلفة،‭ ‬يملي‭ ‬على‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬لكي‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬الظفر‭ ‬بدورها‭ ‬القيادي‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬ضرورة‭ ‬بلورة‭ ‬استراتيجيات‭ ‬مناسبة،‭ ‬واقعية‭ ‬وثورية‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬تحدد‭ ‬بدقة‭ ‬أولويات‭ ‬المهام‭ ‬السياسية‭ ‬والإجتماعية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬التركيز‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرحلة،‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬المعطى‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وتحدد‭ ‬بالتالي‭ ‬سياسة‭ ‬التحالفات‭ ‬والأشكال‭ ‬والمضامين‭ ‬الإجتماعية‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولة‭. ‬

ينبغي‭ ‬التمييز‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الواقعية‭ ‬والثورية،‭ ‬وبين‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الإصلاحية‭. ‬ونقطة‭ ‬التمييز‭ ‬الجوهرية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الإصلاحية‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬تشخيص‭ ‬درجة‭ ‬تخلف‭ ‬المجتمع‭ ‬لتتوصل‭ ‬إلى‭ ‬التسليم‭ ‬بقيادة‭ ‬البورجوازية‭ ‬التي‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬وصفة‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬التبعية‭ ‬والتخلف‭. ‬أما‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الواقعية‭ ‬والثورية‭ ‬فهي‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬أهمية‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وضرورته‭ ‬لشق‭ ‬طريق‭ ‬التطور‭ ‬والإفلات‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬والتخلف‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭.‬

لقد‭ ‬أبرزت‭ ‬الجبهة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لتحرير‭ ‬فلسطين،‭ ‬منذ‭ ‬مؤتمرها‭ ‬الثاني‭ (‬1981‭)‬،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الوثيقة‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬أعماله‭ ‬نشرت‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭:‬‮«‬عقد‭ ‬النهوض‭ ‬والإنتصارات‮»‬،‭ ‬الكتاب‭ ‬الرقم‭ ‬13‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬من‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المعاصر‮»‬،‭ ‬أبرزت‭ ‬الجبهة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬ضرورة‭ ‬التمييز‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬البلدان‭ ‬المتخلفة‭ ‬–‭ ‬بين‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنتقال،‭ ‬والتي‭ ‬تتطلب‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬أولوية‭ ‬إنجاز‭ ‬المهام‭ ‬السياسية‭ ‬والإجتماعية‭ ‬للثورة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬أو‭ ‬الثورة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وبين‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بإرساء‭ ‬المقومات‭ ‬المادية‭ ‬–‭ ‬التقنية‭ ‬لبناء‭ ‬المجتمع‭ ‬الإشتراكي‭. ‬واستخلص‭ ‬المؤتمر،‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬أن‭ ‬تفوز‭ ‬بدورها‭ ‬القيادي‭ ‬وتمارسه‭ ‬بوسائل‭ ‬ديمقراطية‭ ‬عبر‭ ‬بلورة‭ ‬استراتيجيات‭ ‬وتحالفات،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬أشكال‭ ‬للسلطة،‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬درجة‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬وتكوينه‭ ‬الطبقي‭ ‬ومستوى‭ ‬تطور‭ ‬قواه‭ ‬المنتجة‭. ‬إن‭ ‬تحليل‭ ‬تجربة‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬كما‭ ‬تجربة‭ ‬الثورات‭ ‬الصينية‭ ‬والكوبية‭ ‬والڤيتنامية،‭ ‬يؤكد‭ ‬مجددا‭  ‬صحة‭ ‬هذا‭ ‬الاستخلاص‭.‬

7-‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الإقتصادي‭: ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬التراث‭ ‬الإشتراكي‭ ‬العلمي‭ ‬لفترة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬هو،‭ ‬ليس‭ ‬معالجة‭ ‬ملموسة‭ ‬للمعضلات‭ ‬الإقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بشكل‭ ‬رئيسي‭ ‬منهج‭ ‬للمعالجة،‭ ‬أسلوب‭ ‬وطريقة‭ ‬يهتدى‭ ‬بهما‭ ‬لمعالجة‭ ‬هذه‭ ‬المعضلات،‭ ‬وهو‭ ‬منهج‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬علمي‭ ‬لحدود‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ممكن‭ ‬لأية‭ ‬سلطة‭ ‬سياسية،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬تقدمية‭ ‬وثورية،‭ ‬ولأية‭ ‬إجراءات‭ ‬سياسية‭ ‬–‭ ‬قانونية،‭ ‬مهما‭ ‬تكن‭ ‬جذرية،‭ ‬أن‭ ‬تنجزه‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬مستوى‭ ‬معيَن‭ ‬مُعطى‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬للقوى‭ ‬المنتجة‭.‬

إن‭ ‬تحليل‭ ‬مسار‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬يبرز‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬صحيح‭ ‬ودقيق‭ ‬هذا‭ ‬المنهج،‭ ‬وكم‭ ‬من

التضحيات‭ ‬والآلام‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬تفاديها‭ ‬بالإهتداء‭ ‬به‭. ‬وخبرة‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬السوڤييتية‭ ‬باتت‭  ‬تمكننا‭ ‬من‭ ‬إغناء‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬الملموسة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬هاديا‭ ‬أوضح،‭ ‬وأكثر‭ ‬دقة،‭ ‬للممارسة‭ ‬اللاحقة،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭:‬

أولا‭: ‬ان‭ ‬الاشتراكية‭ ‬تنبثق‭ ‬بالضرورة‭ ‬من‭ ‬الطابع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المتزايد‭ ‬لتنظيم‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج،‭ ‬الطابع‭ ‬الذي‭ ‬يوفره‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير‭. ‬وهذا‭ ‬يقود‭ ‬الى‭ ‬3‭ ‬استخلاصات‭:‬

1-‭ ‬إن‭ ‬نمط‭ ‬الملكية‭ ‬الإشتراكي،‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬المودعة‭ ‬إنتقاليا‭ ‬بيد‭ ‬الدولة،‭ ‬لا‭ ‬يجدي‭ ‬ولا‭ ‬يبرز‭ ‬مفعوله‭ ‬في‭ ‬حفز‭ ‬نمو‭ ‬قوى‭ ‬الانتاج،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬فعلا‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير‭. ‬إن‭ ‬النشر‭ ‬المتسرع‭ ‬لنمط‭ ‬الملكية‭ ‬الإشتراكي‭ ‬خارج‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭ ‬يميل‭ ‬وينحو‭ ‬باتجاه‭ ‬تقييد‭ ‬نمو‭ ‬الانتاج‭ ‬من‭ ‬حفزه‭ ‬وتعجيله،‭ ‬وهذه‭ ‬حقيقة‭ ‬يجدر‭ ‬أخذها‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬عند‭ ‬ممارسة‭ ‬مهمة‭ ‬‮«‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬غاصبي‭ ‬الملكية‮»‬‭.‬

2-‭ ‬ان‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيقه‭ ‬بشكل‭ ‬مفتعل‭ ‬بتجميع‭ ‬الملكيات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الحرف،‭ ‬أو‭ ‬الخدمات،‭ ‬أو‭ ‬الصناعات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتوفر‭ ‬المعطيات‭ ‬والشروط‭ ‬التقنية،‭ ‬الكميات‭ ‬الكافية‭ ‬من‭ ‬الآلات‭ ‬والمعدات‭ ‬والمستوى‭ ‬الكافي‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬والتأهيل‭ ‬التقني،‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بابراز‭ ‬أفضليات‭ ‬وميزات‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير‭.‬

3-‭ ‬ان‭ ‬الحظر‭ ‬القانوني‭ ‬المفتعل‭ ‬لنشاط‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تبرز‭ ‬فيها‭ ‬أفضليات‭ ‬الانتاج‭ ‬الكبير،‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعتها،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبحكم‭ ‬درجة‭ ‬التطور‭ ‬التقني‭ ‬المعطاة،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬يؤدي‭ ‬الى‭ ‬تقييد‭ ‬نمو‭ ‬الانتاج‭ ‬والتبادل‭ ‬ويعرقل‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬ويحشرها‭ ‬في‭ ‬اختناقات‭ ‬تأزيمية‭ ‬ضارة‭.‬

ثانيا‭: ‬ان‭ ‬تشريك‭ ‬وتجميع‭ ‬الملكيات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الحيازات‭ ‬الفلاحية‭ ‬في‭ ‬الزراعة،‭ ‬عبر‭ ‬نشر‭ ‬نمط‭ ‬الملكية‭ ‬الجماعي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التعاونيات‭ ‬الانتاجية‭ (‬والذي‭ ‬تشكل‭ ‬الكولخوزات‭ ‬شكلا‭ ‬من‭ ‬أشكاله‭)‬،‭ ‬يتوقف‭ ‬نجاحه‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬توفر‭ ‬الامكانيات‭ ‬التقنية،‭ ‬امكانيات‭ ‬المكننة‭ ‬والبذار‭ ‬والعلف‭ ‬والأسمدة‭ ‬ووسائل‭ ‬الري‭ ‬والخبرة‭ ‬الفنية‭ ‬والوسائل‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الحديثة‭ ‬لتكثيف‭ ‬الانتاج‭ ‬الزراعي‭.‬

ثالثا‭: ‬ان‭ ‬الضرورات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المحضة،‭ ‬ضرورات‭ ‬حفز‭ ‬نمو‭ ‬الانتاج‭ ‬وزيادة‭ ‬الانتاجية‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل،‭ ‬تتطلب‭ ‬احداث‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الفائض‭ ‬المقتطع‭ ‬والمخصص‭ ‬للتراكم‭ ‬والتنمية،‭ ‬وبين‭ ‬الحصة‭ ‬المخصصة‭ ‬للاستهلاك‭ ‬ورفع‭ ‬المعيشة‭ ‬للسكان‭.‬

رابعا‭: ‬كما‭ ‬ان‭ ‬الديمقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬ترفا،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭ ‬من‭ ‬ضرورات‭ ‬التنمية‭ ‬والتطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والحضاري‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال،‭ ‬كذلك‭ ‬فان‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬الانتاج‭ ‬هي‭ ‬ضرورة‭ ‬قصوى‭ ‬لزيادة‭ ‬الانتاجية‭ ‬ولضمان‭ ‬فعالية‭ ‬عمل‭ ‬نظام‭ ‬التخطيط‭ ‬المركزي،‭ ‬وتقليص‭ ‬الهدر‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬نمط‭ ‬الادارة‭ ‬البيروقراطي‭.‬

خامسا‭: ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬المؤتمر‭ ‬العام‭ ‬للمنتجين‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬التكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬للمجتمع‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الإنتقالية،‭ ‬وتفترض‭ ‬مجتمعا‭ ‬اشتراكيا‭ ‬بدون‭ ‬طبقات،‭  ‬فإن‭ ‬دمقراطة‭ ‬سلطة‭ ‬التخطيط‭ ‬المركزي،‭ ‬وسلطات‭ ‬التخطيط‭ ‬الإقليمية،‭ ‬وإيجاد‭ ‬الآليات‭ ‬المناسبة‭ ‬لزيادة‭ ‬نسبة‭ ‬ممثلي‭ ‬العمال‭ ‬المنتخبين‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬الإنتاج‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السلطات،هي‭ ‬أيضا‭ ‬ضرورة‭ ‬قصوى‭ ‬من‭ ‬ضرورات‭ ‬فعالية‭ ‬نظام‭ ‬التخطيط،‭ ‬وتقليص‭ ‬الهدر‭ ‬البيروقراطي‭.‬

8-‭ ‬لقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لإعادة‭ ‬النظر‭ ‬جذريا‭ ‬بمقولة‭ ‬وحدانية‭ ‬حزب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬ونبذها‭ ‬دون‭ ‬تردد‭. ‬إن‭ ‬نبذ‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬لا‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬نظرية‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي‭ ‬اللينينية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بالعكس‭ ‬ينسجم‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬جوهر‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬ومضمونها‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الثوري،‭ ‬ويستبعد‭ ‬إمكانية‭ ‬إستغلالها‭ ‬لتبرير‭ ‬ممارسات‭ ‬سلطوية‭ ‬تتظلل‭ ‬بستار‭ ‬‮«‬الدور‭ ‬الطليعي‭ ‬للحزب‮»‬،‭ ‬ولكنها‭ ‬تتعارض‭ ‬في‭ ‬الجوهر‭ ‬مع‭ ‬سمات‭ ‬الطليعية‭ ‬الحقة‭. ‬إن‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬وحدانية‭ ‬حزب‭ ‬البروليتاريا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أصلا‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬تبسيط‭ ‬الماركسية‭ ‬بشأن‭ ‬التجانس‭ ‬الداخلي‭ ‬للبروليتاريا‭ ‬والذي‭ ‬يشكل‭ ‬قاعدة‭ ‬مادية‭ ‬لتماسكها،‭ ‬ووحدتها،‭ ‬وانسجام‭ ‬مصالحها‭ ‬النهائية‭.‬

أولا‭: ‬هذه‭ ‬الموضوعة‭ ‬الماركسية‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجانس‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬انسجامها‭ ‬الداخلي،‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬علاقتها‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج،‭ ‬كون‭ ‬جميع‭ ‬شرائحها‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬ملكية‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج،‭ ‬ومضطرة‭ ‬لبيع‭ ‬قوة‭ ‬عملها‭ ‬مقابل‭ ‬أجر‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬وكونه‭ ‬كطبقة،‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬تملك‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلا‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تنبثق‭ ‬وحدة‭ ‬مصلحتها‭ ‬النهائية‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستغلال‭ ‬المرتبط‭ ‬بنظام‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة،‭ ‬وفي‭ ‬تحويل‭ ‬وسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬ملكية‭ ‬جماعية‭ ‬للمجتمع‭.‬

ثانيا‭: ‬إن‭ ‬ماركس‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬ميل‭ ‬التطور‭ ‬الرأسمالي‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬هذا‭ ‬التفاوت‭ ‬بين‭ ‬شرائح‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬والإقتراب‭ ‬التدريجي‭ ‬من‭ ‬إحداث‭ ‬التجانس‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬ليس‭ ‬بعلاقتها‭ ‬بوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬درجة‭ ‬التمركز‭ ‬ومستوى‭ ‬المهارة‭ ‬والتأهيل‭ ‬ومستوى‭ ‬الدخل،‭ ‬ولكنه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬باعتباره‭ ‬اتجاها‭ ‬يفعل‭ ‬فعله‭ ‬تدريجيا،‭ ‬وفي‭ ‬الأمد‭ ‬البعيد،‭ ‬ويؤدي‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬النهائي‭ ‬الى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التجانس‭ ‬الداخلي‭ ‬للطبقة،‭ ‬ولكن‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬النهائي،‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬البعيد،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬واقعها‭ ‬الحالي‭ ‬القائم‭ ‬فعلا‭.‬

9-‭ ‬إن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بإمكانية،‭ ‬وبحق،‭ ‬التعددية‭ ‬الحزبية‭ ‬داخل‭ ‬حركة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬النظرية‭ ‬اللينينية‭ ‬حول‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي‭ ‬وسماته‭ ‬والمبدأ‭ ‬التنظيمي‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬عليه‭: ‬المركزية‭ ‬الديمقراطية‭. ‬إنه‭ ‬يعني‭ ‬بالتأكيد‭ ‬الإعتراف‭ ‬بحق‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬نفسها‭. ‬بأن‭ ‬تقرر‭ ‬نفسها‭ ‬وبارادتها‭ ‬الحرّة‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬الحزب‭ ‬الذي‭ ‬تؤيده،‭ ‬أو‭ ‬تنتمي‭ ‬اليه‭.‬

لقد‭ ‬رأينا‭ ‬نظرية‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي‭ ‬اللينينية‭ ‬أثبتت‭ ‬جدواها‭ ‬وضرورتها‭ ‬لبناء‭ ‬منظمة‭ ‬كفاحية‭ ‬متماسكة‭ ‬تشكل‭ ‬أداة‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬نضالها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الظفر‭ ‬بدورها‭ ‬القيادي‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكتسب‭ ‬مباديء‭ ‬هذه‭ ‬النظرية،‭ ‬ومفهوم‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي،‭ ‬مضامين‭ ‬تطبيقية‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬المختلفة‭ ‬لتطور‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وكذلك‭ ‬لتطور‭ ‬الحزب‭ ‬نفسه‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التمسك‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬ونبذ‭ ‬المفهوم‭ ‬القسري‭ ‬–‭ ‬الشمولي‭ (‬السلطوي‭) ‬لسمات‭ ‬الحزب‭ ‬وجدارته‭ ‬الطليعية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬تندرج‭ ‬التوضيحات‭ ‬التالية‭:‬

أولا‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬مصالحة‭ ‬مقولة‭ ‬الاعتراف‭ ‬بتعددية‭ ‬أحزاب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬مع‭ ‬مفهوم‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعي؟

إن‭ ‬المفهوم‭ ‬الأخير‭ ‬يجسد،‭ ‬يعبر‭ ‬عن،‭ ‬سمات‭ ‬الفصيل‭ ‬الطليعي‭ ‬من‭ ‬الطبقة،‭ ‬وليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬سمات‭ ‬الطبقة‭ ‬كلها‭. ‬إنه‭ ‬يعكس‭ ‬مزايا‭ ‬الشريحة‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬البروليتاريا،‭ ‬تلك‭ ‬الشريحة‭ ‬التي‭ ‬تتجسد‭ ‬فيها‭ ‬غاية‭ ‬الصيرورة‭ ‬الجدلية‭ ‬لتطور‭ ‬الطبقة‭ ‬كلها،‭ ‬والتي‭ ‬تتميز‭ ‬بوعي‭ ‬متكامل‭ ‬للمصالح‭ ‬النهائية‭ ‬للطبقة‭ ‬ولرسالتها‭ ‬التاريخية،‭ ‬كما‭ ‬تتميز‭ ‬–‭ ‬منذ‭ ‬الآن‭ ‬–‭ ‬بمزايا‭ ‬الإنضباط‭ ‬والروح‭ ‬الجماعية‭ ‬والتجانس‭ ‬الداخلي،‭ ‬تلك‭ ‬المزايا‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬التطور‭ ‬الإجتماعي‭ ‬وانتشار‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬مجموع‭ ‬الطبقة،‭ ‬ولكنه‭ ‬يفرضها‭ ‬تدريجيا‭ ‬وفي‭ ‬المحصلة‭ ‬النهائية،‭ ‬يفرضها‭ ‬بالتدريج‭ ‬ابتداءا‭ ‬من‭ ‬فصيلها‭ ‬الأكثر‭ ‬تقدما‭.‬

ثانيا‭: ‬ماذا‭ ‬نعني‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وليس‭ ‬الشمولي،‭ ‬لسمة‭ ‬الحزب‭ ‬الطليعية؟

ان‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬للحزب‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬معطى‭ ‬ثابتا،‭ ‬جاهزا‭ ‬ونهائيا‭ ‬يتبلور‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬ثم‭ ‬يكرس‭ ‬نفسه‭ ‬تلقائيا‭ ‬الى‭ ‬الابد‭. ‬ان‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬ككل‭ ‬الظواهر‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الحيّة،‭ ‬تتغير‭ ‬بتطور‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتتغير‭ ‬أيضا‭ ‬بتطور‭ ‬نضالها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬المجتمع‭. ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬شرائحها‭ ‬ومكوناتها‭ ‬تتحول‭ ‬بالضرورة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭. ‬وهذا‭ ‬ينعكس‭ ‬بالتأكيد‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬وسمات‭ ‬أحزابها‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فان‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جدير‭ ‬بتجسيد‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬اليوم،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬جديرا‭ ‬بذلك‭ ‬غدا‭.‬

ثالثا‭: ‬هل‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬للحزب‭ ‬هي‭ ‬معطى‭ ‬ثابت‭ ‬ودائم؟

إذا‭ ‬سلمنا‭ ‬أن‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬للحزب‭ ‬ليست‭ ‬معطى‭ ‬ثابتا‭ ‬ونهائيا‭ ‬ودائما،‭ ‬فان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬نضال‭ ‬دؤوب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اكتسابها،‭ ‬والى‭ ‬نضال‭ ‬أكثر‭ ‬دأبا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليها‭. ‬وهونضال‭ ‬أيديولوجي‭ ‬وسياسي‭ ‬وميداني‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬يجري‭ ‬داخل‭ ‬الحزب‭ ‬نفسه‭ ‬وفي‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬ومنظماتها‭ ‬وأحزابها‭ ‬الأخرى‭ ‬كذلك‭.‬

ان‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬تتطلب‭ ‬توفر‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬وتتطلب‭ ‬فوقه‭ ‬وعلاوة‭ ‬عليه،‭ ‬تحسينا‭ ‬مضطردا‭ ‬للتكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬للحزب،‭ ‬وفعالية‭ ‬كفاحية،‭ ‬وجدارة‭ ‬قيادية‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية‭ ‬مشهودا‭ ‬بها،‭ ‬ولها،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬جماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬وحلفائها،‭ ‬وقدرة‭ ‬دائبة‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬سياسات‭ ‬واقعية‭ ‬تقدم‭ ‬لجماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬وحلفائها‭ ‬حلولا‭ ‬ملموسة‭ ‬لمعضلاتها‭ ‬المباشرة،‭ ‬حلولا‭ ‬تأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬تناسب‭ ‬القوى‭ ‬القائم‭ ‬فعليا‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬السياسي‭ ‬الدائر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

رابعا‭: ‬هل‭ ‬مبادىء‭ ‬التنظيم‭ ‬المركزية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬جامدة‭ ‬بمضامين‭ ‬ثابتة؟

إن‭ ‬مبادىء‭ ‬التنظيم‭ ‬المركزية‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مكونات‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية‭ ‬للحزب،‭ ‬ليست‭ ‬مبادىء‭ ‬جامدة‭ ‬تطبق‭ ‬بمضامين‭ ‬واحدة‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬ونضال‭ ‬الحزب‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالطبقة‭. ‬هذه‭ ‬المبادىء‭ ‬التي‭ ‬تنظم‭ ‬الحياة‭ ‬الداخلية‭ ‬وتوجه‭ ‬علاقته‭ ‬بجماهير‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬وحلفائها،‭ ‬تكتسب‭ ‬بالضرورة‭ ‬مضامين‭ ‬مختلفة‭ ‬بتطور‭ ‬نضال‭ ‬وتكوين‭ ‬الطبقة‭ ‬وموقعها‭ ‬الإجتماعي،‭ ‬كما‭ ‬بتطور‭ ‬الحزب‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬بنيته‭ ‬الداخلية‭ ‬وموقعه‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الطبقة‭.‬

إن‭ ‬المضمون‭ ‬التطبيقي‭ ‬لمبادىء‭ ‬المركزية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الظفر‭ ‬بالدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬شيء،‭ ‬ومضمونها‭ ‬التطبيقي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬سلطتها‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬وفي‭ ‬الحالة‭ ‬الأخيرة‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكتسب‭ ‬هذه‭ ‬المضامين‭ ‬مزيدا‭ ‬من‭ ‬التعميق‭ ‬والفعالية‭ ‬لآليات‭ ‬الممارسة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الحزب‭ ‬الداخلية،‭ ‬وفي‭ ‬علاقته‭ ‬بحركة‭ ‬الطبقة،‭ ‬ومنظماتها‭ ‬النقابية‭ ‬والإجتماعية‭ ‬وأحزابها‭ ‬الأخرى‭ ‬أيضا‭.‬

كذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المضامين‭ ‬التطبيقية‭ ‬لهذه‭ ‬المبادىء‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬نضال‭ ‬الحزب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اكتساب‭ ‬سمته‭ ‬الطليعية‭ ‬وموقعه‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬هي‭ ‬بالضرورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صون‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬الطليعية،‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬القيادي‭.‬

10-‭ ‬إن‭ ‬استخلاص‭ ‬دروس‭ ‬التجربة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬يتطلب‭ ‬تجديدا‭ ‬لمفهوم‭ ‬الأممية‭ ‬البروليتارية،‭ ‬وإعادة‭ ‬الإعتبار‭ ‬للمضمون‭ ‬الماركسي‭ ‬الأصيل‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬بتنقيته‭ ‬من‭ ‬الشوائب‭ ‬التي‭ ‬ألصقت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬منظري‭ ‬البيروقراطية‭ ‬السوڤييتية‭. ‬إن‭ ‬الإشتراكية‭ ‬الكاملة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بلوغها‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬التعاون‭ ‬الثوري‭ ‬بين‭ ‬بروليتاريي‭ ‬جميع‭ ‬البلدان‭. ‬ويصبح‭ ‬التضامن‭ ‬الأممي‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬البلدان‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬ضرورة‭ ‬وإلحاحا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬إنفلات‭ ‬نزعة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الإمبريالية‭ ‬من‭ ‬عقالها،‭ ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬التوحيد‭ ‬المنهجي‭ ‬للعالم،‭ ‬وللسوق‭ ‬العالمي،‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬تطورها‭.‬

ملاحق‭ ‬القسم‭ ‬الأول

1-‭ ‬مرسوم‭ ‬الأرض‭.‬

مرسوم‭ ‬الأرض‭ ‬يعلن‭ ‬رسميا‭ ‬حق‭  ‬إلغاء‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬حق‭ ‬الحيازة‭ ‬عليها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بالعكس‭ ‬يضمن‭ ‬حق‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬نصيبهم‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬المصادرة،‭ ‬ويدعو‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الاستثناءات،‭ ‬إلى‭ ‬توزيعها‭ ‬عليهم‭ ‬وفقا‭ ‬لمبدأ‭ ‬‮«‬الحيازة‭ ‬المتساوية‮»‬،‭ ‬ومبدأ‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬لمن‭ ‬يحرثها‮»‬‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المرسوم‭ ‬يحث‭ ‬نظريا‭ ‬على‭ ‬الاستثمار‭ ‬الجماعي‭ ‬للأرض‭ ‬عبر‭ ‬الكومونات،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يلزم‭ ‬الفلاحين‭ ‬بذلك‭. ‬وبالفعل،‭ ‬فإن‭ ‬الكومونات‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بمبادرة‭ ‬العمال‭ ‬الزراعيين‭ ‬والفلاحين‭ ‬المعدمين،‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬بفترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ذابت‭ ‬وتلاشت‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الشروط‭ ‬التقنية‭ ‬للإرتقاء‭ ‬بإنتاجية‭ ‬العمل‭ ‬الزراعي‭ ‬فيها،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬شرط‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه‭ ‬للإستفادة‭ ‬من‭ ‬أفضليات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير،‭ ‬وبذلك‭ ‬تحولت‭ ‬المساواتية‭ ‬المطلقة‭ ‬بين‭ ‬أعضائها‭ ‬إلى‭ ‬عبء‭ ‬عليها‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تفتتها‭ ‬وتفجيرها‭ ‬عند‭ ‬اصطدامها‭ ‬بأول‭ ‬صعوبة‭ ‬اقتصادية‭.‬

2-‭ ‬حول‭ ‬حل‭ ‬‮«‬الجمعية‭ ‬التأسيسية‮»‬‭.‬

في‭ ‬موضوع‭ ‬حل‭ ‬الجمعية‭ ‬التأسيسية،‭ ‬لسنا‭ ‬مع‭ ‬التبرير‭ ‬القائل‭ ‬ببساطة‭: ‬إنها‭ ‬–‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬برلمان‭ ‬–‭ ‬رمز‭ ‬للديمقراطية‭ ‬البورجوازية،‭ ‬وأن‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭ ‬هي‭ ‬ديمقراطية‭ ‬أوسع‭ ‬وأغنى‭ ‬وأعمق‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬أشكال‭ ‬الديمقراطية‭ ‬البورجوازية،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتجاوزها‭.‬

هذا‭ ‬التبرير‭ ‬يتجاهل‭ ‬أولا‭: ‬أن‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭ ‬تصبح‭ ‬ديمقراطية‭ ‬أغنى‭ ‬أعمق‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬البروليتاريا‭ ‬أغلبية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التبرير‭ ‬يتجاهل‭ ‬ثانيا‭: ‬أن‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭ (‬وبخاصة‭ ‬صغار‭ ‬الفلاحين‭ ‬ومتوسطيهم،‭ ‬تمييزا‭ ‬لهم‭ ‬عن‭ ‬المعدمين،‭ ‬وأشباه‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الريفية‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬بالضبط‭ ‬تحالف‭ ‬مع‭ ‬العنصر‭ ‬الرئيسي‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬البورجوازية‭.‬

3-‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬النقابية‭.‬

  ‬فتح‭ ‬النقاش‭ ‬في‭ ‬الحزب‭ ‬والنقابات،‭ ‬مجددا‭ ‬حول‭ ‬نظام‭ ‬‮«‬إدارة‭ ‬الرجل‭ ‬الواحد‮»‬‭ ‬وحول‭ ‬مهمات‭ ‬النقابات‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬عملية‭ ‬الإنتاج،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عملية‭ ‬التحضير‭ ‬لمؤتمر‭ ‬الحزب‭ ‬التاسع‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬1919‭. ‬ونشأت‭ ‬داخل‭ ‬الحزب‭ ‬حينذاك‭ ‬الكتلة‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬كتلة‭ ‬المركزية‭ ‬الديمقراطية‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬الإدارة‭ ‬الجماعية‭ ‬المنتخبة‮»‬‭ ‬عنصرا‭ ‬رئيسيا‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬برنامجها‭. ‬وقد‭ ‬حظي‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬بتأييد‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬منظمات‭ ‬الحزب،‭ ‬حيث‭ ‬ساندته‭ ‬بقوة‭ ‬لجنة‭ ‬مقاطعة‭ ‬موسكو‭ ‬الحزبية‭. ‬كما‭ ‬نال‭ ‬تأييد‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬منظمة‭ ‬خاركوف‭. ‬وفي‭ ‬المؤتمر‭ ‬الرابع‭ ‬للحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ (‬آذار‭/‬مارس‭ ‬1920‭) ‬نال‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬50‭% ‬من‭ ‬الأصوات‭.‬

4-‭ ‬موقف‭ ‬الفلاحين‭ (‬البورجوازية‭ ‬الصغيرة‭).‬

التعبير‭ ‬القائل‭: ‬‮«‬إنهم‭ ‬يوقعون‭ ‬الصلح‭ ‬بأقدامهم‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬لاذع‭ ‬استخدمه‭ ‬لينين،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬النقاش‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬محتدما‭ ‬داخل‭ ‬الحزب‭ ‬البلشفي،‭ ‬وبينه‭ ‬وبين‭ ‬حلفائه‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬من‭ ‬يسار‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين،‭ ‬بشأن‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬بريست‭ - ‬ليتوڤسك‭ ‬بشروطها‭ ‬المجحفة‭. ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬به‭ ‬حالة‭ ‬الفرار‭ ‬الجماعي‭ ‬لمئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬المجندين‭ ‬في‭ ‬الجيش،‭ ‬ويعتبرها‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬رغبتهم‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الإمبريالية‭ ‬بأي‭ ‬ثمن‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬لينين‭ ‬يعود‭ ‬لاحقا‭ ‬ليعترف‭ ‬أن‭ ‬توقيع‭ ‬الصلح‭ ‬ألحق‭ ‬صدعاً‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭  ‬البلاشفة‭ ‬وبين‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وينسب‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬سمة‭ ‬التذبذب‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬الفلاحين،‭ ‬والتي‭ ‬يشرحها‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الفلاحين‭ ‬–‭ ‬مثل‭ ‬سائر‭ ‬الشرائح‭ ‬البورجوازية‭ ‬الصغيرة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬–‭ ‬يحافظون‭ ‬على‭ ‬موقعهم‭ ‬الوسيط،‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬البورجوازية‭ ‬والبروليتاريا،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭.‬

ويتابع‭ ‬لينين‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬إن‭ ‬تذبذب‭ ‬جمهور‭ ‬البورجوازية‭ ‬الصغيرة‭ ‬كان‭ ‬مشهودا‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬وجود‭ ‬ونفوذ‭ ‬البروليتاريا‭ ‬أكثر‭ ‬ضعفا‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬لمصلحة‭ ‬البلاشفة‭ ‬عندما‭ ‬منحوهم‭ ‬الأرض،‭ ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬الجنود‭ ‬المسرحون‭ ‬يحملون‭ ‬بشائر‭ ‬السلام‭. ‬أصبح‭ ‬ضد‭ ‬البلاشفة‭ ‬عندما‭ ‬وافقوا،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تشجيع‭ ‬تطور‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬دولي‭ ‬وحماية‭ ‬مركزها‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬على‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬بريست،‭ ‬وبذلك‭ ‬‮«‬أهانوا‮»‬‭ ‬المشاعر‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أعمق‭ ‬المشاعر‭ ‬لدى‭ ‬البورجوازية‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأقدسها‮»‬‭.‬

5-‭ ‬الريف‭ # ‬المدينة‭.‬

في‭ ‬أيار‭ ‬1918،‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬استفحال‭ ‬المجاعة‭ ‬في‭ ‬بتروغراد،‭ ‬أصدرت‭ ‬الحكومة‭ ‬مرسوما‭ ‬باحتكار‭ ‬الدولة‭ ‬لتجارة‭ ‬الحبوب،‭ ‬وتشكيل‭ ‬فصائل‭ ‬مسلحة‭ ‬من‭ ‬العمال،‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬فصائل‭ ‬الغذاء‮»‬،‭ ‬وتخويلها‭ ‬بمصادرة‭ ‬فوائض‭ ‬الحبوب‭ ‬لقاء‭ ‬أسعار‭ ‬ثابتة‭ ‬تحددها‭ ‬الدولة‭. ‬في‭ ‬حزيران‭ ‬ضمت‭ ‬فصائل‭ ‬الغذاء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬آلاف‭ ‬عامل‭. ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬آب‭ ‬ارتفع‭ ‬العدد‭ ‬الى‭ ‬17‭ ‬ألفا‭. ‬في‭ ‬1919‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬فصيل‭ ‬تضم‭ ‬30‭ ‬ألف‭ ‬عامل‭.‬

في‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬1918،‭ ‬اتخذ‭ ‬مؤتمر‭ ‬السوفييتات‭ ‬السادس‭ ‬قرارا‭ ‬باعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬السوفييتات‭ ‬الفلاحية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬اعادة‭ ‬شاملة‭ ‬لانتخابات‭ ‬الهيئات‭ ‬السوفييتية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬القرية‭ ‬والناحية‭. ‬وكلفت‭ ‬لجان‭ ‬الفلاحين‭ ‬الفقراء‭ ‬بالاشراف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭. ‬وعبر‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬تم‭ ‬‮«‬تحرير‭ ‬السوفييتات‭ ‬الفلاحية‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الكولاك‮»‬‭. ‬واندمجت‭ ‬لجان‭ ‬الفلاحين‭ ‬الفقراء‭ ‬بالسوفييتات‭ ‬الجديدة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬جزءا‭ ‬منها‭.‬

6-‭ ‬المؤتمر‭ ‬الخامس‭ ‬للسوفييتات‭.‬

على‭ ‬إثر‭ ‬نداء‭ ‬اللجنة‭ ‬التنفيذية‭ ‬المركزية‭ ‬للسوڤييتات،‭ ‬باشر‭ ‬النشطاء‭ ‬البلاشفة‭ ‬حملة‭ ‬تعبوية‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬البلاد‭ ‬لإعادة‭ ‬الانتخابات‭ ‬للمجالس‭ ‬السوڤييتية‭ ‬المحلية،‭ ‬وإقصاء‭ ‬المناشفة‭ ‬ويمين‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين‭ ‬الذين‭ ‬رفض‭ ‬قادتهم‭ ‬إدانة‭ ‬تمردات‭ ‬الحرس‭ ‬الأبيض،‭ ‬أو‭ ‬التنصل‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الحزبين‭ ‬الذين‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التمردات‭. ‬وفي‭ ‬25‭/‬6‭/‬1918،‭ ‬بعد‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المؤتمرات‭ ‬الجماهيرية‭ ‬الحاشدة‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬عشرات‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬العمال،‭ ‬إتخذ‭ ‬سوڤييت‭ ‬موسكو‭ ‬قرارا‭ ‬باعادة‭ ‬الانتخابات،‭ ‬ودعوة‭ ‬العمال‭ ‬الى‭ ‬استرجاع‭ ‬تفاويض‭ ‬المندوبين‭ ‬الذين‭ ‬ينتمون‭ ‬لهذين‭ ‬الحزبين‭. ‬وفي‭ ‬20‭/‬6‭/‬1918،‭ ‬بدأت‭ ‬الانتخابات‭ ‬لسوفييت‭ ‬بتروغراد‭ ‬بمعركة‭ ‬حامية،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬اللجوء‭ ‬الى‭ ‬العنف‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭.‬

وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬الإنتخابات‭ ‬فوز‭ ‬405‭ ‬مندوبين‭ ‬للبلاشفة،‭ ‬و‭ ‬75‭ ‬ليسار‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الثوريين،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فاز‭ ‬59‭ ‬مندوبا‭ ‬للمناشفة‭ ‬ويمين‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الثوريين‭. ‬والصورة‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬وبتروغراد‭ ‬كانت،‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬تشكل‭ ‬نموذجا‭ ‬لتطور‭ ‬الحملة‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬البلاد‭ ‬الأخرى‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الوضع‭ ‬مختلفا،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬‮«‬نداء‭ ‬الاسترجاع‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬التنفيذ‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الوحدات‭ ‬السوفييتية‭ ‬القاعدية،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬العوامل‭ ‬وراء‭ ‬تشكيل‭ ‬لجان‭ ‬الفلاحين‭ ‬الفقراء‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مهامها‭ ‬‮«‬تحرير‭ ‬سوڤييتات‭ ‬الفلاحين‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الكولاك‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عملية‭ ‬صعبة‭ ‬ومعقدة‭ ‬استمرت‭ ‬شهورا‭ ‬عديدة‭. ‬ولكن‭ ‬البلاشفة‭ ‬بالإتفاق‭ ‬مع‭ ‬يسار‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين،‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬أهدافهم‭ ‬الخاصة،‭ ‬سعوا‭ ‬الى‭ ‬حل‭ ‬المشكلة‭ ‬باختراق‭ ‬قاعدة‭ ‬التمثيل‭ ‬النسبي،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تراعى‭ ‬بدقة‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬واستخدام‭ ‬أغلبيتهم‭ ‬المطلقة‭ ‬لتصفية‭ ‬ممثلي‭ ‬المناشفة‭ ‬ويمين‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين،‭ ‬والحيلولة‭ ‬دون‭ ‬انتخابهم‭ ‬للهيئات‭ ‬السوڤييتية‭ ‬الأعلى‭.‬

وهكذا‭ ‬انعقد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الخامس‭ ‬للسوڤييتيات‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬تموز‭ ‬1918‭ ‬بحضور‭ ‬1164‭ ‬مندوبا‭ ‬منتخبا،‭ ‬بينهم‭ ‬773‭ ‬للبلاشفة،‭ ‬و‭ ‬370‭ ‬ليسار‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الثوريين،‭ ‬و‭ ‬10‭ ‬غير‭ ‬حزبيين،‭ ‬و‭ ‬8‭ ‬لفرق‭ ‬يسارية‭ ‬صغيرة،‭ ‬و‭ ‬7‭ ‬مندوبين‭ ‬فقط‭ ‬للمناشفة‭ ‬ويمين‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين‭. ‬وهو‭ ‬المؤتمر‭ ‬الذي‭ ‬أقر‭ ‬الدستور‭ ‬الدائم‭ ‬لجمهورية‭ ‬روسيا‭ ‬الإتحادية‭ ‬الإشتراكية‭ ‬السوڤييتية،‭ ‬وصادق‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬بتشكيل‭ ‬الجيش‭ ‬الأحمر‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬‮«‬التجنيد‭ ‬الإلزامي‭ ‬لأبناء‭ ‬الشعب‭ ‬العامل‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬لحزب‭ ‬يسار‭ ‬الإشتراكيين‭ ‬الثوريين‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬خطة‭ ‬لتنظيم‭ ‬عصيان‭ ‬مسلح‭ ‬لتولي‭ ‬السلطة،‭ ‬ووقتت‭ ‬موعد‭ ‬تنفيذها‭ ‬ليتزامن‭ ‬مع‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الخامس‭ ‬للسوڤييتات‭.‬

أدى‭ ‬فشل‭ ‬العصيان‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬الحزب‭ ‬وانقسامه‭ ‬إلى‭ ‬3‭ ‬فرق،‭ ‬وجدت‭ ‬اثنتان‭ ‬منها‭ ‬طريقهما‭ ‬لاحقا‭ ‬للانضمام‭ ‬الى‭ ‬الحزب‭ ‬البلشفي،‭ ‬أما‭ ‬الثالثة‭ ‬فتلاشت‭ ‬تدريجياً‭. ‬أما‭ ‬بشأن‭ ‬‮«‬تحرير‮»‬‭ ‬سوفييتات‭ ‬الريف‭ ‬من‭ ‬‮«‬هيمنة‭ ‬الكولاك‮»‬،‭ ‬فان‭ ‬الصعوبات‭ ‬الجمة‭ ‬التي‭ ‬انطوت‭ ‬عليها‭ ‬العملية،‭ ‬والبطء‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬اتسمت‭ ‬به،‭ ‬دفعت‭ ‬المؤتمر‭ ‬السادس‭ ‬للسوڤييتات‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬في‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬1918،‭ ‬بإعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬شاملة‭ ‬للسوڤييتات‭ ‬الفلاحية‭ ‬ودمجها‭ ‬بلجان‭ ‬فقراء‭ ‬الفلاحين‭. ‬وأدى‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬عمليا‭ ‬الى‭ ‬اغتراب‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الجماهير‭ ‬الفلاحية،‭ ‬وابتعادها‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬هيئات‭ ‬السلطة‭ ‬السوفييتية‭ ‬في‭ ‬الريف‭.‬

7-‭ ‬لماذا‭ ‬الخيار‭ ‬الاشتراكي‭ ‬ممكن‭ ‬في‭ ‬روسيا؟

لينين‭ ‬في‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬1923،‭ ‬ردا‭ ‬على‭ ‬زوخانوف‭ ‬أحد‭ ‬منظري‭ ‬المناشفة،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬بعد‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الإشتراكية‭ ‬ممكنة‭. ‬كل‭ ‬أبطال‭ ‬الأممية‭ ‬الثانية‭ ‬يقرعون‭ ‬طبولهم‭ ‬مؤكدين‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعة،‭ ‬وهم‭ ‬جميعا‭ ‬يسمون‭ ‬أنفسهم‭ ‬ماركسيين‭. ‬ولكنهم‭ ‬يعجزون‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬الماركسية‭: ‬الديالكتيك‭ ‬الثوري‭. ‬لقد‭ ‬شاهدوا،‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬الرأسمالية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬البورجوازية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬تتبع‭ ‬مسارا‭ ‬محددا،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬أن‭ ‬يتصوروا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اتخاذه‭ ‬كنموذج‭ ‬إلا‭ ‬بتعديلات‭ ‬معينة‭. ‬إنهم‭ ‬يتجاهلون‭ ‬ما‭ ‬أحدثته‭ ‬الحرب‭ ‬الإمبريالية‭. ‬حتى‭ ‬بورجوازيات‭ ‬البلدان‭ ‬الأغنى‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬منذ‭ ‬الحرب،‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬العلاقات‭ ‬البورجوازية‭ ‬إلى‭ ‬وضعها‭ ‬‮«‬الطبيعي‮»‬‭. ‬ولا‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بالهم‭ ‬أن‭ ‬روسيا،‭ ‬بالضبط‭ ‬لأنها‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ (‬الرأسمالية‭) ‬المتطورة،‭ ‬وبين‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬اجتذبتها‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬نهائيا‭ ‬الى‭ ‬فلك‭ ‬التطور‭ (‬الرأسمالي‭)‬،‭ ‬إن‭ ‬روسيا‭ ‬هذه‭ ‬يمكن‭ ‬أن،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬محكومة،‭ ‬بأن‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الخصائص‭ ‬المميزة‭. ‬لقد‭ ‬تعلموا‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬الموضوعة‭ ‬القائلة‭ ‬أننا‭ ‬لسنا‭ ‬بعد‭ ‬ناضجين‭ ‬للإشتراكية‭.‬

وفي‭ ‬كراسه‭ ‬‮«‬حول‭ ‬الضريبة‭ ‬العينية‮»‬‭ ‬يقول‭ ‬لينين‭: ‬‮«‬ان‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الروسية‭ ‬متقدمة‭ ‬على‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الألمانية،‭ ‬أو‭ ‬البريطانية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قوتها‭ ‬السياسية،‭ ‬ولكنها‭ ‬متأخرة‭ ‬عنهما،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬الاستعداد‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬لبناء‭ ‬الإشتراكية‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الفريدة‭ ‬سيكون‭ ‬خطأ‭  ‬قاتلا‭ ‬القول،‭ ‬إنه‭ ‬بسبب‭ ‬من‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬قدراتنا‭ ‬الإقتصادية‭ ‬وقوتنا‭ ‬السياسية،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نتولى‭ ‬السلطة‭. ‬هذه‭ ‬الحجة‭ ‬تتجاهل،‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬ثمة‭ ‬دوما‭ ‬فوارق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭. ‬ان‭ ‬هذه‭ ‬المفارقات‭ ‬قائمة‭ ‬دوما،‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الطبيعة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأنه‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المحاولات‭ (‬كل‭ ‬منها‭ ‬–‭ ‬إذا‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬انفراد‭ ‬–‭ ‬ستكون‭ ‬وحيدة‭ ‬الجانب،‭ ‬وستنطوي‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭) ‬يمكن‭ ‬للإشتراكية‭ ‬الكاملة‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬عبر‭ ‬التعاون‭ ‬الثوري‭ ‬بين‭ ‬بروليتاريي‭ ‬جميع‭ ‬البلدان‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬يقول‭ ‬لينين‭: ‬عشرة‭ ‬الى‭ ‬عشرة‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬الطبيعية‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭ ‬وسنضمن‭ ‬النصر‭ ... ‬والا‭ ‬فان‭ ‬ثمة‭ ‬20‭ ‬–‭ ‬40‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الارهاب‭ ‬الأبيض‭.‬

8-‭ ‬حول‭ ‬‮«‬وحدة‭ ‬الحزب‮»‬‭.‬

قرار‭ ‬المؤتمر‭ ‬العاشر‭ ‬حول‭ ‬‮«‬وحدة‭ ‬الحزب‮»‬‭ ‬يعلن‭: ‬‮«‬أن‭ ‬الوحدة‭ ‬والتماسك‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الحزب‭... ‬يصبحان‭ ‬ضرورة‭ ‬حيوية‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬حيث‭ ‬تتفاعل‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬لتزيد‭ ‬من‭ ‬التذبذب‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الجمهور‭ ‬البورجوازي‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬البلاد‭... ‬إن‭ ‬وحدة‭ ‬الحزب‭ ‬ووحدة‭ ‬إرادة‭ ‬طليعة‭ ‬البروليتاريا‭ ‬هي‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬لصون‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‮»‬‭.‬

في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬المؤتمر‭ ‬الدولي‭ ‬يولي‭ ‬لينين‭ ‬إهتماما‭ ‬شخصيا‭ ‬لمسألة‭ ‬تطهير‭ ‬الحزب‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬غير‭ ‬البروليتارية،والعناصر‭ ‬المنتفعة‭ ‬والمتسلقة‭  ‬والبيروقراطية‭  ‬التي‭ ‬‮«‬تنخر‭ ‬طريقها‭ ‬كالديدان‭ ‬داخل‭ ‬صفوفه‮»‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭. ‬وبضغط‭ ‬متواصل‭ ‬منه،‭ ‬أقرت‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية،‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1921،‭ ‬حملة‭ ‬تطهير‭ ‬ترتب‭ ‬عليها‭ ‬فصل‭ ‬حوالي‭ ‬170‭ ‬ألف‭ ‬عضو،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يوازي‭ ‬ربع‭ ‬العضوية‭ ‬الحزبية‭.‬

هكذا‭ ‬يرى‭ ‬لينين‭ ‬الوضع‭ ‬الملموس‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬حينذاك‭: ‬‮«‬بعد‭ ‬جهد‭ ‬هائل‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له،‭ ‬فإن‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬فلاحي‭ ‬مدمر،‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬التفتت‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والانحلال‭ ‬الطبقي،‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬كي‭ ‬تنمي،‭ ‬وتدفع‭ ‬الى‭ ‬المقدمة‭ ‬بقوى‭ ‬جديدة،‭ ‬وكي‭ ‬تتمكن‭ ‬قواها‭ ‬القديمة‭ ‬المنهكة‭ ‬من‭ ‬التقاط‭ ‬أنفاسها‭. ‬‮«‬إن‭ ‬بناء‭ ‬آلة‭ ‬حكومية‭ ‬وعسكرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬لامتحانات‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1917‭ ‬الى‭ ‬1921،‭ ‬كان‭ ‬جهدا‭ ‬جبارا‭ ‬أشغل‭ ‬وامتص‭ ‬واستنزف‭ ‬القوى‭ ‬الحقيقية‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭. ‬وعندما‭ ‬يؤيد‭ ‬ميليوكوڤ‭ (‬زعيم‭ ‬الأحرار‭ ‬الدستوريين‭ ‬البورجوازي‭) ‬مطالب‭ ‬المناشفة‭ ‬بشأن‭ ‬‮«‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬القوى‭ ‬الحقيقية‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‮»‬،‭ ‬فذلك‭ ‬لأن‭ ‬البورجوازية‭ ‬تأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬حقيقة‭ ‬الوضع‭: ‬إن‭ ‬القوى‭ ‬الحقيقية‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬تتشكل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬من‭ ‬طليعة‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ (‬أي‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭)‬،‭ ‬يضاف‭ ‬إليها‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬ضعفت‭ ‬لأقصى‭ ‬درجة‭ ‬بسبب‭ ‬عملية‭ ‬الإنحلال‭ ‬الطبقي،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للتأثر‭ ‬بالتذبذب‭ ‬المنشفي،‭ ‬أو‭ ‬الفوضوي‮»‬‭.‬

ملاحق‭ ‬القسم‭ ‬الثاني

1-‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬الدور‭ ‬التاريخي‭ ‬للبيروقراطية‭.‬

ان‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬ماركسيي‭ ‬اليسار‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وكذلك‭ ‬التروتسكيين،‭ ‬يعترفون‭ ‬بالنهوض‭ ‬السريع‭ ‬والتطور‭ ‬النوعي‭ ‬الذي‭ ‬حققه‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوڤييتي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬القيادة‭ ‬الستالينية،‭ ‬ثم‭ ‬القيادات‭ ‬البيروقراطية‭ ‬اللاحقة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ينسبون‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أفضليات‭ ‬الإشتراكية‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬البيروقراطية‭ ‬التي‭ ‬ينكرون‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬تاريخي‭ ‬تقدمي،‭ ‬بل‭ ‬يذهب‭ ‬معظمهم‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬عقبة‭ ‬بوجه‭ ‬التطور،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أسرع،‭ ‬وأكثر‭ ‬توازنا‭ ‬لولا‭ ‬الاحتكار‭ ‬البيروقراطي‭ ‬للسلطة،‭ ‬ويبذلون‭ ‬جهودا‭ ‬فائقة‭ ‬للبرهنة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نهج‭ ‬ستالين‭ ‬الإقتصادي‭ ‬والقمعي‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬خسائر‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬تجنبها‭.‬

أما‭ ‬الحجة‭ ‬القائلة‭ ‬بأن‭ ‬وتيرة‭ ‬التطور‭ ‬السوڤييتية‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬‮«‬أفضليات‭ ‬الإشتراكية‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬البيروقراطية‭ ‬لم‭ ‬تلعب‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬تاريخي‭ ‬تقدمي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التطور،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬حجة‭ ‬تتجاهل‭ ‬الدور‭ ‬الحاسم‭ ‬الذي‭ ‬لعبته‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬مأزق‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعرقل‭ ‬إنجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التصنيع‭ ‬والتنمية‭ ‬السريعة‭ ‬لقوى‭ ‬الإنتاج،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬النشر‭ ‬السريع،‭ ‬لنمط‭ ‬الملكية‭ ‬الإشتراكي‭ (‬ممثلا‭ ‬بشكله‭ ‬الانتقالي‭:‬‭ ‬ملكية‭ ‬الدولة‭)‬،‭ ‬ونمط‭ ‬الملكية‭ ‬التعاوني‭ ‬الانتقالي‭ ‬في‭ ‬الزراعة‭ (‬الكولخوزي‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬بدونه‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬‮«‬لأفضليات‭ ‬الاشتراكية‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تبرز‭ ‬وتؤكد‭ ‬نفسها‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة‭.‬

وتعود‭ ‬جذور‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬إلى‭ ‬الخلل‭ ‬الجوهري‭ ‬الذي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬نظرية‭ ‬تروتسكي‭ ‬الأصلية‭ ‬المعروفة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬الثورة‭ ‬الدائمة‮»‬‭. ‬فهذه‭ ‬النظرية،‭ ‬اذ‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬الروسية،‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬تجاهل‭ ‬المعضلات‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬ممارسة‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متخلف‭ ‬تشكل‭ ‬فيه‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬أقلية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتقفز‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬المقدمة‭ ‬لها‭ ‬أولوية‭ ‬انجاز‭ ‬المضمون‭  ‬الاجتماعي‭ ‬للثورة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬تمييزا‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬أي‭ ‬أولوية‭ ‬إنجاز‭ ‬التراكم‭ ‬الضروري‭ ‬لتنمية‭ ‬قوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬بلغته‭ ‬البلدان‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتقدمة،‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬يشكل‭ ‬القاعدة‭ ‬المادية‭ ‬لعملية‭ ‬انتقال‭ ‬‮«‬طبيعية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭.‬

ان‭ ‬هذا‭ ‬الخلل،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسحب‭ ‬نفسه‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬المتميز‭ ‬لأزمة‭ ‬المجتمع‭ ‬السوفييتي،‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬ارنست‭ ‬ماندل،‭ ‬أبرز‭ ‬منظري‭ ‬التروتسكية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬حول‭ ‬البيريسترويكا‭. ‬فالمشكلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬أنه‭ ‬يطبق‭ ‬المسطرة‭ ‬التروتسكية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الإعتبار‭ ‬الوظيفة‭ ‬التاريخية‭ ‬المزدوجة‭ ‬لثورة‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وما‭ ‬تمليه‭ ‬من‭ ‬أولوية‭ ‬لعملية‭ ‬إنجاز‭ ‬التراكم،‭ ‬وما‭ ‬تفرضه‭ ‬من‭ ‬متطلبات‭. ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬يحاكم‭ ‬وضع‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬وفقا‭ ‬لنفس‭ ‬المقاييس‭ ‬والمفاهيم‭ ‬التي‭ ‬أنتجها‭ ‬تروتسكي‭ ‬لمحاكمة‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬عشرينياته‭ ‬وثلاثينيات،‭ ‬مهملا‭ ‬الفارق‭ ‬الجوهري‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬تطور‭ ‬القوى‭ ‬المنتجة،‭ ‬وما‭ ‬يمليه‭ ‬بالضرورة‭ ‬من‭ ‬انعكاسات‭ ‬على‭ ‬مبادىء‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العمالية‭ ‬وتطبيقاتها،‭ ‬وعلى‭ ‬مغزى‭ ‬ووظيفة‭ ‬السياسات‭ ‬الإقتصادية،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الحالتين‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدفعه،‭ ‬مستشهدا‭ ‬بتفسخ‭ ‬وطفيلية‭ ‬البيروقراطية‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬إلى‭ ‬إنكار‭ ‬الدور‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬لعبته‭ ‬في‭ ‬ثلاثينياته‭.‬

في‭ ‬المقابل‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ننوه‭ ‬بأهمية‭ ‬المنحى‭ ‬الذي‭ ‬يتخذه‭ ‬سمير‭ ‬أمين،‭ ‬في‭ ‬تحليله‭ ‬للتجربة‭ ‬العملية‭ ‬لمسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬رأسمالية‭ ‬متخلفة،‭ ‬والذي‭ ‬يلخصه‭ ‬كتابه‭ ‬الهام‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الرأسمالية‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭ ‬الأخرى‭. ‬انه‭ ‬يلتقط‭ ‬بدقة‭ ‬وظيفة‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر‭ ‬فيما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬فك‭ ‬الارتباط‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الافلات‭ ‬من‭ ‬مفعول‭ ‬قانون‭ ‬القيمة‭ ‬الذي‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الامبريالية،‭ ‬والذي‭ ‬يفرض‭ ‬التطور‭ ‬المتفاوت‭ ‬ويحكم‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬المتخلفة‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬التخلف‭.‬

2-‭ ‬في‭ ‬احتساب‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬ومعدلات‭ ‬نموه‭.‬

يشير‭ ‬بعض‭ ‬المحللين‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬الأساليب‭ ‬والمقاييس‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬السوفييت‭ ‬في‭ ‬احتساب‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬ومعدلات‭ ‬نموه،‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬امكانية‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬حجم‭ ‬الناتج‭ ‬الاجمالي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬معدلات‭ ‬النمو،‭ ‬بينما‭ ‬الناتج‭ ‬النهائي‭ ‬ينمو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬بوتيرة‭ ‬أقل‭.‬

ان‭ ‬الفارق‭ ‬الكبير‭ ‬نسبيا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتقديرات‭ ‬الدخل‭ ‬القومي،‭ ‬يعود‭ ‬جزئيا‭ ‬الى‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬مفاهيم‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ‬وأساليب‭ ‬احتسابه‭ ‬بين‭ ‬النظامين،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فارق‭ ‬يتضاءل‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭. ‬ان‭ ‬المسافة‭ ‬الفعلية‭ ‬بين‭ ‬التقديرين‭ ‬يمكن‭ ‬تبنيها‭ ‬من‭ ‬الفارق‭ ‬في‭ ‬نسب‭ ‬نمو‭ ‬الناتج‭ ‬الصناعي،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬نقطتين‭ ‬مئويتين‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الحالات‭.‬

3-‭ ‬أهمية‭ ‬الانسجام‭ ‬والتوافق‭ ‬بين‭ ‬نمط‭ ‬الملكية،‭ ‬وبين‭ ‬سلطة‭ ‬الادارة‭.‬

في‭ ‬‮«‬الرأسمالية‭ ‬القائمة‭ ‬بالفعل‮»‬،‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتطورة،‭ ‬تسيطر‭ ‬الإحتكارات‭ ‬العملاقة‭ ‬على‭ ‬القطاعات‭ ‬الرئيسية‭ ‬من‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وعلى‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬الإقتصادي‭ ‬بمجمله‭. ‬إن‭ ‬أسلوب‭ ‬تنظيم‭ ‬الإنتاج‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الاحتكارية‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬أوامري‭ ‬بحت،‭ ‬اذ‭ ‬تتخذ‭ ‬مجالس‭ ‬الادارة‭ ‬المشكلة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المساهمين،‭ ‬وأحيانا‭ ‬رؤساؤها‭ ‬كأفراد،‭ ‬كافة‭ ‬القرارات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بحجم‭ ‬الانتاج،‭ ‬ونوعيته،‭ ‬وتأمين‭ ‬الموارد،‭ ‬وحجم‭ ‬الاستثمار‭ ‬وأولوياته،‭ ‬وحجم‭ ‬قوة‭ ‬العمل‭ ‬وتنظيمها‭. ‬وفروع‭ ‬المؤسسة‭ ‬الاحتكارية،‭ ‬أو‭ ‬شركاتها‭ ‬التابعة‭ ‬والمقاولة،‭ ‬تتلقى‭ ‬عادة‭ ‬هذه‭ ‬القرارات‭ ‬كأوامر‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬تنفيذه‭.‬

ان‭ ‬علاقة‭ ‬مالكي‭ ‬المؤسسة‭ ‬بهؤلاء‭ ‬المنتجين،‭ ‬والمسؤولين‭ ‬عن‭ ‬الادارة‭ ‬المباشرة‭ ‬للانتاج،‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬أوامرية‭ ‬بحتة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬ففي‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المتطور،‭ ‬باعتراف‭ ‬جميع‭ ‬نظريات‭ ‬علم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البورجوازي،‭ ‬يبرز‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬درجة‭ ‬الكفاءة‭ ‬والتنظيم‭ ‬العالية‭ ‬جدا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المؤسسة،‭ ‬وبين‭ ‬فوضى‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ككل‭.‬

إن‭ ‬بروز‭ ‬هذا‭ ‬التناقض،‭ ‬كما‭ ‬أسلوب‭ ‬معالجته،‭ ‬يؤكدان‭ ‬حقيقة‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المتطور‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تسود‭ ‬الأوامرية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تزداد‭ ‬درجة‭ ‬كفاءة‭ ‬وتنظيم‭ ‬الإنتاج،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تسود‭ ‬المنافسة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬روح‭ ‬المبادرة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالملكية‭ ‬الخاصة‮»‬،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تزداد‭ ‬فوضى‭ ‬الانتاج،‭ ‬وذلك‭ ‬خلافا‭ ‬للأساطير‭ ‬التي‭ ‬يروجها‭ ‬علماء‭ ‬الإقتصاد‭ ‬البورجوازي‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬المنافسة‭ ‬بتحسين‭ ‬نوعية‭ ‬المنتجات؟

أولا‭: ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نسجل‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬رواجا‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الرأسمالية‭ ‬لا‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بفضل‭ ‬التحسن‭ ‬الفعلي‭ ‬في‭ ‬نوعيتها،‭ ‬بل‭ ‬بفعل‭ ‬انخفاض‭ ‬كلفتها‭ ‬مقترنا‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التحسن‭ ‬في‭ ‬مظهرها‭ ‬الخارجي،‭ ‬أو‭ ‬أسلوب‭ ‬تعبئتها،‭ ‬وتغليفها،‭ ‬وتسويقها‭.‬

وثانيا‭: ‬ان‭ ‬قوانين‭ ‬المنافسة‭ ‬الاحتكارية‭ ‬تولّد‭ ‬بالأساس‭ ‬دافعا‭ ‬الى‭ ‬تخفيض‭ ‬كلفة‭ ‬الانتاج،‭ ‬وهو‭ ‬الدافع‭ ‬الذي‭ ‬يحفز‭ ‬على‭ ‬التحديث‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والإقتصاد‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬ومدخلات‭ ‬الإنتاج‭. ‬والتحسن‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬البضاعة‭ ‬المنتجة،‭ ‬حيثما‭ ‬يتحقق،‭ ‬يأتي‭ ‬كناتج‭ ‬عرضي‭ ‬وثانوي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الموضوعة‭ ‬القائلة‭ ‬بأن‭ ‬المنافسة‭ ‬وآليات‭ ‬السوق‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحفز‭ ‬على‭ ‬تحسين‭ ‬النوعية،‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬إحدى‭ ‬أساطير‭ ‬علم‭ ‬الإقتصاد‭ ‬البورجوازي‭. ‬فقوانين‭ ‬المنافسة‭ ‬الاحتكارية،‭ ‬خاصة،‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬تحسين‭ ‬النوعية‭ ‬إعتبارا‭ ‬ثانويا‭ ‬وناتجا‭ ‬عرضيا،‭ ‬وتجعل‭ ‬خفض‭ ‬الكلفة‭ ‬الاعتبار‭ ‬الرئيسي‭ ‬المخططي‭ ‬الإنتاج‭.‬

ان‭ ‬المعضلة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للإقتصاد‭ ‬السوڤييتي،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬التناقض‭ ‬بينن‭ ‬نمط‭ ‬الملكية‭ (‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية‭) ‬وبين‭ ‬احتكار‭ ‬سلطة‭ ‬الإدارة‭ ‬وتركيزها‭ ‬بأيدي‭ ‬بيروقراطيين‭ ‬ليسوا‭ ‬هم‭ ‬مالكيها‭ ‬الحقيقيين‭.‬

4-‭ ‬توزيع‭ ‬العضوية‭ ‬الحزبية‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

في‭ ‬أواخر‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ (‬1988/1989‭) ‬كان‭ ‬حجم‭ ‬القوة‭ ‬العاملة‭ (‬مجموع‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬الفعالين‭) ‬يوازي‭ ‬135‭ ‬مليونا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬اجمالي‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬البالغ‭ ‬280‭ ‬مليون‭. ‬وكان‭ ‬عدد‭ ‬العاملين‭ ‬مقابل‭ ‬أجر‭ ‬أو‭ ‬راتب‭ ‬يوازي‭ ‬115‭ ‬مليون‭.‬

5-‭ ‬امتيازات‭ ‬النومنكلاتورا‭.‬

لنتذكر‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬القوانين‭ ‬الرئيسية‭ ‬لعمل‭ ‬النظام‭ ‬البيروقراطي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬حجم‭ ‬ونوعية‭ ‬الإمتيازات‭ ‬المتاحة‭ ‬للبيروقراطي‭ ‬يرتبط‭ ‬إرتباطا‭ ‬وثيقاً‭ ‬بالموقع‭ ‬الذي‭ ‬يحتله‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬الهرم‭. ‬وهذا‭ ‬القانون‭ ‬ينطبق‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬امتيازات‭ ‬الفئة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالنومنكلاتورا‭. ‬فأعضاء‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي‭ ‬لهم‭ ‬تسهيلات‭ ‬معينة‭ ‬محددة‭ ‬بدقة‭. ‬وأعضاء‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬والوزراء‭ ‬كذلك‭. ‬وهكذا،‭ ‬نزولا‭ ‬على‭ ‬مراتب‭ ‬السلم‭. ‬وإذا‭ ‬فقد‭ ‬عضو‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي‭ ‬موقعه،‭ ‬فإنه‭ ‬يفقد‭ ‬امتيازاته‭ ‬حكما‭. ‬وكذلك‭ ‬الأمر،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لشخصيات‭ ‬المراتب‭ ‬الأخرى‭.‬

6-‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬البيروقراطي‭ ‬وتشكل‭ ‬مجموعات‭ ‬المصالح‭.‬

إن‭ ‬النزعة‭ ‬نحو‭ ‬تكتل‭ ‬المجموعات‭ ‬والزمر‭ ‬البيروقراطية‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬محلي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬إدارات‭ ‬المؤسسات‭. ‬ففي‭ ‬مواجهة‭ ‬الانقطاعات‭ ‬المتكررة‭ ‬في‭ ‬توريدات‭ ‬المواد‭ ‬الضرورية‭ ‬للإنتاج،‭ ‬أو‭ ‬بهدف‭ ‬التحايل‭ ‬على‭ ‬المخطط‭ ‬المركزي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬موارد‭ ‬أكبر‭ ‬مقابل‭ ‬تنفيذ‭ ‬أهداف‭ ‬الخطة،‭ ‬تلجأ‭ ‬هذه‭ ‬الإدارات‭ ‬إلى‭ ‬الاتصال‭ ‬الشخصي‭ ‬المباشر،‭ ‬ونسج‭ ‬العلاقات،‭ ‬وعقد‭ ‬الصفقات‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬وفق‭ ‬آليات‭ ‬تبادل‭ ‬المنافع‭ ‬الشهيرة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ضمان‭ ‬تزويد‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا‭ ‬بالموارد‭ ‬اللازمة‭ ‬للإنتاج‭ ‬والتعاون،‭ ‬لإقناع‭ ‬السلطات‭ ‬الأعلى‭ ‬أو‭ ‬مركز‭ ‬التخطيط‭ ‬لتمرير‭ ‬هذه‭ ‬الصفقات،‭ ‬أو‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬موارد‭ ‬أكثر،‭ ‬بحجة‭ ‬كونها‭ ‬ضرورية‭ ‬للإنتاج‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المستوى‭ ‬المحلي،‭ ‬الجغرافي‭ ‬أو‭ ‬المناطقي،‭ ‬هو‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬يسهل‭ ‬فيه‭ ‬نشوء‭ ‬هذه‭ ‬التكتلات‭ ‬والمراكز،‭ ‬أولا‭ ‬بسبب‭ ‬المعرفة‭ ‬الشخصية‭ ‬المباشرة،‭ ‬وبسبب‭ ‬تنوع‭ ‬المشاريع،‭ ‬واعتمادها‭ ‬المتبادل‭ ‬والقرب‭ ‬الجغرافي‭ ‬بين‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬ثانيا‭.‬

وترتقي‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬أعلى‭ ‬عندما‭ ‬تبدأ‭ ‬هذه‭ ‬التكتلات‭ ‬باستمالة،‭ ‬أو‭ ‬بشراء‭ ‬العطف‭ ‬والتأييد‭ ‬والتورط‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المسؤولين‭ ‬الحزبيين‭ ‬والحكوميين‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬أو‭ ‬الإقليم‭ ‬بهدف‭ ‬تغطية‭ ‬وتسهيل‭ ‬صفقاتها،‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحها‭ ‬لدى‭ ‬المركز،‭ ‬لقاء‭ ‬منافع‭ ‬مادية،‭ ‬أو‭ ‬دعم‭ ‬سياسي‭ ‬يقدم‭ ‬إلى‭ ‬هؤلاء‭ ‬المسؤولين‭.‬

هذه‭ ‬النزعة‭ ‬الائتلافية‭ ‬تتعزز‭ ‬أيضا‭ ‬بفعل‭ ‬النظام‭ ‬البيروقراطي‭ ‬لاختيار‭ ‬الكوادر‭ ‬وترقيتها،‭ ‬حيث‭ ‬يتيح‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬نشوء‭ ‬مراكز‭ ‬تستقطب‭ ‬حولها‭ ‬معارفها‭ ‬وصداقاتها،‭ ‬وتشكل‭ ‬مجموعات‭ ‬ضغط‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مستوى‭ ‬المركز‭. ‬أغانبغيان‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬حول‭ ‬البيرويسترويكا‭.‬

ان‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تبرز‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬شرق‭ ‬أوروبا،‭ ‬مما‭ ‬يعزز‭ ‬القناعة‭ ‬بأنها‭ ‬ليست‭ ‬نتيجة‭ ‬للمعضلات‭ ‬المتولدة‭ ‬عن‭ ‬مركزية‭ ‬التخطيط‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬شاسع‭ ‬ذي‭ ‬اقتصاد‭ ‬ضخم‭ ‬ومتشعب‭  ‬كالإتحاد‭  ‬السوڤييتي،‭  ‬بقدر‭  ‬ما‭  ‬هي‭  ‬نتيجة‭  ‬السمات‭  ‬المتأصلة‭  ‬في‭  ‬نظام‭  ‬السيطرة‭ ‬البيروقراطي‭ ‬ونمط‭ ‬إدارته‭ ‬للإقتصاد،‭ ‬والمصالح‭ ‬التي‭ ‬يولدها،‭ ‬السمات‭ ‬التي‭ ‬تزداد‭ ‬تفاقما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإصلاحات‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬إستقلالية‭ ‬المشاريع‭. ‬بعض‭ ‬الإقتصاديين‭ ‬المجريين،‭ ‬مثلا،‭ ‬يشيرون‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬هنغاريا‭ ‬وينسبون‭ ‬تفاقمها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تعدد‭ ‬المراكز‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإصلاحات‭ ‬الليبرالية‭ ‬المعتمدة،‭ ‬وميلها‭ ‬لتحويل‭ ‬البنية‭ ‬الإقتصادية‭ ‬إلى‭ ‬شبكة‭ ‬فدرالية‭ ‬من‭ ‬المراكز‭ ‬والمجموعات‭ ‬التي‭ ‬تكتسب‭ ‬لنفسها‭ ‬استقلالا‭ ‬أكبر‭.‬

قائمة‭ ‬تضم‭ ‬بعض‭ ‬المصطلحات‭ ‬والمعاني‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭:‬

شيوعية‭ ‬الحرب‭: ‬هي‭ ‬السياسة‭ ‬العامة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬العسكرية،‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدتها‭ ‬الحكومة‭ ‬البلشفية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سنة‭ ‬1918‭ ‬–‭ ‬1921،‭ ‬اتسمت‭ ‬سياسة‭ ‬شيوعية‭ ‬الحرب‭ ‬بتعجيل‭ ‬اجراءات‭ ‬‮«‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬الغاصبين‮»‬‭ ‬وبالمصادرة‭ ‬القسرية‭ ‬لفائض‭ ‬الحبوب‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬لقاء‭ ‬أسعار‭ ‬ثابتة‭ ‬تدفع‭ ‬بالروبل‭ ‬الورقي‭ ‬وفرض‭ ‬احتكار‭ ‬الدولة‭ ‬لتجارة‭ ‬الغذاء‭.‬

ديكتاتورية‭ ‬البروليتاريا‭: ‬أي‭ ‬الحفاظ‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬القيادي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬عبر‭ ‬صون‭ ‬تحالفهما‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭.‬

السياسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجديدة‭ (‬النيب‭): ‬أعطى‭ ‬المؤتمر‭ ‬العاشر‭ ‬للحزب‭ (‬آذار‭ ‬–‭ ‬نيسان‭ ‬1921‭) ‬باقتراح‭ ‬من‭ ‬لينين،‭ ‬اشارة‭ ‬الانطلاق‭ ‬لبلورة‭ ‬خطة‭ ‬عرفت‭ ‬باسم‭ (‬النيب‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬النيب‭ ‬تراجعا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬لصالح‭ ‬الفلاحين‭ ‬ورأس‭ ‬المال‭ ‬المتوسط‭ ‬والصغير‭ ‬عموما،‭ ‬ولاحقا‭ ‬لصالح‭ ‬رأسمالية‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تجسدت‭ ‬بالمشاركة‭ ‬مع‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الكبير‭ ‬المحلي‭ ‬والأجنبي‭. ‬وعاد‭ ‬لينين‭ ‬ينفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬نظريته‭ ‬حول‭ ‬التعايش‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬الأنماط‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬المتخلف‭ ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال‭.‬

البونابارتية‭: ‬ظاهرة‭ ‬محافظة‭ ‬وليست‭ ‬ظاهرة‭ ‬ثورية،‭ ‬حتى‭ ‬بالمقياس‭ ‬البورجوازي،‭ ‬تنشأ‭ ‬عن‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الطبقتين‭ ‬المتناحرتين‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬البروليتاريا‭ ‬والبورجوازية،‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬التناقضات‭ ‬داخل‭ ‬الطبقة‭ ‬الثورية‭ ‬الصاعدة،‭ ‬أو‭ ‬التحالف‭ ‬الطبقي‭ ‬الثوري‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بالسلطة،‭ ‬ووظيفة‭ ‬استقلال‭ ‬الدولة‭ ‬البونابارتية‭ ‬هو‭ ‬حفظ‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الطبقتين‭ ‬المتناحرتين،‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬تتمكن‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ (‬البورجوازية‭) ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه‭ ‬بالوسائل‭ ‬العادية‭.‬

الاشتراكية‭ ‬المتطورة‭: ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬الاشتراكي‭ ‬وبين‭ ‬الشيوعية‭ ‬الكاملة،‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬السير‭ ‬الحثيث‭ ‬نحو‭ ‬المجتمع‭ ‬الشيوعي‭ ‬الكامل،‭ ‬وليكرس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تبني‭ ‬موضوعتي‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬الشعب‭ ‬كله‮»‬‭.‬

الاستلاب‭ ‬الاقتصادي‭: ‬تغريب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬سلطتها‭ ‬المفترضة‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الانتاج‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬رسميا‭ ‬ملكيتها‭ ‬الجماعية‭ ‬وتغريبها‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬التحكم‭ ‬بناتج‭ ‬عملها‭.‬

الاستلاب‭ ‬السياسي‭: ‬تغريب‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬بسوادها‭ ‬الأعظم‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬دولتها‭.‬

البيريسترويكا‭: ‬سياسة‭ ‬اعادة‭ ‬البناء،‭ ‬وهي‭ ‬سياسة‭ ‬رسمية‭ ‬للحزب‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين‭ ‬المنعقد‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬1986،‭ ‬انطوى‭ ‬برنامج‭ ‬البيرويسترويكا،‭ ‬كما‭ ‬أقره‭ ‬المؤتمر،‭ ‬على‭ ‬تشخيص‭ ‬نقدي،‭ ‬صحيح‭ ‬اجمالا،‭ ‬لمظاهر‭ ‬الخلل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعترض‭ ‬نمو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وتطور‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬التشخيص‭ ‬كان‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬مظاهر‭ ‬الخلل‭ ‬دون‭ ‬تحليل‭ ‬جوهرها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وأسبابها‭ ‬الكامنة‭.‬

الغلاسنوست‭: ‬العلانية‭ ‬أو‭ ‬الشفافية‭.‬

الثورة‭ ‬الديمقراطية‭: ‬هي‭ ‬المغزى‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الرئيسي‭ ‬للانتفاضة‭ ‬الفلاحية‭ ‬والمدخل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭ ‬للارتقاء‭ ‬بالمجتمع‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬التبعية‭ ‬والتخلف‭ ‬الى‭ ‬مستوى‭ ‬التطور‭ ‬المادي‭ ‬والحضاري‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬مراكزها‭ ‬المتقدمة‭.‬

الثورة‭ ‬الاشتراكية‭: ‬هي‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مصلحة‭ ‬البروليتاريا‭ ‬الثورية‭ ‬الظافرة‭ ‬بالسلطة،‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلاحية،‭ ‬أي‭ ‬مصلحتها‭ ‬في‭ ‬مباشرة‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬الاشتراكية‭.‬

البيروقراطية‭: ‬شريحة‭ ‬إجتماعية‭ ‬متميزة،‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬وتنمو‭ ‬بفعل‭ ‬تخلف‭ ‬المجتمع،‭ ‬والتناقضات‭ ‬التي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬عملية‭ ‬الإنتقال‭ ‬إلى‭ ‬الإشتراكية‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬المبكرة‭. ‬وهي‭ ‬تقيم‭ ‬سلطتها‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬نظام‭ ‬الملكية‭ ‬العامة‭ ‬لوسائل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرئيسية،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬الأساس‭ ‬الإجتماعي‭ ‬لسلطة‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬والذي‭ ‬يحدد‭ ‬المضمون‭ ‬الطبقي‭ ‬للدولة‭ ‬السوڤييتية‭ ‬بصفتها‭ ‬دولة‭ ‬عمالية،‭ ‬رغم‭ ‬بقرطتها‭.‬

النومنكلاتورا‭: ‬الفئة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬البيروقراطية‭.‬

الكولخوزات‭: ‬أحد‭ ‬أشكال‭ ‬المزارع‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭.‬

الانتلجنتسيا‭: ‬هي‭ ‬الطبقة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتعلمة‭ (‬النخبة‭ ‬المثقفة‭).‬

الكولاك‭: ‬فئة‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬الأغنياء‭.‬

Download Count:

Download

خيارات المشاركة

الدراسات

النظام السياسي الفلسطيني والإستحقاق الديمقراطي المفوَّت

الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها

الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024

وهكذا تم افشال اسرائيل ... تطور الاستراتيجية الاسرائيلية في ادارة الصراع مع قطاع غزة

من وثائق عقد النهوض والإنتصارات... 1972 ــ 1981