عزلة نتنياهو وتآكل الرواية الإسرائيلية في الأمم المتحدة
خيارات المشاركة
المقالات

فراس صالح | عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
لم يكن المشهد الذي رافق صعود بنيامين نتنياهو إلى منصة الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2025 حدثاً بروتوكولياً عادياً يمكن إدراجه في خانة الخطابات الدورية التي اعتادت الجمعية العامة الاستماع إليها من قادة العالم. بل شكّل هذا الصعود، وما رافقه من انسحاب جماعي لوفود غالبية دول العالم، لحظة سياسية فارقة تجسّد التحولات العميقة التي يشهدها الموقف الدولي من «إسرائيل»، وتكشف بجلاء عن عمق العزلة التي انزلقت إليها دولة الاحتلال، سواء على الصعيد الرسمي للدول أو على مستوى الرأي العام العالمي الذي بات أكثر وعياً بطبيعة سياساتها العدوانية.
هذا الانسحاب لم يكن مجرد حركة احتجاجية رمزية أو رسالة بروتوكولية، بل جاء كتعبير سياسي صريح، وكأنه استفتاء عالمي على فقدان الرواية الإسرائيلية صدقيتها. لقد وُضعت تل أبيب ورئيس حكومتها أمام مرآة العالم، ليكتشف الجميع أن القوة العسكرية، والهيمنة الإعلامية، والدعم السياسي الغربي، لم تعد كافية لإقناع الشعوب أو حتى حكوماتها بمبررات الحرب والإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الفلسطينيين، ولا بتكرار خطاب «الدفاع عن النفس» الذي استُهلك حتى بات فارغاً من المضمون.
من المعروف أن نتنياهو يتمتع بقدرات خطابية عالية، وقد بنى جزءاً كبيراً من مكانته السياسية على مهارته في استغلال المنابر الدولية لتسويق رواية الاحتلال. غير أن هذه المرة، ورغم محاولاته إعادة إنتاج سردياته التقليدية، بدا شاحباً، متردداً، مفتقداً القدرة على التأثير. السبب لم يكن في اللغة التي استخدمها، بل في السياق الذي سبق حضوره، وفي الواقع الميداني الذي انكشف أمام العالم. فما قيمة أي خطاب إذا كان الدم الفلسطيني يملأ الشاشات، والدمار يخيّم على غزة، وملايين البشر يصرخون في الشوارع مطالبين بوقف الإبادة؟
لقد واجه نتنياهو جمهوراً دولياً لم يعد مستعداً لتلقّي دعايته بذات السذاجة التي كانت سائدة في عقود سابقة. فقد تراكمت لدى الرأي العام الدولي خبرة في قراءة المشهد الفلسطيني، وبرزت حركات تضامن عالمية واسعة، كما تصاعدت الضغوط داخل برلمانات أوروبية وأميركية لاتينية وآسيوية تدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين ووقف الحرب. أمام هذا التحول، بدا خطاب نتنياهو عاجزاً، بل معزولاً، أشبه بمحاولة يائسة للتمسك بآخر خيوط رواية تتهاوى.
جوهر خطاب نتنياهو لم يعزز موقفه، بل كرّس خسارته. فخلال السنوات الماضية، كانت تل أبيب تحاول دائماً أن تفرض نفسها كفاعل لا يمكن تجاوزه في أي معادلة إقليمية أو دولية. أما اليوم، ومع تزايد الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، ومع اتساع حملة التضامن العالمي، ومع قرارات برلمانات وحكومات أوروبية وأميركية لاتينية وإفريقية تدعو صراحة إلى الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، باتت إسرائيل عاجزة عن إخفاء مأزقها. لم يعد بإمكانها أن تقدم نفسها كـ«دولة ديمقراطية محاصرة وسط محيط معادٍ»، لأن العالم بات يرى بوضوح أنها دولة احتلال تمارس القمع والتطهير العرقي.
هذا التحول الدولي لا يقتصر على التصريحات، بل يشمل سياسات عملية: فرض عقوبات على منتجات المستوطنات، مقاطعة شركات متورطة في الاحتلال، إيقاف صفقات أسلحة، وطرح مبادرات للاعتراف الجماعي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة. ومن هنا، يصبح خطاب نتنياهو مجرد صوت نشاز في عالم يتجه بخطى متسارعة نحو مواقف أكثر جرأة في مواجهة الاحتلال.
رغم ما حاول نتنياهو إظهاره من تحدٍّ، إلا أن خطابه لم ينجح في كسر الإجماع العربي والدولي المتشكل حول ضرورة وقف الحرب، وإطلاق عملية إعادة إعمار غزة، وإيجاد إدارة فلسطينية – عربية مقبولة دولياً للإشراف على القطاع. إما أن نتنياهو كان يدرك حدود قوته وعجزه عن تغيير هذه المعادلات، أو أنه كان يعلم مسبقاً بمضمون الطرح الأميركي ولم يجد في نفسه القدرة على الاعتراض. في الحالتين، بدا واضحاً أن القرار الإسرائيلي لم يعد مستقلاً، بل أصبح مرتهناً للإدارة الأميركية التي تتحكم بمصير الحرب ووقفها. كل ما يستطيع نتنياهو فعله هو المناورة الخطابية، فيما الجوهر السياسي بات خارج يديه.
إذا كان نتنياهو يواجه عزلة في الخارج، فإنه لا يقل عزلة داخلية في الداخل الإسرائيلي. المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة انقسام غير مسبوقة حول أداء حكومته، سواء على صعيد إدارة الحرب أو على مستوى الملفات الداخلية. فالفشل في تحقيق «نصر حاسم» في غزة، والخسائر البشرية والاقتصادية، وتراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم، كلها عوامل جعلت نتنياهو في موقع دفاعي حتى أمام جمهوره التقليدي.
الرواية الأمنية التي بنى عليها وجوده السياسي تتهاوى؛ إذ لم يعد بإمكانه أن يقدّم نفسه كـ«حامي إسرائيل» في ظل استمرار إطلاق الصواريخ من غزة، واتساع دائرة المواجهات في الضفة والقدس، وتصاعد العمليات الفردية. الداخل بات يدرك أن سياسة القوة لم تحقق الأمان، بل جلبت عزلة دولية وأزمات داخلية متلاحقة.
لا يمكن تجاهل أن التحولات في المواقف الدولية ليست نتاج الحكومات فقط، بل هي انعكاس مباشر لضغط الشعوب. فالمظاهرات التي اجتاحت عواصم العالم، والمطالبات بمحاكمة قادة الاحتلال، والضغوط على البرلمانات لوقف صفقات السلاح، كلها لعبت دوراً مركزياً في تغيير المزاج السياسي الدولي. بات واضحاً أن قضية فلسطين لم تعد شأناً محلياً أو إقليمياً، بل تحولت إلى قضية عدالة عالمية تلامس ضمير الإنسان في كل مكان.
هذه الديناميكية الشعبية حدّت كثيراً من قدرة نتنياهو على المناورة. فحتى حلفاؤه الغربيون لم يعودوا قادرين على دعمه بالقدر نفسه الذي اعتادوه، لأنهم يواجهون ضغوطاً داخلية هائلة من شعوبهم. هكذا أصبح نتنياهو محاصراً من كل الجهات: من الداخل الإسرائيلي المنقسم، ومن الخارج الدولي الرافض، ومن الشارع العالمي الغاضب.
خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة لم يكن مجرد محاولة دفاعية، بل كان انعكاساً لهشاشة المشروع الإسرائيلي.
لقد فقدت إسرائيل مقومات الرواية التي طالما سوّقتها، وباتت عزلتها واقعاً ملموساً داخلياً وخارجياً. أما نتنياهو، الذي حاول أن يبدو واثقاً على المنصة، فقد بدا في الواقع مجرد قائد مأزوم، يواجه عالماً لم يعد يصدّق أكاذيبه، ولا يقبل ادعاءاته.
إن الحدث الدولي الأبرز اليوم لا يتمثل في ما يقوله نتنياهو أو يحاول أن يبرره، بل في اتساع رقعة الاعترافات بدولة فلسطين، وفي بداية التوجه العملي نحو وقف حرب الإبادة وإعادة إعمار القطاع. في ظل هذه التحولات، يصبح خطاب نتنياهو بلا أثر فعلي، مجرد صدى لماضٍ آخذ في الانحسار، بينما المستقبل يكتب بلغة جديدة عنوانها: فلسطين، والعدالة، ورفض الاحتلال.
وبذلك، فإن صعود نتنياهو إلى منصة الأمم المتحدة لم يكن انتصاراً دعائياً، بل لحظة تاريخية كشفت حدود القوة الإسرائيلية، وعززت التحولات الدولية الكبرى التي تجعل من الاعتراف بفلسطين وحقوق شعبها حقيقة سياسية تتقدم يوماً بعد يوم