في ذكرى النكبة: الرواية الحقيقية عن النكبة تعود إلى واجهة السياسة على المستوى العالمي

مايو 18, 2025

\نقف هذه الأيام في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة الفلسطينية أمام واقع جديد، يجري فيه كتابة رواية جديدة عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والنكبة الفلسطينية، رواية تنزع عن إسرائيل صفة الضحية وصفة المعتدى عليه، وهي التي كانت تبني على ذلك موقفا يجيز لها ارتكاب جرائم مروعة بحجة الدفاع عن النفس وتكبل الأخر بقيود ثقيلة تلغي حقه في الاحتجاج على هذه الجرائم.
فالموقف من الحرب الوحشية، التي تشنها دولة الإحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين أول 2023 قدمت للرأي العام الدولي رواية جديدة عن الصراع، فهناك حسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء ما يزيد على 52,600 شهيد خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يشكلون أكثر من 34% من مجموع الشهداء منذ النكبة، منهم أكثر من 18 ألف طفل، وأكثر من 12 ألف امرأة، و211 صحافياً، وأكثر من 11 ألف مواطن في عداد المفقودين، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى ما يزيد على 125 ألف جريح. أما في الضفة الغربية، التي لم تنطلق منها أحداث مشابهة للسابع من أكتوبر، فيقترب عدد الشهداء الفلسطينيين من ألف  شهيد (964) منذ بدء عدوان الإحتلال الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول 2023.
وحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء كذلك دمر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر أكثر من 68,900 مبنى، وتضرر، بشكل كبير، حوالي 110 آلاف مبنى، فيما تقدر أعداد الوحدات السكنية التي تم تدميرها، بشكل كلي أو جزئي بما يزيد على 330 ألف وحدة سكنية، تشكل في مجموعها أكثر من 70% من الوحدات السكنية في قطاع غزة، إضافة إلى تدمير المدارس والجامعات (أكثر من 500 مدرسة وجامعة)، والمستشفيات والمساجد(828) والكنائس(3) والمقرات الحكومية(224)، وآلاف المنشآت الإقتصادية، وتدمير كل مناحي البنى التحتية من شوارع وخطوط مياه وكهرباء وخطوط الصرف الصحي، وتدمير الأراضي الزراعية، ليجعل من قطاع غزة مكاناً غير قابل للعيش.
هذا يعيد إلى الذاكرة بقوة أحداث عام النكبة 1948، عندما شردت دولة الإحتلال 957 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون كانوا يقيمون في نحو 1,300 قرية ومدينة فلسطينية، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، فضلاً عن التهجير الداخلي لعشرات آلاف المواطنين الفلسطينيين، داخل الأراضي التي خضعت للاحتلال بعد أن سيطرت على 774 قرية ومدينة فلسطينية، منها 531 تم تدميرها بالكامل، وما صاحب ذلك من عمليات تطهير عرقي ومجازر تجاوزت أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين وأدت إلى إستشهاد ما يزيد على 15 ألف فلسطيني.
في حينه تأخرنا كثيرا، بل وقصرنا في تقديم روايتنا عن النكبة كما جرت للعالم، باعتبارها الفيصل بين الحقائق والأكاذيب والدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم إرتكابها، الأمر الذي سمح لفترة غير قصيرة من الزمن لرواج الرواية الإسرائيلية، التي إدعت أن سكان فلسطين غادروا قراهم وبلداتهم ومنازلهم إستجابة لنداءات من الخارج.  وقد تغير الوضع هذه الأيام بعد جرائم الحرب المروعة وجرائم الإبادة الجماعية، التي يرتكبها جيش الإسرائيلي في قطاع غزة بعد الثامن من أكتوبر الماضي. جاء هذه المرة من يحمل روايتنا إلى العالم بشرارة أطلقتها جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة وامتدت لتغطي مئات الجامعات في هذا العالم، فضلا عن المشاهد شبه اليومية للاحتجاجات الشعبية في عواصم عديد الدول تضامنا مع الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض لحرب إبادة وبالخطوة الجريئة من جمهورية جنوب افريقيا، التي جلبت دولة إسرائيل إلى قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية، وهي رواية حطمت عددا من «أصنام العبادة» وقدمت إسرائيل كما هي، دولة في المنطقة ولكنها ليست دولة من دول المنطقة، هي دولة وظيفية وحسب.
وبالعودة إلى أحداث النكبة كما جرت عام 1948، فقد كشفت دولة إسرائيل في ثمانينات القرن الماضي عن بعض الوثائق من أرشيف الدولة، وأرشيف الحركة الصهيونية ومنظماتها في فلسطين الإنتدابية قبيل النكبة الفلسطينية وأثناءها وفي السنوات التالية لتأسيسها. وكانت تلك فرصة ثمينة لعدد ممن أصبحوا يعرفون بالمؤرخين الجدد في إسرائيل أمثال بيني موريس وآفي شلايم، وإيلان بابيه وشلومو زاند وغيرهم للبحث في نكبة الشعب الفلسطيني وما رافقها من مجازر شكلت القاعدة الأساس لسياسة الترحيل والتهجير والتطهير العرقي، التي رافقت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. كان دخول المؤرخين الجدد في إسرائيل على الخط فاتحة توجّه لدى بعض الإسرائيليين، الذين أخذوا يشككون في الرواية الصهيونية وأطلقت دون شك بواكير عمل تأريخي جديد، في مواجهة التيار الإسرائيلي المركزي، الذي كان وما زال يرفض الرواية الفلسطينية عن النكبة. جن جنون قادة دولة إسرائيل والحركة الصهيونية وعادت عملية التعتيم والتكتم على أرشيف الدولة وأرشيف الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية بعد أن تم توجيه التهمة للمؤرخين الجدد بأنهم ذبحوا البقرة المقدسة.
بعد هذا الكشف عن بعض ما يحويه ارشيف دولة الإحتلال من أعمال فظيعة ارتكبتها منذ الأيام الأولى لقيامها تم شق الطريق لروايتين عن نكبة الشعب الفلسطيني: واحدة إسرائيلية إعتمدت الكذب وتزوير الحقائق منهجاً، والثانية فلسطينية تم تجاهل أحداثها فعلا؛ مقدماتها وتداعياتها، وغابت عن إهتمامات الرأي العام العالمي لاعتبارات ليس أقلها شأنا أن العالم كان قد خرج للتو من أهوال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من جرائم إرتكبها الوحش النازي، وألقت بعد سنوات معدودة بظلالها الثقيلة على جرائم كانت من صنع ضحايا النازية الهتلرية. وقد بنت دولة الإحتلال روايتها على مزاعم توراتية إعتمدت الأساطير وأقوال العرافين وبأن المشروع الصهيوني جاء ينقذ اليهود من اللاسامية ومن عمليات الاضطهاد والإبادة كما جرت في أوروبا وبشكل خاص على أيدي الوحش النازي. وقامت الرواية الإسرائيلية على تجاهل وإقصاء جميع الآثار التي تشير إلى فلسطين قبل عام 1948، وسطت على أسماء الجبال والتلال والسهول والمدن والقرى الكنعانية القديمة وواصلت التنكر لمسؤوليتها عن النكبة وأحالت مسؤولية الهجرة الجماعية للفلسطينيين على الدول العربية، وواصلت ومعها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية رفضها مجرد رؤية الفلسطينيين كضحايا لممارساتها وجرائمها، كما تفعل هذه الأيام، رغم ما تكشف من وثائق تظهر مسؤوليتها عن تلك الممارسات والوثاق، مثل خطة (دالت) للتطهير العرقي الشامل التي أقرتها قيادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في آذار من عام 1948، وأوكلت تنفيذها بتوجيهات تفصيلية إلى العصابات الإرهابية، التي بنتها الحركة الصهيونية في فلسطين بمساعدة مباشرة من حكومة الإنتداب البريطاني. كانت الخطة تقوم على التطهير العرقي كهدف مركزي من أهدافها، بتوجيهات صارمة وتفصيلية، تدعو دون رحمة إلى القتل ودب الرعب في المدن والقرى الفلسطينية وحرق البيوت والممتلكات وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع الأهالي من العودة إلى بيوتهم، كما جرى في دير ياسين، التي قال فيها مناحيم بيغن أنه ما كان ممكناً لإسرائيل أن تظهر للوجود لولا تلك المجزرة، فيما وصف إسحق شامير المجزرة بأنها كانت واجباً إنسانياً.
الآن ونحن ندخل عاماً جديداً من أعوام النكبة الفلسطينية نلاحظ التحول في موقف الرأي العام العالمي. فالوضع بدأ يتغير، ومن المؤشرات على هذا التغيير ذلك القرار الأممي مطلع كانون أول عام 2022 بتحديد الخامس عشر من أيار القادم يوما تحيي فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة على مستوى رفيع مرور 75 عاما على نكبة فلسطين هذا إلى جانب حملات التنديد العالمية بمجازر الإحتلال في قطاع غزة كما في الضفة الغربية بما فيها القدس. هذا التحول كان نتيجة طبيعية لصمود أهلنا في مناطق الـ 48 في وجه العدوان ومحاولة الأسرلة الدائمة وثباتهم في أرضهم كأقلية قومية حافظت على قضيتها وعلى وجودها في أرضها، وثانيا بفعل الصمود الأسطوري لشعبنا في قطاع غزة وبفعل الإشتباك المتواصل مع الإحتلال لأبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بما فيها القدس، وما يصاحبه من جرائم حرب إسرائيلية وسياسة تمييز وفصل عنصري تغذيها سياسة الإحتلال والإستيطان الإسرائيلية وبفعل إستعادة مخيمات اللجوء والشتات في دول الجوار لدورها كرافعة كفاحية من أجل إسترداد الحقوق تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من معاناتهم الكبيرة ومن المخططات التي تستهدف دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتستهدف حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، التي هجروا منها بالقوة العسكرية الغاشمة، هذا الحق الذي لا يموت بالتقادم كما كانت تحلم إسرائيل وكما هي أوهام الإدارة الأميركية.