وكالة الغوث.. ومعركة نزع الشرعية
خيارات المشاركة
المقالات
فتحي كليب | عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
لم يعد سرا القول ان اسرائيل ليست وحدها من تخوض معركة نزع الشرعية عن وكالة الغوث، بل هناك العديد من الدول التي تتشارك مع اسرائيل في هذه المعركة، بغض النظر عن مواقفها السياسية المؤيدة للوكالة ولدورها، وهي معركة لم تعد محصورة باتهامات ومزاعم اسرائيلية تعلم الدول المانحة للاونروا انها كاذبة ومضللة، وتعلم ان الهدف هو ليس ما تدعيه اسرائيل وبعض الدول الحليفة لها، بل بدأت تمس خطوط حمراء ومصالح وحقوق اكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني ما زالوا يتمسكون بحق العودة وفقا للقرار الدولي رقم 194.
يخطئ من يعتقد ان الحرب الاسرائيلية المعلنة ضد وكالة الغوث بدأت في 7 اكتوبر، بنتيجة اتهامات بمشاركة بعض موظفي الوكالة في تلك المعركة، ولا مع اقرار الكنيست الاسرائيلي لقانون يحظر انشطة الاونروا في اسرائيل وفي الاراضي الخاضعة لسيطرتها، ولا بالغاء اتفاقية المقر مع الاونروا والتي كان من نتيجتها سحب الاعتراف بوكالة الغوث، رغم انها جزء من منظومة الامم المتحدة وليست مؤسسة فلسطينية، بكل ما نتج عن ذلك من سحب للامتيازات والحصانات والاعفاءات المالية والضريبية والجمركية التي كانت هذه المنظمة تتمتع بها، استنادا لتلك الاتفاقية والى المادة 105 من ميثاق الامم المتحدة، بل ان استراتيجيات التخلص من الاونروا بدأت منذ بداية العهد الاول للرئيس الامريكي ترامب عام 2017، في اطار الخطة المعروفة بـ «صفقة القرن»، حيث احتلت مسألة استهداف الوكالة وانهاء خدماتها موقعا متقدما في هذه الخطة.. ورغم رحيل ترامب، الا ان اسرائيل واصلت استهدافها لوكالة الغوث، مستخدمة وسائل التحريض والكذب والتضليل سبيلا لتحقيق هدفها بالتخلص من الوكالة وما ترمز اليه من بعد سياسي على تماس مباشر مع قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة.
كان واضحا ان هناك خطة وضعتها المؤسسات الإسرائيلية لكيفية التعاطي مع وكالة الغوث مستقبلا، وقد انقسمت الى مراحل ثلاث: «تشويه صورة الاونروا في اعين المانحين، عدم السماح للاونروا بتقديم خدماتها بشكل مباشر، خاصة في القطاع وطرح منظمات دولية بديلا عنها، ونقل كل مهام وكالة الأونروا إلى الهيئة التي ستحكم غزة بعد انتهاء الحرب والغاء الاتفاقة الموقعة من الاونروا. وقد عبر الامين العام للامم المتحدة عن رفضه لهذه الخطة لأكثر من سبب منها: «ان كافة منظمات الأمم المتحدة غير مهيأة لتولي المسؤوليات التي تقوم بها الاونروا، وان الكلفة التشغيلية للاونروا اقل بكثير من كلفة تشغيل وكالات اممية اخرى، ومثال ذلك ان»التكاليف مع الأونروا أقلّ بكثير من التكاليف مع الوكالات الأخرى. فالرواتب التي تدفعها الأونروا تمثّل ثلث الرواتب التي تدفعها اليونيسف أو برنامج الأغذية العالمي أو منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة».
رغم ذلك واصلت اسرائيل حلمتها، ولم تترك وسيلة من وسائل الضغط الا ولجأت اليها، فمارست كل اشكال التحريض الذي طال جميع مكونات الوكالة، سواء ما له علاقة بالبرامج والسياسات او المناهج التعليمية والموظفين والمنشآت، حتى وان كان التحريض مضللا ويفقتر الى المصداقية، لكن الرسالة كانت بجعل هذه المنظمة الدولية موضع تشكيك دائم لاضعاف الثقة الدولية بدورها تمهيدا لنزع مكانتها السياسية والقانونية التي يتأسس عليها حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، وفقا لقرار تأسيسها رقم 302 الصادر عن الامم المتحدة في كانون الأول 1949.
لقد فشلت اسرائيل في كافة محاولاتها التي هدفت، كما ذكر المفوض العام في اكثر من مناسبة، الى نزع الشرعية عن وكالة الغوث. لكن فشل تلك المحاولات لم يكن يعني للحظة طي ملف الحرب على الوكالة، بل استمرت اسرائيل وحلفاءها في حربها بأكثر من شكل. واطلق القرار الجماعي لنحو 18 دولة في بداية عام 2024 بتعليق التمويل ناقوس خطر قد يتواصل ويتفاعل اخلال الاشهر القادمة، حتى ولو ان معظم الدول استأنفت تمويلها، نتيجة الاحراج الذي تسببت به اسرائيل بعدم تقديمها ما يثبت صحة اتهاماتها ضد وكالة الغوث..
التطور الجديد الذي يُخشى منه هو ما اعلنته دولتان مانحتان قبل ايام بتقديم دعم مالي كبير لمنظمات دولية غير وكالة الغوث، ما يؤشر الى خطر داهم يجب التصدي له منذ الأن على المستويات الدولية والعربية والفلسطينية. فقد اعلنت حكومة السويد مثلا إنها ستتوقف عن تمويل وكالة الغوث وستزيد بدلا من ذلك إجمالي المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر قنوات أخرى (72.44 مليون دولار). كما اعلت الحكومة اليابانية انها ستقدم مساعدات جديدة لفلسطين (بنحو 100 مليون دولار أمريكي)، وسيخصص هذا المبلغ لدعم السلطة الفلسطينية، والرعاية الصحية، والمأوى، والتعليم، والدعم النفسي والاجتماعي، والصناعة، وتوفير الغذاء، وذلك من خلال منظمات دولية غير وكالة الغوث.
على اهمية الدعم الياباني والسويدي، لكن استثناء وكالة الغوث من هذا الدعم يضع اكثر من علامة استفهام حول صدقية الموقف لهاتين الدولتين اللتين ما زالتا حتى اللحظة تؤكد دعمهما السياسي للاونروا، بل ان تكريس المنظمات البديلة عن وكالة الغوث يشكل شراكة مباشرة مع اسرائيل في موقفها من وكالة الغوث. فاسرائيل ومنذ العام 2017 تدعو الى استبدال الاونروا بمنظمات بديلة تقدم الخدمات الى اللاجئين الفلسطينيين نيابة عنها، وهي لهذا السبب، لا غيره، استهدفت مخازن ومقرات الاونروا في قطاع غزه ودمرت مدارسها ومقراتها الصحية وقتلت العشرات من موظفيها، ومنعتها من ممارسة دورها في اسرائيل وغير ذلك من اجراءات كان هدفها منع الاونروا من اداء وظيفتها ووضع العالم امام امر واقع يقود بالنهاية الى ايجاد منظمات دولية تقدم الخدمات الى اللاجئين بما يساهم في الخلاص التدريجي من وكالة الغوث..
في العام 2022 قال المفوض العام لوكالة الغوث: «من الممكن حل المشكلة من خلال تقديم الخدمات من منظمات دولية نيابة عن الأونروا»، وقد جوبهت هذه المواقف برفض رسمي وفصائلي وشعبي فلسطيني واسع دفعت المفوض العام الى اعلان التزامه بنص المادة 18 من القرار 302 التي تشير الى التعاون والتنسيق مع منظمات الامم المتحدة وليس تقديمها الخدمات نيابة عن الاونروا. وما اثار قلق اللاجئين ان تصريحات المفوض العام بشأن «امكانية» احالة الخدمات الى هيئات الامم المتحدة التقت مع مواقف علنية لرئيس وزراء العدو نتن ياهو عام 2017 عندما دعا صراحة الى الغاء وكالة الغوث واحالة خدماتها الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين..
يبدو واضحا ان اعلان المفوض العام التزامه بنص المادة 18 لم يكن كافيا ولم يردع اسرائيل وبعض الدول من تكرار محاولاتهم ايجاد منظمات بديلة تقدم الخدمات نيابة عن الاونروا، وهنا تكمن خطوة الحكومة السويدية، والتي رغم انها اعلنت ان سبب خطوتها وقف تمويل الأونروا هو الحظر الإسرائيلي الذي سيجعل توجيه المساعدات للفلسطينيين عبر الوكالة أكثر صعوبة، اي المعنى المراد ان السويد لم تتصرف وفقا لسياستها الخارجية المعلنة بدعم وكالة الغوث ووفقا للقيم التي تلتزم بها خاصة حقوق الانسان والعدالة.. بل استنادا الى امر واقع تعمل اسرائيل على فرضه والسويد تجاوبت معه.
هناك بعض الفلسطينيين من يحاول دفن رأسه في الرمال حين يطمئن ويعتبر ان القرار 302 ما زال يشكل حماية للوكالة التي ما زالت تحظى بثقة الاسرة الدولية داخل الجمعية العامة للامم المتحدة، وان كنا نوافق على صحة هذا الاستنتاج بشكل نسبي، لكن الذي يحصل ان استهداف وكالة الغوث يأتي عبر عناوين ليس من ضمنها الغاء القرار 302، بل من خلال التحريض على الوكالة، موظفين ومناهج تعليمية..، وعبر دفع الدول المانحة لقطع تمويلها عن الوكالة، وبالتالي فما يجري هو العمل على انهاء الوكالة من داخلها وافراغها من اي مضمون سياسي واجتماعي واقتصادي بالضغط على الدول المانحة لوقف تمويلها لتتقدم المنظمات الدولية كبديل عن الاونروا. وهنا تكمن الخطورة في الدعم السويدي والياباني بتوجيهه الى منظمات بديلة، بما يساهم في مخطط نزع الشرعية عن وكالة الغوث.
الدعم السويدي والياباني وغيره من كافة الدول المانحة هو امر مقدر ويجب زيادته ليكون منسجما مع الاحتياجات المتزايدة، غير ان المطلوب هو دعوة الدول المانحة التقليدية والمستجدة الى التوازن في توزيع مساهماتها المالية على الاولويات الاساسية للاجئين، ومن خلال الاونروا وليس منظمات بديلة.. لأن تكرار هذا الامر وتعميمه على دول مانحة اخرى من شأنه ان يحقق الهدف الاسرائيلي الفعلي، وهو افراغ وكالة الغوث من مضمونها من خلال التمويل وجعلها وكالة مفلسة، وهذا ما سيدفع ببعض الدول المانحة الى توجيه مساهماتها المالية باتجاه منظمات بديلة بذريعة الصعوبة في ايصال الخدمات الى مستحقيها، كما بررت السويد موقفها. وبالتالي بدلا من معاقبة اسرائيل على خرق التزامها وتعهداتها بعدم احترام ميثاق الامم المتحدة وتسهيل عمل منظماتها، يتم تقديم هدية من الدول المانحة لاسرائيل بتسهيل مخططاتها، رغم يقينها ان هذه المخططات لا تستند الى اي سند قانون او سياسي..
ان ما يجب التأكيد عليه هو ان القوانين والقرارات التي اتخذتها اسرائيل، وان كانت تشكل خطورة كبيرة ونقلة نوعية في التعاطي مع واحدة من اكثر منظمات الامم المتحدة شمولية وعملانية، خاصة لجهة تداعياتها السياسية والانسانية، الا ان تأثيرها على حق العودة سيبقى محدودا، خاصة اذا ما توافرت الارادة لدى الامم المتحدة والدول الداعمة للوكالة وولايتها، وفي رفض القوانين والاجراءات الاسرائيلية، وعدم التعاطي معها وجعلها امرا واقعا. فحق العودة لا يستمد قوته فقط من وجود وكالة الغوث، على اهمية وجود الوكالة. وقد جاء رد الامم المتحدة على رسالة اسرائيل بالغاء اتفاقية المقر لعام 1967 ومواقف العديد من المسؤوليين الدوليين لتؤكد على جملة من البديهيات: رغم الخطورة التي يشكلها قانون الاونروا والغاء اتفاقية المقر، كونه سيزيد من المعاناة الانسانية للاجئين الذين يعتمدون على خدمات الاونروا بشكل كامل، الا انه لن يؤثر على وجود الوكالة الموجودة بتفويض اممي. كما ان حظر عمل الوكالة سيعني ان اسرائيل كونها السلطة القائمة بالاحتلال ستكون هي المعنية عن الجوانب الانسانية للاجئين في الضفة وقطاع غزه..
بالرغم من كل ذلك، لا يجب التقليل من خطورة الحرب الاسرائيلية على وكالة الغوث التي تشكل احدى المكانات التي يتأسس عليها حق العودة، وما طرحته القوانين الاسرائيلية هو فتحها لمعركة جديدة ستضاف الى سلسلة المعارك الوطنية التي يخوضها الشعب الفلسطيني. لأن اسرائيل، وان كانت قادرة على ان تفرض تطبيق القانون بقوتها العسكرية والاحتلالية في الضفة الغربية وقطاع غزه، فهي غير قادرة على المس بوكالة الغوث وشرعيتها وتفويضها الدولي، ما يجعل من هذه المعركة معركة رابحة بالضرورة كونها معركة الدفاع ليس فقط عن قضية اللاجئين وحق العودة والاونروا، بل وايضا معركة الدفاع عن الامم المتحدة وقراراتها، بل صدقية المنظومة الدولية برمتها..