طوفان الأقصى لم يكن مغامرة ..لمن يتجاهلون حقائق التاريخ ومسار الصراع مع الإحتلال

أكتوبر 29, 2024

منذ السابع من أكتوبر العام الماضي واندلاع معركة الطوفان ، تعالت بعض الأصوات فلسطينيا وعربيا التي تعتبر الطوفان مغامرة غير محسوبة لم تأخذ بعين الإعتبار موازين القوى المختله بشكل كبير لصالح دولة الإحتلال في ظل الدعم اللامحدود لها من قبل الأمريكان والدول الأنجلوسكسونية ، ويتباكون كل ساعة – وبعد مرور عام على حرب الإبادة التي يشنها الإحتلال على شعبنا خاصة في قطاع غزة وانتقلت لاحقا للضفة ثم إلى العدوان على لبنان – يتباكون على القتلى (الشهداء) وعلى حجم الدمار وعذابات الشعب الفلسطيني ، محمّلين صراحة أو تلميحا أو ضمنا المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن ما وصلت إليه الأمور بسبب المعركة التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر.
ومع الأسابيع الأولى من عدوان الإحتلال على قطاع غزة ، ارتفعت أصوات نشاز إعلامية وبعض أوساط القيادة السياسية الفلسطينية تدعو إلى محاسبة المقاومة على مغامرتها وتسببها للآلام التي يعيشها شعبنا في القطاع ، وفي الآونة الأخيرة بدأت تعلوا بعض الأصوات لأشخاص كانوا محسوبين على الإتجاهات التقدمية واليسارية الذين يكتبون أو يصرحون في مقابلاتهم مع بعض الوكالات الإعلامية والقنوات الإخبارية، أن المقاومة الفلسطينية قد أخطأت في السابع من أكتوبر عندما خاضت معركة هي أشبه بجولة حرب وليس فعلا مقاوما، أي أنها مارست فعلا ليس من اختصاصها فالحرب تكون بين دول، وأن إسرائيل أقدر على شنّ الحروب وكأنها تقر أن من حق إسرائيل أن تعتبر هجوم السابع من أكتوبر حربا شنتها المقاومة عليها، وهذه المواقف من جهة تبرر ضمنا الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني ، ومن جهة أخرى تبرر للنظام العربي الرسمي والدول الغربية الداعمة للعدوان موقفها العاجز أو االمتخاذل أو الشريك في العدوان على شعبنا، ومن جهة ثالثة تحمل هذه المواقف ضمنيا المسؤولية عن المجازر التي ترتكبها دولة الإحتلال للمقاومة.
إن هذه المواقف بغض النظر عن اختلاف المنطلقات عند مطلقيها ، تتجاهل عن عمد العديد من حقائق التاريخ وتلك المتعلقة بمسار الصراع مع دولة الإحتلال وأهمها:
أولا: إن حرب الإبادة هذه أبعد بكثير من مجرد ردة فعل على الطوفان أو انتقام من غزة والمقاومة أو بسبب خسارة إسرائيل صورة الردع التي سلبها إياها الطوفان في السابع من أكتوبر ، بل إن هذه الحرب تأتي في سياق المخطط الإسرائيلي الذي كان ينفذ من قبل على مراحل ضمن مخطط الضم وحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني الذي جاهرت به آخر ثلاث حكومات يمينية في إسرائيل ، وقطع الطريق على الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الإستقلال، وما الجرائم اليومية التي ترتكبها حكومة الإحتلال والمستوطنين في الضفة إلا دليل على ذلك .
ثانيا: إن التحول الهائل في الرأي العام العالمي والزلزال الذي أحدثه الطوفان على المستوى الدولي لصالح قضيتنا التي كادت أن تنسى والعزلة التي تعيشها دولة الإحتلال غير مسبوقة ، حتى باعتراف محللين غربيين وإسرائيلين يقرّون بأن إسرائيل أصبحت دولة منبوذة ومارقة ، بل إن بعضهم يعتبر أن طوفان الأقصى هو بداية لتغيير نظام العالم ، وإن الرأي العام الدولي (دولا وشعوبا ومؤسسات) ، هو مكون وعامل وجزء مهم من ميزان القوى بين شعبنا ودولة الإحتلال ، وهذا التحول الذي تم التعبير عنه بسيل الإعترافات بدولة فلسطين وبتعاظم المقاطعة وحركة الجامعات الأمريكية والعالمية وغيرها من التعبيرات والأشكال هو نتيحة مباشرة لطوفان الأقصى وليس إنجازا خالصا للديبلوماسية الفلسطينية كما تدعي.
ثالثا: إن العلاقة الطبيعية بين الشعب المحتل والإحتلال هي علاقة الصراع والتناحر، وليس العلاقة القائمة على التعايش والخضوع والوهم بالسلام المخادع الممزوجة بالإدانات والإستنكار والمناشدات – التي لم يستمع لها أحد في العالم – لوقف الإحتلال عن الجرائم التي يرتكبها ، فالعالم لا يستمع إلا للأقوباء، والمقاومة التي يخوضها شعبنا والمقاومات العربية المساندة ، أظهرت أن شعبا قويا مقاوما جدير بأن يكسب احترام العالم بمقاومته وصموده ، وبالتالي فإن النتائج السياسية الإيجابية ستظهر على المدى المتوسط، وسيتمكن شعبنا من قطف ثمارها في حال غادرت بعض الأوساط السياسية القيادية الفلسطينية مربع الرهان على الإدارة والحل الأمريكي ، وتم استعادة الوحدة الوطنية واستجماع عناصر القوة لدى شعبنا .
رابعا: هؤلاء المتباكون والذين يعتبرون المقاومة فعلا مغامرا تغافلوا عمدا ، تجارب حركات التحرر التي قاومت الإستعمار والإحتلال والثمن الباهظ والتضحيات الكبيرة التي قدمتها شعوبها ، ولنا في التاريخ الحديث عبرة ودروس ، وهنا لن نتحدث عن التجربة الفيتنامية والجزائرية العظيمتين ، لكن تجربة ومعركة ” لينينغراد ” هي الأكثر شبها بالحرب على غزة ومن شأنها أن تعطي من يريد أن يتعلّم درسا، فلينينغراد حوصرت طيلة أكثر من عامين بدءا من شهر أيلول 1941 من قبل قوات النازية الألمانية ، ورافق حصارها قتل وحرب تجويع تماما مثلما ترتكب دولة الإحتلال في غزة ، ومع ذلك رفضت الإستسلام وصمدت وقدّمت أكثر من مليون ونصف مقاوم روسي ضحّوا دفاعا عنها وانتصرت في النهاية.
خامسا: أيضا تغافل المتباكون على شعبنا الذين يعتبرون أن التضحيات التي يقدمها هي بلا مقابل ، أن قطار التطبيع مع دولة الإحتلال كان ينطلق بسرعة فائقة ، وأن المملكة السعودية بكل الرمزية والمكانة الدينية التي تتمتع بها كانت على وشك إعلان التطبيع ، وأن دولا إسلامية أخرى أهمها أندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم ، كانت تنتظر السعودية لتلحق بها وكذلك بنغلادش ودول أخرى عربية وإسلامية، وأن وزيرين إسرائيليين زارا السعودية خلال العشرة أيام التي سبقت معركة طوفان الأقصى ، وصرّح أحدهما بأنه لم يشعر بالراحة والأمان في أي مكان في العالم مثلما شعر به في السعودية.
صحيح أن الطوفان ربما لم يوقف مسار التطبيع نهائيا ، لكنه نقل وبدّل الصورة في المنطقة العربية من حالة الهرولة نحو إسرائيل والإستجابة للضغط الأمريكي من أجل بناء حلف ناتو عربي في مواجهة البعبع الإيراني المزعوم، إلى صورة مختلفة تماما تصاعدت فيها المناهضة الشعبية للتطبيع وبدأت تؤثر في مواقف الدول المطبعة أو التي كادت فالسعودية على الأقل في مواقفها المعلنة على لسان وزير خارجيتها، تشترط ذلك بمسار يؤدي إلى إقامة دولة فلسطبنبة ( مجرد مسار قد يعيدنا إلى تجربة أوسلو ) ، وآخر تجليات هذه الصورة الإدانة التي عبّرت عنها هذه الدول للهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران قبل أيام.
في النهاية: نقول للمتمترسين وراء مواقفهم الهابطة… شعبنا بمقاومته يواجه حربا همجية وحتما سينتصر، والحروب تقاس وتقيّم بنتائجها وليس بالثمن الذي تدفعه الشعوب ومقاومتها … ولولا ذلك لما انتصرت أي حركة تحرر وطني في العالم.
على الأقل أصمتوا.