في ذكرى الرحيل… أنطون سعادة… في ذكرى مفكر قومي كبير
خيارات المشاركة
المقالات

فهد سليمان | الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
في ذكرى مفكر قومي كبير، شاء القدر أن يكون زعيماً
ينظر كثير من المؤرخين، وعلماء الإجتماع، إلى الزعيم أنطون سعادة، على أنه مفكر وقامة سياسية سامقة، جاء إلى ساحة النضال الوطني والمجتمعي، متجاوزاً عصره؛ فقد وجد نفسه، وهو يطرح أفكاره التقدمية، الإصلاحية الجذرية، يصارع نخباً سياسية تقليدية محافظة، أو حتى رجعية، تقلدت مواقعها في إدارة شئون بلدان المنطقة، تحت سقف الدوائر الإستعمارية، الساعية لإفراغ مفهوم الإستقلال من جوهره السيادي، لصالح تبعية سياسية إقتصادية للغرب الإستعماري.
لذلك، لا غرابة أن تتحالف هذه التيارات السياسية على اختلاف مشاربها، متجاوزة الخلافات فيما بينها، كما وقع في سوريا ولبنان، وتحيك مؤامرة مكشوفة، لتنهي حياة الزعيم، عبر إغتياله في 4/7/1949 بقرار قضائي تعسفي، مُعد مسبقاً من أعلى المرجعيات، نفذته السلطات الحاكمة ما أن صدر.
الزعيم أنطون سعادة إستشهد، لكنه لم يفارقنا، بل بقي بفكره معنا، لا نكتفي باستحضاره في مناسبات ولادته أو إستشهاده، بل هو راهن الحضور عبر الفكرة التي أطلقها وصارت مشروعاً سياسياً يدب على الأرض، ممثلة بحزبه؛ الحزب السوري القومي الإجتماعي.
لقد زرع الزعيم سعادة بذرة في وعي الناس، أفراداً، ومجتمعاً، وأمة، وصارت البذرة شجرة باسقة، قاومت الرياح العاتية، وتحدتها، بحيث صار الحزب السوري القومي الإجتماعي ركناً من أركان حركة التحرر الوطني والإجتماعي في المنطقة، ضد سياسات الهيمنة الغربية، وضد المشروع الصهيوني ممثلاً بإسرائيل.
وككل مفكر مبدع، لا تندثر أفكاره حتى بعد رحيله، آمن سعادة بالإنسان، باعتباره أساساً لبناء المجتمع، وبالمجتمع باعتباره مكوناً للأمة، أي بتعبير آخر، آمن بدور التنظيم كرافعة للبناء والتغيير، وهو المفكر المطلع على تجارب الشعوب والأمم والقوميات الأخرى، وفي القلب منها «الأمة السورية» كما يُعرِّفها إنطلاقاً من معطيات الوجود في الزمان والتجذر في المكان.
وهو الذي نظر إلى واقع «الأمة السورية» كونها تعيش تحت وطأة «وعد بلفور»، الذي شَرَّعَ أبواب فلسطين أمام الهجرات اليهودية في سياق إنجاز المشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل، كما وكونها – أي «الأمة»- تعاني من تفاهمات «سايكس – بيكو»، التي مزقت المنطقة إلى كيانات سياسية عدة، تحكمها نخب سياسية، تنتمي وفرة منها إلى الإقطاع السياسي، أو إلى النخب العسكرية المنشغلة بصراعات السلطة على حساب توطيد أركان الوطن، أو تلك التي مدت يديها إلى المشروع الصهيوني، تتآمر معه، لتقاسم فلسطين، باعتبارها غنيمة سياسية مستباحة.
ورغم أن الفكر السوري القومي الاجتماعي، تعارض لفترة مع الفكر القومي العربي، ومع فكر الاشتراكية العلمية، إلا أنه شق طريقه، ونجح في تطوير أدواته السياسية والحزبية، واندمج في خندق النضال، جنباً إلى جنب، مع باقي القوى والتيارات السياسية، مدركاً أهمية إنتمائه إلى حركة التحرر في المنطقة، وضرورة إخراجها من التخلف والإنقسام والتفتت، الذي أبقاها فريسة للإنتداب الإستعماري الفرنسي والبريطاني، مؤهلة في كل مرحلة للاستتباع في ظل هيمنة الغرب على منطقتنا.
البذرة التي زرعها الزعيم سعادة، لم تكتفِ بطرح مشروع الأمة السورية، بوحدتها، بل إهتم بتجديد الوعي، شعاره «التوليد لا التقليد»، ما أسهم في التأسيس لثورة فكرية، شعارها «العقل لا النقل». لقد أسهمت هذه الثورة في مقارعة الأفكار المفوَّتة، الهادفة إلى تفتيت المجتمع إلى أقوام وأديان ومذاهب وملل ونحل، بدلاً من توحيده في ظل مشروع إستقلالي قومي جامع بأفق تقدمي.
لذلك، لا غرابة أن يدعو الزعيم إلى تجاوز حدود الأفكار البالية التي يقوم عليها الإنتماء الهوياتي الضيق، لصالح الإنتماء إلى المجتمع بكليته، وإلى الأمة بأسرها، وأن يرى في هذه الأفكار المفوَّتة، وخاصة عندما تتمأسس بأي من الأشكال، قوة شد عكسي، توغل في إلغاء التحولات الثورية في الفكر والوعي، إن لم نقل تعطلها.
بقي أن نقول أن الزعيم سعادة، لم يكن شهيد تآمر النخب السياسية المنصاعة فحسب، بل كان في واقع الأمر، شهيد فلسطين. لقد قرأ الزعيم مبكراً خطر المشروع الصهيوني على مشروع نهضة الأمة في عين المكان، أي على فلسطين، ولبنان وسوريا، والأردن والعراق، فدعا مبكراً إلى محاربة هذا المشروع قبل استفحاله، وقبل أن يشتد عوده ويتحول إلى خطر داهم على شعوب المنطقة بأسرها.
ما لم يدركه البعض، والبعض المتنفذ غالباً، بعد النكبة، أدركه الزعيم، قبل وقوعها، لذا إحتل المشروع الصهيوني بمخاطره على الأمة، موقعه المتقدم في وعيه، ومن هنا إهتمامه بتظهير ما يمثله من تهديد وجودي يستدعي المسارعة إلى توفير شروط إجهاضه قبل أن يتحول إلى قوة سيطرة وتسلط، مسنودة بالغرب.
من هنا، كان إنخراطه في القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، على رأس أعضاء حزبه الذين شكلوا أحد فصائل القتال في فلسطين.
وفي هذا السياق، أدرك أنطون سعادة بعد النكبة، الأثر البليغ لهذ الحدث الكبير على مصالح الأمة، ومستقبلها، ووحدتها، وانشغالها بدرء الخطر الصهيوني على صناعة المستقبل المشرق.
ما أسس له الزعيم، في ثلاثينيات القرن العشرين، واستشهد لأجله قبل أن ينتصف القرن بعام، يصونه الآن حزبه، الحزب السوري القومي الاجتماعي، بانخراطه في القتال، ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ وبتبنيه خيار المقاومة، جنباً إلى جنب، مع باقي فصائل المقاومة في المنطقة، قدم الحزب من أجل تحرير لبنان من قوات الغزو الإسرائيلي عام 1982 قافلة من الشهداء، إلى أن اندحر الاحتلال عن الأراضي اللبنانية عام 2000، وما زال الحزب السوري القومي الاجتماعي، في خندق الدفاع عن «الأمة» في وجه العدوان الإسرائيلي، والهيمنة الغربية، مدركاً الواقع المستجد، باعتبارنا نعيش في هذه المنطقة مرحلة تحرر وطني بمواجهة مشروع بناء الحلف الإسرائيلي – العربي، تحت المظلة الأميركية، بدعوى «التكامل الهيكلي» للإقليم، عبر «دمج» إسرائيل في المنطقة، وبناء حلف «الناتو العربي» بمشاركة إسرائيل، بذريعة «التكامل الدفاعي» ضد الفعل الوطني المقاوم المتصاعد فعلاً وتأثيراً على إمتداد الإقليم.
في استذكارنا لسيرته ورحيله إغتيالاً على يد أنظمة التبعية للاستعمار الغربي، نستعيد سيرة قامة فكرية، تحوَّل إبداعها الفكري إلى قوة سياسية فاعلة، إلتف حولها آلاف وآلاف المحازبين والمؤيدين، وانتمت إلى فكر أثبت قدرته على الحياة، هو فكر الزعيم أنطون سعادة.