في ذكرى الرحيل… الياس خوري.. اللبناني، الذي اختار فلسطين قضية
خيارات المشاركة
المقالات
فهد سليمان | الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
منذ الساعات الأولى لصباح 16 أيلول/سبتمبر 1984، تدفق إلى شوارع مخيم شاتيلا وأزقته الضيقة آلاف المواطنين، لبنانيين وفلسطينيين، يحيون الذكرى الثانية لمجزرة صبرا وشاتيلا، في مسيرة حاشدة إلى المقبرة الجماعية للمجزرة، رافعين الأعلام اللبنانية والفلسطينية، وسار في ركاب التظاهرة التي شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت للمرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1982، قادة سياسيون، ومؤسسات اجتماعية، وكتّاب، و صحافيون محليون وأجانب، ومن هؤلاء كان يسير في المقدمة كاتب وروائي وصحافي وصاحب كلمة جريئة، اسمه الياس خوري.
عاش الياس خوري في مطلع شبابه المرحلة الذهبية لبلده لبنان. وفي تلك الأيام، انطلقت الحركة الوطنية اللبنانية بتعدديتها وحيويتها الدافقة، بخطى ثابتة نحو ارتياد آفاق التحرر الوطني والديمقراطي في دولة المواطنة والحرية والمساواة. وترافقت معها انطلاقة مقاومة الشعب الفلسطيني، رداً على هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967، وبدأت الحالة العربية تعيش منعطفات سياسية تحت وطأة الهزيمة، وفي ظل النهوض الشعبي في المنطقة. وفي المقابل، لجأت أطراف التحالف الأميركي – الإسرائيلي إلى تحريك أدواتها وأتباعها والملتحقين بها، والمتضررين من النهوض الجماهيري الكبير، والإطلالة القوية للأفكار والمشاريع التحررية الوطنية الديمقراطية في الإقليم. وفي قلب هذا التحرك في لبنان، كان الياس خوري يعيش في كنف عائلته في بيروت، التي انقسمت سياسياً، حتى قبل اندلاع حرب السنتين 1975 و1976، إلى شرقية وغربية، حيث نفوذ الأحزاب الوطنية اللبنانية في الغربية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية.
وأدرك حينها أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد بندقية أُشهرت في مواجهة هزيمة حزيران/يونيو والرد عليها فحسب، بل أيضاً هي حركة تحرر وطني، تشكلت في مراحل النهوض والصمود الكبرى، وهي حليفة حركات التحرر العربية، وإحدى أهم حركات التحرر في العالم. كما رأى في الانتماء العضوي إلى هذه الحركة الوطنية مخرجاً له من الغوص في معازل الانتماءات الضيقة، وحلاً عملياً لإثبات خطأ ادعاء الطائفة – الطبقة؛ فلا هذه في الغربية، ولا تلك في الشرقية، طبقة، إنما هما صراع نفوذ على هندسة نظام سياسي لم تستقر أوضاعه منذ الاستقلال.
وشكّل ميدان الصحافة الفلسطينية التي ازدهرت في بيروت في زمن النهوض والصمود الفضاء الفسيح ليعبّر فيه الياس خوري عن نفسه وفكره وصدق انتمائه إلى عروبته برؤية تقدمية وطنية. وقد احتل مكانة مميزة في عالم الصحافة الفلسطينية، حتى اعتقد كثيرون أنه فلسطيني، أو لبناني من أصول فلسطينية، إذ رأوا فيه نموذجاً للمثقف الذي يقرن الوعي بالعمل، ولا يكتفي بالدفاع عن أفكاره وقناعاته في مساجلات المنتديات – على قيمتها – بل أيضاً يندفع إلى الميدان، مساهمةً منه في تحقيقها.
لقد دافع خوري عن قناعته ويقينه السياسي بالرواية والقصة والمقال؛ فكان أديباً كما كان سياسياً، وكان روائياً بقدر ما كان مؤرخاً عبر الرواية، وكان ناقداً يحوّل قلمه إلى سوط يجلد به الانحراف السياسي الرسمي عربياً ومحلياً، ويملك الشجاعة في قول كلمته بالوضوح الكافي من دون دوران، وبعيداً عن أي حسابات خاصة.
وقدّم في هذا السياق نموذجاً في رؤيته لما يتوجب على الكاتب والمثقف أن يكون حين انتمى إلى الكتيبة الطلابية، الفلسطينية الانتماء، والتعددية التكوين – إن لم تكن الأممية – والتي أرادت ونجحت في أن تقدّم تجربة رائدة، جمعت في صفوفها عشرات المثقفين من أهل القلم وغيرهم، الذين حوّلوا قواعد العمل الفدائي إلى حاضنة للفكر وتعميق الوعي النقدي في جوهر المشروع الوطني الفلسطيني.
بعد أن غادرت قيادة المقاومة الفلسطينية بيروت في أواخر آب/أغسطس 1982، بعد 87 يوماً من القتال والحصار، عاش القاطع الغربي من العاصمة اللبنانية أياماً عصيبة من القمع بمختلف الأشكال والأساليب، وطالت بيئة المقاومة من فلسطينيين ولبنانيين، فمنهم من اختار الانزواء، أو الانضواء، أو الاغتراب الموقت عن البلد، ومنهم من صمد وكافح وثبت. أمّا الياس خوري، فعلى الرغم مما تعرض له من مضايقات، واستدعاءات لتحقيقات هدفها ترهيبه ودفعه إلى التكيف أو الرحيل، فقد بقي صامداً متشبثاً بموقفه، ولم يتخلَ عن قلمه أو خطابه السياسي، وبقي أميناً لالتزامه، ووفياً لأفكاره، التي كان يدرك أنه يمكن أن يدفع يوماً ما ثمنهاً غالياً، كما دفعه كثير ممن طالتهم اليد السوداء.
لذلك، عندما انطلق في مقدمة مسيرة إحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، كان يحتفي بانتصاره على الوعي الانعزالي، الذي أراد إغراق بيروت في دهاليزه المظلمة، وبأنه استعاد عاصمته بيروت، باعتبارها عاصمة تتيح للشعب الفلسطيني أن يعبّر عن وطنيته وانتمائه، ويمارس فيها الشعب اللبناني حريته في انتمائه إلى قواه الوطنية، والتحامه بالقضية الفلسطينية.
لم يكن خوري مجرد روائي يكتب الرواية من أجل إشباع رغبته في الكتابة، بل أيضاً جعل من روايته رسالة يتوجه بها إلى من يعتبرهم قراءه وشركاءه في الوعي والانتماء، وكان يكتب من قلب الحدث، وليس من منظار الرؤية عن بُعد، كما كان يعيش الرواية قبل أن يكتبها، كما في رواية «باب الشمس» التي صارت عملاً سينمائياً ناجحاً. وعلى الرغم من عمق إدراكه لجوهر القضية الفلسطينية وتفاصيلها، فإنه عمد إلى التحضير لها، ليس عبر المراجع المكتوبة، إنما بالعودة إلى المرجع الحقيقي للقضية؛ العيش في خيمة القصص في المخيم، فأجرى في مخيم برج البراجنة، في ضاحية بيروت الجنوبية، عشرات المقابلات، انتقل فيها من عمق إدراكه للقضية الفلسطينية إلى عمق إدراكه للإنسان الفلسطيني بما ينطوي عليه من مشاعر وأحلام، ويستبطنه من تمنيات وتطلُع إلى الحاضر والمستقبل. وهكذا، كانت «باب الشمس» صورة شديدة الواقعية في تصويرها للإنسان الفلسطيني، الذي الجوهر والأساس في قضيته الوطنية.
كما أنه لم يكن مجرد صحافي يبحث لنفسه عن دور، بل أيضاً كان يعتبر الصحافة ميداناً للنضال اليومي، ولعله عبّر عن هذا النزوع الذي كان يبحث عن منبر عبر تولّيه إحدى المهام الرئيسية في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، ومنها دوره في استدامة صدور «مجلة الدراسات الفلسطينية» وإغنائها بالملفات ومحاور النقاش، وإعلاء اتجاهها السياسي الوطني والثقافي، وحمايته من أي تلونات سياسية يمكن أن تنزلق بين الأسطر.
الياس خوري، أيها الصديق الراحل الباقي، على ضريحك وردة بيضاء.