«حرب الإبادة» في الشهر الأخير من عامها الأول
خيارات المشاركة
المقالات
معتصم حمادة | عضو المكتب السياسي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
مع دخول حرب أكتوبر 23 التي فجرتها عملية «طوفان الأقصى» في 7/10/2023، الشهر الأخير من عامها الأول، تدخل القضية الفلسطينية طوراً جديداً، تبدو ملامحه واضحة في قطاع غزة، كما في الضفة الغربية، يقوم على خطة إسرائيلية، يتم العمل على تطبيقها بأساليب مختلفة، عسكرية، سياسية، إستيطانية، قانونية وأمنية، تهدف مجتمعة إلى تسريع «حسم الصراع» مع شعبنا، في سباق محموم مع الزمن، في ظل إعتقاد أن الفرصة باتت سانحة لمثل هذا الحسم، الذي شكل العنوان الأبرز المعمول به لبرنامج حكومة الفاشية الإسرائيلية، منذ اللحظة الأولى لتوليها مقاليد السلطة في إسرائيل، في اليومين الأخيرين من العام 2022. وفي قراءة المشهد بلوحاته المختلفة، نعرض التالي:]
(1)
الضفة الغربية: في إطار معركة «الحسم» ..
إستحثاث مخطط الضم
على أرض الضفة الغربية، إنطلقت معركة «الحسم»، بسلسلة من الإجراءات الميدانية على يد حكومة نتنياهو، تمثلت في ضم المنطقة «ب» إلى المنطقة «ج»، وفرض السلطة الإسرائيلية عليها، باعتبارها باتت جزءاً من دولة الإحتلال، فاقتصرت صلاحيات السلطة الفلسطينية الإدارية – عملياً – على المنطقة «أ»، ما يوازي 18% من مساحة الضفة، في ظل إجراءات إضافية قَلَّصت إلى حد كبير من صلاحياتها هذه، بما في ذلك رخص البناء، وربط المواطن الفلسطيني مباشرة بالإدارة المدنية لسلطة الإحتلال، دون المرور بوزارة الشئون المدنية للحكومة الفلسطينية، وتجريد بعض الوزارات الأخرى من صلاحياتها، فضلاً عن إخضاع المنطقة «أ»، حيث مركز ثقل السلطة الفلسطينية لمزيد من الإجراءات الإسرائيلية.
وفي عالم الأرقام، للدلالة على إجراءات الضم المتسارع، نحو زرع المستوطنات في أنحاء الضفة، وخنق المدن والبلدات الفلسطينية بأطواق من المستوطنات والطرق الإلتفافية، والحواجز، و «المحميات الطبيعية» على أنواعها، والمواقع العسكرية، كشفت «حركة السلام الآن» الإسرائيلية في آخر إصداراتها، ما أطلقت عليه «ثورة الضم الإسرائيلية» لابتلاع الضفة، حيث أوردت الوقائع التالية:
• أنشأت حكومة نتنياهو، منذ 7 أكتوبر، أكثر من 25 بؤرة إستيطانية، معظمها بؤر زراعية، وجرى تعبيد عشرات الطرق تمهيداً لإقامة بؤر إستيطانية أخرى، والاستيلاء على أراضٍ جديدة، كما تم تحويل 2.413 دونماً إلى أراضي دولة، أي ما يساوي نصف الأراضي المعلن عنها بهذه الصفة، منذ «إتفاق أوسلو» حتى الآن. وأشارت «الحركة» إلى خطط لإقامة 8.721 وحدة سكنية في المستوطنات، كما وافق مجلس الوزراء على إنشاء 5 مستوطنات جديدة، جميعها بؤر إستيطانية غير رسمية، بهدف تحويلها إلى مستوطنات رسمية، كما تم في مجلس التخطيط الأعلى، قوننة وضع 3 بؤر إستيطانية كأحياء للمستوطنات القائمة، وتم الإعتراف بـ 70 بؤرة إستيطانية «غير قانونية»، أنها باتت مؤهلة للتمويل الحكومي، والبنية التحتية، وربط هذه البؤر بشبكة المياه والبنى التحتية الأخرى.
• كذلك نشرت «الحركة» خطة لبناء مستوطنة في الخليل شمال كريات أربع، تضم 234 وحدة سكنية، ونبهت «حركة السلام الآن» إلى توثيق 1.100 حادثة إعتداء من المستوطنين ضد الفلسطينيين، وطرد حوالي 1.392 فلسطينياً من 23 تجمعاً من منازلهم، بسبب عنف المستوطنين، الذين تعمدوا إتلاف 4.650 شجرة وشتلة، كما إستشهد 11 فلسطينياً على يد المستوطنين.
• وبشأن توسيع الاستيطان ذكرت «الحركة»، أن الحكومة الإسرائيلية ضاعفت موازنة وزارة المستوطنات، والأموال المخصصة لدائرة المستوطنات، وللمستوطنات. وعن نقل السلطات المتعلقة بالمستوطنات من الجيش إلى مسؤول تحت رئاسة سموتريتش، وزير المال والوزير المقيم في وزارة الدفاع، الذي عَيَّنَ مستوطناً في منصب سماه النائب المدني، ليصبح فعلياً حاكم المستوطنات، التي لم تَعُدْ تتبع للإدارة المدنية لجيش الاحتلال، بل مباشرة لوزارة سموتريتش المعنية بشئون الإستيطان وعموم القضايا المدنية.
• كما ذكرت «الحركة» أنه تم إغلاق مئات الطرق المؤدية إلى القرى الفلسطينية على يد جيش الإحتلال، وأحياناً من قبل المستوطنين. وتم منع الفلسطينيين من الوصول إلى عشرات آلاف من الدونمات من الأراضي الزراعية، كما يمنع المستوطنون الفلسطينيين من زراعة مساحات واسعة، تقع بالقرب من المستوطنات، ويتم ذلك من خلال حواجز ترابية يقيمها المستوطنون أو حواجز لجيش الإحتلال.
• كذلك هدمت إسرائيل 1.205 مباني فلسطينية، مما أدى إلى فقدان أكثر من 2.500 فلسطيني لمنازلهم، وأوضحت أنه تم هدم 874 منزلاً بذريعة عدم الحصول على تراخيص من إسرائيل، كما تم هدم 293 مبنى على يد الجيش الإسرائيلي خلال عملياته في الضفة، و 38 مبنى كـ«إجراء عقابي»، و 1.027 مبنى في الضفة الغربية، وهدم 178 مبنى في القدس الشرقية المحتلة.
بالمقابل، تصاعدت أعمال المقاومة بمختلف أشكالها، والمسلحة منها بشكل خاص، في أنحاء الضفة الغربية، وباتت تشكل ظاهرة ثابتة من ظواهر مقاومة الشعب الشاملة، في مواجهة تغول سلطات الإحتلال وتسريعها في تطبيق إجراءات الضم.
تحتضن هذه المقاومة، حالة شعبية متحفزة، تواقة إلى المزيد من الصدام مع الإحتلال، ولعل آخر ما شاهدناه في طولكرم من موقف جماهيري شجاع في الدفاع عن المقاومين، ضد تدخل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وتورطها في الصدام مع المقاومة، يشكل نموذجاً، من شأنه بتقديرنا أن يتكرر في أكثر من مكان.
غير أن ما يتوجب قوله، في هذا المجال أن الحركة الجماهيرية المندفعة إلى المواجهة، ما زالت تفتقر إلى مركز توجيه واحد تمثله القيادة الوطنية الموحدة، وإلى أشكال التأطير الميداني، والبنى الإجتماعية التي عبرها يمكن إحداث نقلات متتالية بزخم الحركة الجماهيرية، وأشكال تصديها للإحتلال، والوقوف في وجه محاولات السلطة الإنزلاق إلى الفتنة.
في مواجهة هذه التطورات بات الشعار الرئيس للمرحلة، هو استنهاض وتأطير كل أشكال المقاومة ضد الإحتلال، وقد بات واضحاً إلى أي مدى تذهب حكومة نتنياهو في تطرفها وتغولها ضد شعبنا، ويمكن العودة إلى خطابه المشين أمام الكونغرس الأميركي -21/7/2024، وكيف إستقبل من قبل غالبية أعضاء الجسم التشريعي الأميركي بغرفتيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، لندرك حقيقة أهداف الإحتلال، التي باتت مطروحة بقوة على طاولة العمل الحثيث لتطبيقها، فلا مكان لدولة فلسطينية في الضفة الغربية، ولا إنسحاب من القدس الشرقية المحتلة، ولا تفكيك للإستيطان، ولا مكان لحق العودة في أي حل، وكل الأرض الفلسطينية، ما بين النهر والبحر، هي ملك لليهود، وحدهم يملكون حق تقرير المصير عليها.
إذن، هو إعلان حرب توازي في مخاطرها، حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وصولاً إلى تصفية المشروع الوطني الفلسطيني، ولأهدافه المشروعة، وإعدام للكيانية الوطنية الفلسطينية، وهذا ما شهدنا وقائعه في الأسبوع الأخير من الشهر العاشر عبر الحملة العسكرية التي شَنَّها العدو على مخيمات شمال الضفة ومدنها بإسمها الكودي: «مخيمات صيفية».
(2)
التصعيد في الضفة الغربية:
حملة «مخيمات صيفية»
في الأسبوع الأخير من شهر آب/أغسطس، إنتقلت الهجمة الإسرائيلية في الضفة الغربية، في معركة الحسم، إلى مرحلة جديدة، في عملية عسكرية، طالت مدن شمال الضفة ومخيماتها، تحت اسم «مخيمات صيفية»، دل في مضمونه أن المستهدف الرئيس هو مخيمات اللاجئين (طولكرم + جنين + نور شمس + الفارعة + بلاطة)، حيث تتمركز مجموعات المقاومين الفلسطينيين على مختلف إنتماءاتهم.
في هذه العملية التي حشدت لها إسرائيل آلاف الجنود والضباط (فرقة بتعداد 15 ألف جندي) والعديد من الآليات والجرافات والطائرات الحربية والمسيَّرات، تهدف إسرائيل إلى تصعيد مواجهتها للحركة الشعبية الفلسطينية، وتعزيز هيمنتها على الضفة الغربية، وتهيئة المسرح للتوغل، في إزالة العراقيل أمام مشروعها في حملة الحسم.
■ وفي الوقت نفسه، تدرك إسرائيل، بخبرة إجتياحها للضفة الغربية إبّان حملة «السور الواقي» – 2002، أن مخيمات اللاجئين، هي «بوابات المدن» الفلسطينية، وأن «تكنيس» المدن، وتجريدها من عناصر الحالة الوطنية الناهضة، ومفاصل الحركة الشعبية، يتطلب أولاً، وبالضرورة، الإمساك بالمخيمات والقضاء على المقاومات الناهضة في أزقتها وعلى مداخلها، وبذلك تحقق إسرائيل هدفين أولهما: عسكري، يفتح الطريق أمام إجتياح المدن والسيطرة عليها؛ وثانيهما: تبديد الأوضاع المؤطرة للاجئين، وتشريدهم في أكثر من مكان، في سياق إصرارها على تصفية حق العودة، إلخ …
لا شك أن عملية «مخيمات صيفية» مرحلة جديدة في الصراع مع إسرائيل، تؤكد أن الحرب الهمجية التي يشهدها قطاع غزة، إنتقلت إلى الضفة الغربية، حيث المحور الرئيس الذي يقوم عليه مشروع الضم بأسلوب «الحسم»، وإقامة دولة إسرائيل الكبرى، الأمر الذي يضع عموم الحركة الوطنية، كما يضع السلطة الفلسطينية أمام إستحقاقات سياسية كبرى ومصيرية.
(3)
قطاع غزة: الفشل العسكري والتعنت السياسي
تدخل حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، شهرها الـ12، وتتأهب لإتمام عامها الأول، حيث تبدو، طبيعة المأزق الإسرائيلي، بين جيش يقاتل ضد أهداف غامضة، غير مرئية، وبين قيادة سياسية تمعن في التعنت والتهرب من الضغوط الخارجية، للوصول إلى وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى بين الجانبين الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية.
لقد بدا التناقض واضحاً بين شعار رئيس حكومة الفاشية، تحقيق ما يسميه «النصر المطلق» من خلال القضاء على المقاومة، واعتقال قادتها، واستعادة الأسرى الإسرائيليين بالقوة. في الوقت الذي تؤكد فيه القيادة العسكرية أنه لم يعد لديها في القطاع، أهداف ذات قيمة عسكرية ذات شأن، وأن على القيادة السياسية الوصول إلى إتفاق، ينهي الحرب ويعيد الجيش الإسرائيلي إلى ثكناته، ويعود جنود الإحتياط وضباطهم إلى الحياة المدنية.
تكبد جيش الغزو البربري لقطاع غزة خسائر فادحة، وباعتراف قيادته، خسر الجيش حتى الآن أكثر من 650 قتيلاً، وتدمير أكثر من 550 آلية، وإحالة أكثر من 9 آلاف ضابط وجندي إلى العلاج النفسي، وإصابة أكثر من 3 آلاف جندي وضابط بإعاقات دائمة، حسب الإعلانات الرسمية الإسرائيلية، بما في ذلك تمرد جنود الإحتياط على الأوامر، ورفضهم الإستدعاء مرة أخرى إلى ساحة القتال.
لقد أثبتت الوقائع، أن جيش الإحتلال، لم يكن يقاتل المقاومين الفلسطينيين، بل كرر في حربه في قطاع غزة، ما سبق أن إقترفته العصابات الصهيونية في عام 1948، حين استهدفت المدنيين، فارتفعت أعداد الشهداء في القطاع إلى أكثر من 50 ألف شهيد (بمن فيهم المفقودين تحت الركام)، وحوالي 100 ألف جريح، منهم حوالي 11 ألفاً فقدوا أطرافهم السفلية، وباتوا في حالة إعاقة دائمة، وأكثر من 11 ألفاً آخرين، مهددين بالموت للإفتقار إلى العلاج، بعدما دمر جيش الإحتلال المستشفيات، والمنظومة الصحية في القطاع.
تعتبر الحرب الإسرائيلية في القطاع، أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ نشأتها، دون أن تنجح في تحقيق ما أعلنته من أهداف، كالقضاء على المقاومة، واستعادة الأسرى بالقوة، وتهجير السكان إلى الجوار المصري، والاستيلاء على القطاع، حزاماً أمنياً لما بات يسمى «دولة إسرائيل الكبرى»، أي ما تسميه قيادة نتنياهو تحقيق النصر المؤزر على الشعب الفلسطيني ومقاومته.
ولا تتبدى في الأفق المباشر، أية نوايا لدى حكومة نتنياهو لوقف الحرب، وهي تراهن على وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، باعتباره أكثر إنحيازاً لـ«إسرائيل»، وأكثر «حسماً» ضد التطلعات الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، فضلاً عن مصالح حزبية وشخصية لدى الليكود وحلفائه، من شأنها أن تديم الحرب.
لقد أدمنت حكومة نتنياهو خلال فترة الحرب على إتباع مناورات مكشوفة لإجهاض كل مشاريع التهدئة، والدعوة لوقف الحرب، بما في ذلك مشروع التهدئة الذي قدمه للرأي العام الرئيس الأميركي بايدن- 31/5/2024 (راجع الملحق)، على أنه إقتراحات إسرائيلية، وتبناه مجلس الأمن لاحقاً في قراره الرقم 2735-10/6/2024، ووافقت عليه حركة حماس – 2/7/2024؛ بل على العكس من كل هذا، وبالتضاد مع آلية «الوقف الفوري والتام لإطلاق النار» في المرحلة الأولى لقرار مجلس الأمن، و«الوقف الدائم للإعمال العدائية» في مرحلته الثانية، واصلت حكومة نتنياهو التصعيد في محاولة لتوسيع دائرة الحرب، ونقلها إلى مرحلة جديدة، لتطال الإقليم كله، حين أقدمت على اغتيال فؤاد شكر – 30/7، القائد العسكري الأبرز في حزب الله، وأقدمت بعدها بساعات، وفي الليلة ذاتها – 31/7 على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية/ حماس، في مقر إقامته الرسمي في طهران، حيث كان يقوم بزيارة لها للتهنئة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية الإسلامية.
ولا يمكن قراءة هذا التعنت الإسرائيلي، بعيداً عن أشكال الدعم وأساليبه التي تقدمها لإسرائيل الولايات المتحدة، منذ اللحظة الأولى لاندلاع حرب 7 أكتوبر، من حشد للأساطيل البحرية والجوية، وبناء جسر جوي، لنقل المعدات والأسلحة والذخائر والعتاد، وتوفير المعلومات الإستخبارية عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والإقليم، خاصة على جبهات الإسناد والمشاغلة الجدية في لبنان والجولان، واليمن، وكذلك في إيران، فضلاً عن الدعم السياسي غير المحدود في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والضغط المتزايد على الجنائية الدولية، للتراجع عن قرار إستدعاء نتنياهو وغالانت بتهمة إرتكاب جرائم حرب.
(4)
المقاومة والقدرة على التجديد والصمود
واجه الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة، حرب الإبادة الجماعية بصبر فريد من نوعه، وثبات أسطوري، أذهل العالم، وكشف – بالمقابل – عن طبيعة المشروع الصهيوني، باعتباره مشروعاً فاشياً، يقوم على العداء المستحكم للشعب الفلسطيني، وعلى أطماع وشراهة توسعية لا تقف عند حدود، وتستهدف إبادة الشعب نفسه، أو إرغامه على الهجرة وتشريده في أنحاء الكون، وتحويله إلى شعب لاجيء، فاقد الجنسية على طريق إفقاده هويته الوطنية، بعد خسارته الأرض التي يمارس عليها حقه في تقرير المصير بحرية.
نجحت المقاومة، بدعم وإسناد شعبي غير محدود، لا بل غير مسبوق، في التصدي للحرب الهمجية للعدو الإسرائيلي، وألحقت به خسائر فادحة، لم يستطع أن يخفيها عن أعين الشارع الإسرائيلي، أو أنظار العالم، كما نجحت في إحباط أهدافه المعلنة، ففشل في إستعادة أسراه لدى المقاومة بالقوة، كما فشل في القضاء على البنية التحتية للمقاومة، التي راكمت خلال 11 شهراً من القتال، خبرات واسعة، مكنتها من إبتداع أساليب قتالية جديدة، زرعت الرعب في قلوب جنود العدو وضباطه، كذلك أفشلت القوة التدميرية لآلياته، وأفشلت دعواها باعتبارها من أفضل ما أنتج عالم السلاح من دبابات وناقلات جند وغيرها …
وأكدت المقاومة، في هذا السياق، قدرتها على مواصلة تصنيع الأسلحة والذخائر، في ظل حصار خانق أغلق عليها طرق الإمداد، فاستعاضت عن ذلك بإبداعات إنتاجية، نجحت خلالها في إعادة إنتاج ذخائر العدو نفسه، إلى أسلحة تدميرية، تحولت إلى عبوات متفجرة، أدت إلى تدمير عشرات الأبنية على رؤوس جنوده وضباطه، وحولت آلياته إلى خردة وحديد صديء.
ما كان لهذا الصمود البطولي للمقاومة، خلال 11 شهراً، في مواجهة أقوى الجيوش تسليحاً في المنطقة، أن يتحقق لولا الوحدة الميدانية، التي أبدعتها المقاومة، بين أجنحتها العسكرية المختلفة، ولولا روح الوحدة الوطنية والتساند، والتشارك في توفير الذخائر والمعدات والتخطيط والتنفيذ.
كذلك ما كان لهذا الصمود الأسطوري للمقاومة أن يتحقق، لولا الإلتحام الجماهيري غير المحدود معها، ولم يعد سراً القول أن المقاومة نجحت بفصائلها المختلفة، في تعويض خسائرها البشرية، من قادة ومقاتلين، إما بترقية فورية للقادة في الميدان، أو بتجنيد مئات الشباب الذين إلتحقوا بصفوف المقاومة، وقد أدركوا بعمق شديد، أن السبيل الوحيد لصون حياة عائلاتهم، وكرامتهم الوطنية، هو الإنخراط في مقاومة الإحتلال، في الميدان، وإفشال أهدافه المكشوفة.
على الصعيد الشعبي، وفي السياق نفسه، قدم أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مشهداً غير مألوف، حين قاوموا، ليس جيش الاحتلال فحسب، بل وكذلك الحصار، والتهجير، والجوع، والعطش، وحين تحملوا بصبر مدهش كتم آلام وداع الشهداء، وكتم آلام الجراح، ورفض الإستسلام أو الركوع، أو فقدان الثقة بالنفس، أو التشكيك بحتمية النصر، وإفشال أهداف العدو، وبأن المعركة التي يخوضها شعب فلسطين لن تختتم إلا بالظفر بالحقوق الوطنية المشروعة، والتمتع بالحرية، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على حدود 4 حزيران/يونيو 67، وضمان حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
إن هذا ما يستدعي إلى جانب سياسات تصليب عناصر الصمود والثبات، ولكي يكتمل، إمتلاك إستراتيجية سياسية كفاحية، ترتقي بتوجهاتها إلى مستوى البطولة التي أبداها الشعب، ومستوى التضحيات التي قدمها في صموده، ما قبل حرب أكتوبر وما بعدها على نحو خاص.
(5)
إسرائيل الأكثر عزلة دولياً
أدت حرب 7 أكتوبر، فيما ما أدت إليه، إلى إدخال دولة الإحتلال بعزلة دولية غير مسبوقة، ما جعلها في مصاف الدول المارقة، التي لا مقعد لها في المحافل الدولية، إلا حيث توفر لها الولايات المتحدة ومن يساوقها في الغرب الإمبريالي، الغطاء السياسي الكثيف عبر سياسة الضغط والبلطجة.
في الأيام الأولى لحرب 7 أكتوبر، نجحت إسرائيل في تجديد تحيّز من يناصرها عادة، بدعوى أن ما قامت به المقاومة، يندرج في باب الإرهاب، وأثبتت قدرتها على تشويه الحدث، والتغطية، عبره، على ما قامت به قوات الاحتلال، من مجازر شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكأن 7 أكتوبر هو البداية، وليس حلقة في سلسلة صراع مديد، بين المشروع الصهيوني الإحتلالي الإستعماري، وبين المشروع الوطني الفلسطيني، وحق الشعب الفلسطيني في الحرية والإستقلال وتقرير المصير.
غير أن الحقيقة، سرعان ما بدأت تتبدى بوضوح أمام أنظار العالم، أسهم في هذا التحول، عدد من التطورات أبرزها:
1- الوحشية المفرطة التي لجأت إليها قوات الاحتلال، وتحويل حربها من مواجهة المقاومة والمقاتلين، إلى حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتقويض مرتكزات الحياة الآدمية فيه.
2- إنكشاف حقيقة الأكاذيب التي روجت لها إسرائيل عن أعمال وحشية، نسبت زوراً إلى المقاتلين في إقتحامهم «غلاف غزة».
3- إنكشاف حقيقة أن عدداً كبيراً من الذين قتلوا في الإقتحام الفلسطيني، من الإسرائيليين، إنما سقطوا برصاص جيش إسرائيل نفسه، في ظل حالة الفوضى والإرباك التي سادت صفوفه في الـ12 ساعة الأولى من الحرب، إلى جانب ما تتيحه عقيدة «هنيبعل» للجيش الإسرائيلي في إستباحة لحياة الجنود والمواطنين، سواء بسواء، في حال تعرضهم لاحتمال الأسر.
4- سقوط هيبة إسرائيل أمام عظمة الصمود الفلسطيني، والإستنجاد الإسرائيلي بالأساطيل الأطلسية البحرية والجوية والإستخباراتية وغيرها، التي سرعان ما هبّت لنجدتها.
5- رفض إسرائيل الإستجابة لمحاولات الوصول إلى وقف إطلاق النار، وإنجاز صفقة متوازنة، وإنكشاف نواياها في إحتلال القطاع، وطرد سكانه وتهجيرهم، في سياق مشروع إقامة دولة إسرائيل الكبرى.
6- إنحياز العدالة الدولية، ممثلة بمحكمة العدل الدولية، في قرارها الاستشاري الأول بالدعوة إلى وقف الأعمال العدائية، والثاني بالتأكيد على عدم مشروعية الإحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، والضفة والقدس، والثالث التأكيد على أن ما تقوم به إسرائيل في القطاع هو حرب الإبادة الجماعية.
7- عدالة قرار محكمة الجنايات الدولية، في الجانب المتعلق باتهامها القيادتين السياسية والعسكرية لإسرائيل، بالاسم، بإرتكاب جرائم حرب.
8- التأييد الشعبي الواسع، الذي عبرت عنه شعوب الأرض في العواصم الكبرى، في تأييد حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وضرورة وقف العدوان الإسرائيلي وإدانة «جرائم الحرب» التي يرتكبها.
صحيح أن كل هذا الإنحياز إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأن كل هذه العزلة التي أصابت إسرائيل، لم تلجم حربها ضد الشعب الفلسطيني، ولهذا أسبابه ومنها:
• الطبيعة العنصرية الوحشية والفاشية للمشروع الإسرائيلي على خلفية تجمع ما بين إفتقاد نخبه السياسية – بكل عام – إلى الكوابح الأخلاقية الرادعة لنزعة الإجرام، وبين القلق الوجودي المتأصل في وعي الجماعة المغتصبة لحقوق الأصلانيين من أبناء البلد، وإحساسها العمييق بأنها دخيلة على المكان.
• الدعم غير المحدود من الولايات المتحدة في المحافل الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وإن كان هذا الدعم أبرز، في الوقت نفسه، عزلة الولايات المتحدة نفسها دولياً، حين كانت تقف معزولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى جانبها عدد من الدول المجهرية على غرار ميكرونيزيا.
إن الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، تقابله العزلة الدولية لدولة إسرائيل، هو واحد من المكاسب الكبرى لشعب فلسطين ومقاومته، يفترض أن يشكل إحدى أهم القواعد التي توفر له الشروط لإطلاق إستراتيجية سياسية كفاحية جماعية موحدة، نالت الشرعية الدولية، حتى قبل إطلاقها، شقت لها الطريق دماء أكثر من 150 ألف شهيد وجريح، ودمار أكثر من 80% من القطاع، وتضحيات أخرى غير منظورة منها الجوع والعطش وعذابات الأسرى، وآلام المرضى، وآلام فراق الأحبة والأشقاء والأبناء والآباء والأمهات والأصدقاء…
(6)
القضية الفلسطينية من الهامش إلى محور الإهتمام
باعتراف الوقائع الدامغة، إنتقلت القضية الفلسطينية بعدما يقارب العام، من المواجهة الشاملة ضد الغزو البربري لقطاع غزة إلى محور الإهتمام.
قبل «طوفان الأقصى»، كان محور الإهتمام الأميركي في المنطقة ينصب على تعميم التطبيع العربي – الإسرائيلي من بوابة الرياض، بما يعزز مشروع دمج إسرائيل في المنطقة، سياسياً، إقتصادياً، ثقافياً وأمنياً، وصولاً إلى إقامة حلف «ناتو» عربي بالمرجعية العليا لواشنطن وتل أبيب، ما من شأنه أن يعزز الهيمنة الأميركية على الإقليم، ويضعف، إلى حد كبير النفوذين الروسي والصيني، ويحاصر الجمهورية الإسلامية في إيران، وقوى المقاومة العربية في لبنان وسوريا، واليمن والعراق، وتهميش القضية الفلسطينية، ويهبط بالمصالح الفلسطينية من كونها حقوقاً وطنية مشروعة، إلى مجرد ترقيعات إقتصادية ومالية تُقدم للسلطة في رام الله، بانتظار الإفراج الأميركي عن مشروع «حل الدولتين»، الذي بدأت ملامحه تزداد غموضاً، وعناصره تنحدر، بحيث الإشتراط الإسرائيلي لتعريف «الدولة» – أو بقاياه يضحى هو المعيار الرئيس، إن لم يكن الوحيد، لقيام «الدولة» الفلسطينية، التي لن تكون بمواصفات «الدولة» في كل الأحوال، في إطار حل إسرائيلي، يقوم على مبدأ «إسرائيل الكبرى» على كامل الأراضي الفلسطينية.
بعد 7 أكتوبر، بدأت المعادلات والتوازنات السياسية تأخذ منحى مختلفاً، فقد تعرضت إسرائيل، بزعم قادتها إلى خطر وجودي، حين وجدت نفسها في معمعة غير منتظرة، إشتعلت نيرانها في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، وعلى الحدود الشمالية مع جنوب لبنان، وفي الجولان، واليمن، وبحدود معيّنة في العراق، وصارت القضية الفلسطينية هي محور الحدث اليومي، في الحسابات الإسرائيلية والإقليمية، والدولية، خاصة في واشنطن، وعواصم أوروبا الغربية.
إحتلت القضية الفلسطينية المحافل الدولية والمؤتمرات الإقليمية، كما إنتقلت إلى الشارع في الولايات المتحدة، كما في أوروبا، وعدد محدود من العواصم العربية، واستعادت القضية الفلسطينية موقعها، كقضية شعب تحت الاحتلال، تهدد نيرانها إستقرار الأوضاع الإقليمية، ما يضعها على حافة حرب شاملة، وباتت المعادلة الدولية شديدة الإرتباط بالقضية الفلسطينية، بما يستجيب للحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، لأنها هي السبيل الوحيد لضمان الإستقرار والهدوء في الإقليم.
ما كان لهذا التطور، فائق الأهمية أن تشهده القضية الفلسطينية، لولا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في القطاع والضفة الغربية، ولولا إعتماده خيار المقاومة الشاملة، وطيّ ملف خيارات الإستجداء والتذلل والرهانات الفاسدة، ولولا وحدة الشعب والمقاومة في الميدان، وما ألحقه ذلك من خسائر فادحة في الجانب الإسرائيلي، عكس نفسه، تداعيات سلبية مَسَّت الأوضاع الإقتصادية في إسرائيل، وصولاً إلى خفض إئتمانيته، مَسَّت تماسك المجتمع وثباته، وعَمَّتْ الإحساس بعدم الاستقرار، وسقوط المعادلة القائلة بأن إسرائيل هي الملاذ الآمن لليهود في العالم، لصالح معادلة معاكسة، تعتبر أن إسرائيل هي المكان الأكثر خطراً على اليهود.
إلى جانب ذلك تكشفت الطبيعة الفاشية للحكومة الإسرائيلية، وارتكابها العمد لـ «جرائم الحرب»، وأن الجيش الإسرائيلي لم يكن يقاتل المقاتلين الفلسطينيين، بل الشعب الفلسطيني الأعزل، كما وفي الإمعان بتدمير البنية التحتية للقطاع، والأحياء السكنية، والمؤسسات الاقتصادية والمصرفية، والثقافية والإجتماعية والتربوية وغيرها …
إن هذه النقلة الإستراتيجية لموقع القضية الوطنية في المعادلات والإهتمامات الإقليمية والدولية، دفع مقابلها الشعب الفلسطيني ومقاومته ثمناً باهظاً، الأمر الذي بات يستوجب إعادة التأكيد علي أن صون هذه التضحيات، والمكتسبات، ويستدعي – في الوقت نفسه إعتماد إستراتيجية سياسية وطنية مكافحة، موحدة وجامعة، وردت عناوينها في قرارات المجلسين الوطني – 2018، والمركزي – 2021، وفي إعلان بكين 2024.
(7)
«اليوم التالي» – إنهاء الإنقسام – إعلان بكين – الإعلان الدستوري
إن الحديث عما يسمى «اليوم التالي» لا يقتصر على قطاع غزة، ومستقبله، بل هو يطال مستقبل المشروع الوطني برمته، فالجانبان الأميركي والإسرائيلي، وإلى جانبهما دول عربية معروفة، يعتبرون هذا «اليوم» هو المحطة، التي ستشهد جني الإحتلال لثمار عدوانه في السياسة، بعد أن فشل في الحرب، وأن يرسم للقطاع مستقبلاً سياسياً، منفصلاً بكل ملامحه عن المشروع الوطني، ويشكل أساساً لحل لا يتجاوز حدود الحكم الإداري الذاتي، بالسيطرة الأمنية الكاملة لإسرائيل، وذلك بالتوازي مع الصيغة القائمة في الضفة، إنما بسقف هابط تحت شعار «السلطة المتجددة»، أي السلطة المستتبعة، وكل هذا في إطار مخطط «الحسم» آنف الذكر.
وبالتالي، لا يمكن مواجهة مشاريع «اليوم التالي»، كما تطرحها الإدارة الأميركية، أو الحكومة الإسرائيلية، أو بعض الدوائر الخليجية، إلا باستراتيجية وطنية فلسطينية جامعة، تقطع الطريق على كل هذا، وتقدم رؤية وطنية عملية، تربط بين مستقبل القطاع من جهة، ومستقبل الضفة من جهة أخرى، باعتبارهما يشكلان معاً إقليماً موحداً للدولة الفلسطينية، وبما يصون مستقبل القضية الفلسطينية والمشروع الوطني، وحسم الصراع مع العدو، في إطار مقاومة شاملة، تؤسس لعملية سياسية ذات مغزى، في إطار مؤتمر دولي، ترعاه الأمم المتحدة، وبموجب قراراتها ذات الصلة، التي تكفل لشعبنا حقه في تقرير المصير، والدولة المستقلة، وحق العودة إلى الديار والممتلكات.
هذا كله كان ماثلاً أمام ما يتوجب أن ينجزه حوار بكين في حلقاته المتكاملة: إنهاء الإنقسام، إطار قيادي وطني موحد ومؤقت، حكومة توافق وطني من الفعاليات لإدارة الأوضاع في الضفة والقطاع، بمرجعية م.ت.ف، وفد فلسطيني موحد لإدارة المفاوضات مع الإحتلال، بالأسس الآنف ذكرها، وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني وإعادة بنائه.
لقد تغلبت الإرادة الوطنية في حوار بكين من 21 إلى 23/7/2024 على إرادة الإنقسام، ونجح الحوار في إستعادة الإطار القيادي الوطني الموحد والمؤقت، وإقرار تشكيل حكومة الوفاق الوطني، لانتخابات عامة من أجل إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، ما من شأنه أن يقطع الطريق على دعوات تشكيل قيادات طواريء، أو ما يشبه ذلك من خارج المؤسسة الوطنية الجامعة.
وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على إيجابية ما توصل إليه الحوار الوطني في بكين لجهة إبراز أهمية إعادة بناء الإجماع الوطني على خيار المقاومة الشاملة بأشكالها كافة، وقطع الطريق على محاولات كشف ظهر المقاومة من خلال ما يسمى «المقاومة السلمية».
إن المهمة الملحة، التي تستدعي التعاون والمشاركة من أوسع القوى السياسية، المؤطرة والمستقلة، هي مواصلة الضغط لدعوة الإطار القيادي المؤقت، للإنعقاد برئاسة رئيس اللجنة التنفيذية وبعضوية أعضاء اللجنة التنفيذية + الأمناء العامون + رئيس المجلس الوطني + شخصيات مستقلة، للشروع في تشكيل حكومة الوفاق الوطني من الفعاليات، لتمارس دورها في تولي شؤون الأراضي المحتلة، بما فيها قطاع غزة.
وبتقديرنا، إن تولي حكومة الوفاق الوطني مسؤولياتها عن أوضاع القطاع، سيملي على الحالة الوطنية، بالضرورة، تشكيل الوفد التفاوضي الفلسطيني الموحد، بمرجعية م.ت.ف، في خطوة لإغلاق الدائرة حول المسؤولية الوطنية الجامعة، لكل ملفات المشروع الوطني الفلسطيني، غير أن تلكؤ القيادة السياسية للسلطة في تحمل مسؤولياتها لترجمة مخرجات «حوار بكين»، أرخى بظلال الشك حول جدية بعض الأطراف في الإلتزام بما تم التوصل إليه في بكين، وهذا ما أثبتته الوقائع اللاحقة، حين أعادت القيادة السياسية ترتيب الأولويات الوطنية الملحة، بالدعوة إلى «تجسيد دولة فلسطين»، عبر إعلان دستوري، وتحويل المجلس المركزي إلى البرلمان المؤقت للدولة، في خطوة يلفها الغموض الشديد، حيث أن الدعوة تجاهلت أية إشارة إلى الموقف من «إتفاق أوسلو» وإلتزاماته وإستحقاقاته، وإلى الصلة المؤسساتية التي تربط بين تحويل المجلس المركزي إلى برلمان مؤقت، وبين الموقع القانوني والتمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ما يوجب، مرة أخرى، التأكيد على أن هذه الخطوة لا تندرج في سياق الضرورات الوطنية الملحة في اللحظة الراهنة، بل إن إعلاء مخرجات بكين، والعمل على ترجمتها، ما زالت هي الأولوية الوطنية التي أجمع عليها الكل الفلسطيني، ممثلاً بـ14 فصيلاً من داخل المنظمة وخارجها.
(8)
السلطة الفلسطينية: الأداء العاجز
على خلفية الإفتقار للإرادة السياسية، ما زال الأداء السياسي للسلطة الفلسطينية يزداد تردياً، يتبدى عجزها وفشلها، تراهن على الوعود الأميركية، بدور لها في «اليوم التالي» لغزة، في ظل شروط تُملى عليها، تجعلها سلطة أكثر طواعية إلى حد يهدد بإحداث فتنة سياسية في الصف الوطني إذا ما استجابت لكل هذه الشروط، خاصة في جانبها الأمني المعروف، والذي يستوجب – من بين أمور أخرى – نزع سلاح المقاومة في القطاع، والتقدم أكثر فأكثر نحو المزيد من «التعاون الأمني» في الضفة الغربية.
وقد تمثلت هذه الشروط، في ما قدمه لها، مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليڤان، من شروط تدعو إلى إعادة بناء الأجهزة الأمنية المؤهلة للإنجرار إلى مهام، تضعها في مواجهة المقاومة والحركة الشعبية، فضلاً عن تغيير برامج التربية والتعليم التي تعيد الأمور إلى تبني «الرواية الإسرائيلية»، وخطابها الإعلامي، وقطع دعمها لعوائل الأسرى والشهداء، وغير ذلك من النقاط، بمسمى «السلطة المتجددة»، ولا زالت هذه الشروط قائمة؛ إلى جانب ذلك، فرض الإتحاد الأوروبي شروطه على السلطة بنفس الوجهة تقريباً، مقابل الدعم المالي الذي وعد بتقديمه، ما يضع السلطة أمام ضغط دائم مثلث الأطراف أميركي – إسرائيلي – أوروبي، يعمق مأزقها ويضعها أمام إستحقاقات من الصعوبة بمكان الإستجابة لها.
إن الرهان على السلطة، في ظل تكوينها القائم وإستراتيجيتها الحالية، هو رهان لا يجدي نفعاً، إلا إذا إستجابت لما تم الإتفاق عليه في مخرجات حوارات موسكو- 2/2024 ولاحقاً بكين– 7/2024، في تشكيل حكومة وفاق وطني من الكفاءات، بمرجعية منظمة التحرير، وتشكل مدخلاً لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وهو الأمر الذي يضع مجموع الحالة الوطنية أمام إستحقاق، عنوانه «حكومة الوفاق الوطني» وجوهره في الأساس، سياسي، من متطلباته الأهم، أن تحرر السلطة نفسها من إستحقاقات إتفاق أوسلو وإلتزاماته، ومما لا شك فيه أن تصعيد الإحتلال لأشكال المواجهة في الضفة الغربية، على غرار «مخيمات صيفية»، وغيرها من أشكال العدوان، من شأنه أن يضع السلطة أمام إستحقاقات شديدة التعقيد، هامش المناورة فيها ضيق جداً، ما يرغمها على حسم موقفها مما يجري، فإما الإنجرار أكثر فأكثر نحو إستحقاقات أوسلو وتقاعسها عن تحمل مسؤولياتها إزاء شعبها، وإما قرارات الشرعية الفلسطينية والمجلس الوطني – 2018، والمجلس المركزي – 2021، ومخرجات «حوار بكين».
(9)
منظمة التحرير.. الموقع التمثيلي المتآكل
لا يقل وضع م. ت. ف عن أوضاع السلطة هشاشة، فالعطالة، أي البطالة شبه المستدامة، صارت عنواناً لنظام عمل مجلسها المركزي، ومكتب رئاسة المجلس الوطني واللجنة التنفيذية، وباقي لجان المجلس، وهي كلها إن إجتمعت، إما أن تفشل في اتخاذ قرارات ذات مغزى، أو تعطل الرسمية الفلسطينية تنفيذ هذه القرارات، مما يبقي الموقع التمثيلي للمنظمة، المتآكل أصلاً، معرضاً لمزيد من الإنكشاف على الصعد كافة، بما فيه الجماهيري، إذا لم تستجب الرسمية الفلسطينية لنداءات الحراكات الشعبية، ولمبادرات القوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية، لإعادة بناء النظام السياسي على قاعدة ديمقراطية، لاستعادة الوحدة الداخلية المؤسساتية، وضخ الدماء الجديدة في شرايين مؤسسات المنظمة، بعد إعادة تشكيلها على أسس ديمقراطية وجامعة، ويتعزز بذلك موقعها السياسي والتمثيلي والقانوني، وبما يضع حداً لسياسة التفرد والاستفراد، وسياسة فبركة هيئات متفردة بديلاً عن اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، وبما يقطع في الوقت نفسه الطريق على الدعوات لفبركة أطر وقيادات وهيئات بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
إن قرار «حوار بكين» إستعادة الإطار القيادي الوطني الموحد، والمؤقت، يشكل مدخلاً، لإعادة الحياة في عملية نضالية شاملة إلى مؤسسات م.ت.ف، وبشكل خاص لجنتها التنفيذية، إلى حين الوصول إلى إستحقاق إصلاح النظام السياسي الفلسطيني وإعادة بنائه.
(10)
إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني
تبقى مهمة إعادة بناء النظام السياسي واحدة من المهام الرئيسية على جدول أعمال الحركة الوطنية والحركة الجماهيرية الفلسطينية، فقد بات النظام السياسي الفلسطيني، نظاماً هجيناً مشوهاً، يفتقر إلى المؤسسات التي من شأنها أن تتولى المهام المستجيبة لاستحقاقات المسيرة الوطنية وتحدياتها، إنه نظام سياسي أسير الجمود، معطل، عاجز عن الإستجابة لمتطلبات النضال الوطني التي تفرضها يوميات المواجهة مع الإحتلال، فهذا النظام، لا يملك استراتيجية نضالية، توحد الشعب وقواه السياسية.
قدمت الجبهة الديمقراطية مبادرة في 16/1/2022، لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، من مدخل توسيع المجلس المركزي، ليضم الكل الفلسطيني، تنبثق عنه لجنة تنفيذية بتمثيل سياسي شامل، وإن كانت هذه المبادرة لا زالت صالحة حتى الآن، لتشكل مدخلاً للحل، إلا أن تعنت الرسمية الفلسطينية وتعطيلها أية مبادرة لإنهاء الانقسام، وإعادة بناء النظام السياسي، أبقاها مجرد فكرة، ورأي، خاصة وأن المنابر التي من شأنها أن تشكل محطة لحوار داخل م.ت.ف، لتناول أوضاعها وإعادة بنائها، معطلة، وهذا ما يطرح علينا السؤال الأصل: كيف يمكن أن نحدث الإختراق المطلوب لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وما هي الشروط الواجب توفرها لإحداث هذا الاختراق؟.
جاء «إعلان بكين» ليقدم آلية واضحة لإصلاح نظامنا السياسي، حيث رسم خارطة طريق تبدأ بعقد الإطار القيادي الموحد والمؤقت، ثم تشكيل حكومة وفاق وطني، ينبثق عنها الوفد التفاوضي الموحد، ومن ثم التمهيد لإجراء إنتخابات، الخ..
إن الحِراك السياسي، الذي يفترض أن يحدثه «إعلان بكين» بمخرجاته المختلفة، إنما يشكل فرصة ثمينة، يخوض فيها الكل الوطني، نضالاته على المستويات المختلفة، لإحداث الخطوات التراكمية التي يمكنها أن توصلنا إلى مرحلة الظفر بنظام سياسي فلسطيني، ترتقي مؤسساته إلى مستوى المسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتقها في إطار إستراتيجية كفاحية موحدة، متحررة من كل الإستحقاقات والإلتزامات، وبما يشق الطريق نحو الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا.
ملحق
قرار مجلس الأمن الرقم 2735
10/6/2024
إن مجلس الأمن،
إذ يؤكد من جديد مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه،
وإذ يشير إلى جميع ما اتخذه في هذا الشأن من قرارات تتصل بالحالة في الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية فلسطين؛
وإذ يشدد على أهمية الجهود الدبلوماسية الجارية التي تبذلها قطر ومصر والولايات المتحدة، بهدف التوصل إلى إتفاق للوقف الشامل لإطلاق النار يتألف من ثلاث مراحل؛
1- يرحب بالإقتراح الجديد لوقف إطلاق النار الذي أعلن في 31 أيار/ مايو، والذي قبلت به إسرائيل، ويدعو حماس إلى أن تقبل به أيضاً، ويحث الطرفين على تنفيذ بنوده تنفيذاً كاملاً دون تأخير ودون شروط؛
2- يلاحظ أن تنفيذ هذا الإقتراح سيمكن من تحقيق النتائج التالية موزعة على ثلاث مراحل:
(أ) المرحلة 1: وقف فوري تام وكامل لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن، بمن فيهم النساء والمسنون والجرحى، وإعادة رفات بعض الرهائن الذين قُتلوا، وتبادل الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة بالسكان في غزة، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى ديارهم وأحيائهم في جميع مناطق غزة، بما في ذلك في الشمال، فضلاً عن التوزيع الآمن والفعال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع في جميع أنحاء قطاع غزة، على جميع من يحتاجها من المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك وحدات الإسكان المقدمة من المجتمع الدولي؛
(ب) المرحلة 2: باتفاق من الطرفين، وقف دائم للأعمال العدائية، في مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن الآخرين الذين يظلون في غزة، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من غزة؛
(ج) المرحلة 3: الشروع في خطة كبرى متعددة السنوات لإعادة إعمار غزة، وإعادة ما يبقى في غزة من رفات أي رهائن متوفين إلى أسر الرهائن؛
3- يشدد على أن الإقتراح ينص على أن المفاوضات إذا استغرقت أكثر من ستة أسابيع للمرحلة الأولى، فإن وقف إطلاق النار سيظل مستمراً طالما استمرت المفاوضات، ويرحب باستعداد قطر ومصر والولايات المتحدة للعمل على ضمان استمرار المفاوضات إلى أن يتم التوصل إلى جميع الإتفاقات، ويكون ممكناً أن تبدأ المرحلة الثانية؛
4- يشدد على أهمية تقيد الطرفين ببنود هذا الإقتراح فور الاتفاق عليه، ويدعو جميع الدول الأعضاء والأمم المتحدة إلى تقديم الدعم في تنفيذه؛
5- يرفض أي محاولة لإحداث تغيير ديمغرافي أو إقليمي في قطاع غزة، بما في ذلك أي إجراءات تقلص من مساحة أراضي غزة؛
6- يكرر تأكيد إلتزامه الثابت برؤية حل الدولتين، الذي تعيش بموجبه دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب، في سلام، وضمن حدود آمنة ومعترف بها، بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ويشدد في هذا الصدد على أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية؛
7- يقرر أن يبقي المسألة قيد نظره