«اسرائيل الديمقراطية».. انتهت!
خيارات المشاركة
المقالات
فتحي كليب | عضو المكتب السياسي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
منذ اليوم اليوم لنشأتها، قدمت الحركة الصهيونية اسرائيل الى العالم الغربي بأنها «واحة ديمقراطية» في محيط عربي وشرق اوسطى استبدادي لا يؤمن بالديمقراطية وقيمها ولا يعرف سوى الانقلابات العسكرية طريقا الى السلطة والحياة العامة، لذلك وجب على الغرب ان يوفر لهذه الديمقراطية كل اشكال الدعم، بغض النظر عن المسار الدموي الذي سلكته لتثبيت دعائم وجودها ، وهو مسار يفترض نظريا انه يتعاكس مع القيم التي يزعم هذا الغرب انه يدافع عنها، وهذا امر تنبهت له الحركة الصهيونية بشكل مبكر، فأحاطت سرديتها بمظلومية تاريخية لا زالت متواصلة حتى الآن.
وبعيدا عن اعتبارات الغرب الاستعماري والامبريالي في قبول هذا التوصيف وحيثياته، ورغم ان الانظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية والعالمثالثية بشكل عام، كانت محصلة لواقع زرعت بذوره الدول الاستعمارية نفسها، عبر قوانين وسياسات واعراف كرست واقف التخلف والتبعية المنزوعة من اية ضوابط، بهدف احكام السيطرة على دول حديثة النشأة لجعلها اسيرة الارتهان والتبعية الابدية لتلك الدول، فقد كان التعاطي مع الحركة الصهيونية مختلفا، لجهة دعم مشروعها في دولة خاصة بيهود العالم، وهو العامل الاول الذي يفسر اسباب حماسة الدول الغربية لوجود اسرائيل وجعلها مختلفة، نظريا، عن المحيط الذي ساهمت هي في نشأته.
واذا كانت السمة العامة للواقع السياسي في منطقة الشرق الاوسط تحديدا هو غياب الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية وغياب التنمية والعدالة الاجتماعية… فان الغرب الاستعماري لا يتحمل فقط مسؤولية مباشرة في خلق هذا الواقع فقط، بل في تأصيله وتحوله الى مؤسسة تشكل عائقا امام اي محاولات تسعى الى التغيير، وقد بات هناك ما يشبه التفاهم او العقد الاجتماعي بين الدول الاستعمارية والنظام الرسمي في المنطقة مفاده: ان هذا النظام يضمن الابقاء على الواقع الراهن لجهة الحفاظ على مصالح الدول الاستعمارية وقمع اية حركات تغييرية تحررية تدعو الى الانفصال والتحرر من آثار الاستعمار، باتجاه دول ديمقراطية مدنية تحترم مواطنيها في اطار تعددية تحترم القانون والنظام او بسياسات جديدة يتم صياغتها بعيدا عن الاسس التي رسمها النظام الدولي، وهذا ما يفسر حقيقة التحالف غير المعلن بين النظام الرسمي العربي مثلا واسرائيل رغم الاختلافات التي تصل الى درجة التناقض بين الطرفين، وفي مقابل ذلك تتعهد الدول الاستعمارية بدعم هذه الانظمة سياسيا واقتصاديا، وبعدم اثارة قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها من عناوين عادة ما تتخذ كذرائع للتدخل في شؤون الدول..
العامل الثاني الذي لا يمكن اغفاله في الحديث عن نشأة اسرائيل، هو حاجة الغرب الاستعمارية لنقطة ارتكاز تضمن له مصالحه في المنطقة بعد انتهاء الاستعمار المباشر، وتكون هذه النقطة هي عين الغرب ويده الطولى في قمع اية حركة تحررية تتمرد على الواقع الذي زرعه الاستعمار نفسه بعد مغادرته، وهذا ما يفسر ايضا اسباب مسارعة الدول الغربية في دعم اسرائيل بعد عملية «طوفان الاقصى»، التي ابرزت حقيقة ان اسرائيل اصبحت عاجزة عن حماية نفسها فكيف لها حماية المصالح الغربية، الامر الي دفعها لأن تأتي بأساطيلها وبوارجها الحربية كي تتكفل هي في حماية هذه المصالح، تحت شعار «الدفاع عن اسرائيل»..
العامل الثالث الذي لا يقل اهمية هو خلاص الدول الغربية، خاصة الاوروبية، من مشكلة اطلق عليها في ذلك الوقت «المسألة اليهودية» بكل المبالغات والتشويش الذي تعرض له اليهود في بعض الدول، خاصة في المانيا الهتلرية، ما جعل قضية الخلاص من هذه المسألة بتصديرها الى منطقة الشرق الأوسط اولوية لدى عدد واسع من الاحزاب والنخب وسياسيي الغرب، الذين اعتقدوا انهم بدعم مطالب الحركة الصهيونية ومخططاتها، انما يتخلصون من «عذاب ضمير»، وفي الوقت نفسه يبعدون عنهم مشكلة كانت تكبر عاما بعد آخر..
لذلك وفي عودة الى الماضي، فان مسألة «العداء للسامية» لم تكن وليدة المسالة الفلسطينية، بل ان القضية الفلسطينية كانت احدى النتائج التي تولدت عن الافكار العنصرية التي طرحتها الحركة الصهيونية منذ ما قبل القرن التاسع عشر، وان الشعب الفلسطيني كان ضحية لهذه الافكار.. وبالتالي فان الحاضنة الاساسية لشعار «العداء للسامية» كان في اوروبا، اما اليهود الذين كانوا يعيشون في الدول العربية والاسلامية فلم يلمس عبر التاريخ انهم عانوا من مظاهر كراهية.. لذلك فمن غير المنطقي ان تكون المنطقة العربية بيئة حاضنة لما يسمى العداء للسامية، وجميع ابناؤها ساميون.. وإذا كان هناك من ممارسات تتسم بالكراهية تجاه اليهود في الغرب، فقد كانت نتيجة لمشكلة طورها الغرب نفسه وسماها المشكلة اليهودية، وهي قامت اساسا لأسباب تاريخية على علاقة بالمجتمعات الاوروبية التي كانوا يقيمون فيها وبالدور الاقتصادي الذي لعبته بعض الفئات الاجتماعية اليهودية، ولم يمثل اليهود في حينه مشكلة بالنسبة للشعوب الشرقية.
لذلك لا يمكن النظر الى «ديمقراطية اسرائيل» المزعومة الا في اطار الظروف التي رافقت نشأتها، بعد ان ارتبط وجود اسرائيل بفكر دموي اجرامي سيجته الدعاية الصهيونية بأساطير تاريخية ومزاعم دينية لتبرير سياسة المجازر التي ارتكبت ضد آلاف المدنيين الآمنين من ابناء الشعب الفلسطيني. وبالتالي فان تقييم «الديمقراطية الاسرائيلية»، لا يمكن ان يستقيم خارج اطار الافكار التي استندت اليها الحركة الصهونية في مشروعها، وخارج اطار عمليات الارهاب التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وبدعم مباشر من الدول الغربية الاستعمارية، ضد الشعب الفلسطيني..
فوفقا لمصادرهم، فان اليهود يستمدون «حقهم في فلسطين» من مصدرين اساسيين: ديني وتاريخي. وعلى هذين المصدرين بنيت كل الرواية التي نسجت خيوطها الحركة الصهيونية بحنكة وبالتواطؤ مع الدول الاستعمارية في تلك الفترة، والتي ما زالت تداعياتها متواصلة حتى اليوم واحدى نماذجها شعار ما يسمى «معاداة السامية» التي عرفت وشاع استخدامها قبل ان تطأ اقدام اليهود ارض فلسطين.
ولعل السؤال الذي يحمل اجابة هو: هل يمكن بالمعنى الانساني والحقوقي بناء ديمقراطية، بمختلف اشكالها، على انقاض شعب وارض وارتكاب المجازر بحقه ؟ المنطق الاستعماري الامبريالي يجيب بنعم، ولنا في تجربة بناء الولايات المتحدة نفسها خير مثال، وبمواقف وزيرة الخارجية الامريكية السابقة مادلين اولبرايت عندما قالت في تفسيرها لمقتل الملايين جوعا من اطفال العراق: «ان الثمن يستحق» وايضا مواقف وزير الخارجية الامريكية كوندا ليزا رايس حين بررت قتل المدنيين في جنوب لبنان بقولها: «انه آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد»، وما يحدث الآن في قطاع غزه يكاد يتطابق مع المشهدين العربيين السابقين..
وبغض النظر عن السردية الصهيونية وتساوق الغرب معها، فان «الديمقراطية الاسرائيلية» وما فعلته خلال عقود نشانها، لا يبدو انها جاءت منسجمة مع الافكار والمبادئ التي ما زالت الدول الغربية الاستعمارية تعمل وفقا لها وتدافع عنها، رغم انها تبدو متناقضة في كافة تفاصيلها، حتى وان كان لها منطقها وتفسيرها الخاص في دفاعها عن الديمقراطية وحقوق الانسان وقيمهما. فان أحداث نكبة فلسطين وما رافقها من عملية تطهير عرقي ومن تهجيراكثر من 800 ألف فلسطيني عن ارضهم وبيوتهم، تسقط المنطق المضلل الذي حاولت الحركة الصهيونية وبعض االدول الغربية ترويجه باعتبار «اسرائيل دولة ديمقراطية في محيط قمعي واستبدادي»، بينما الوقع الذي يتكرس في كل لحظة انها، بممارساتها وقوانينها واعرافها، هي دولة احتلال هو الاطول في التاريخ ونظام فصل عنصري لا ينسجم مع الحد الادنى من القيم الديمقراطية وغير ذلك من عناوين تضع اسرائيل في خانة الدول التي تمارس الارهاب في اسوأ اشكاله..
مشهدان منسجمان يؤكدان سقوط كذبة «اسرائيل دولة ديمقراطية»: المشهد الاول حرب الابادة التي ترتكب ضد المنشآت المدنية في قطاع غزه، والتي سقط بنتيجتها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحة غالبيتهم من الاطفال والنساء. فأي ديمقراطية هذه التي تجيز ارتكاب المجازر ضد آمنين، واي منطق يمكن ان يبرر القاء اكثر من 70 طنا من المتفجرات على بقعة جغرافية تعج بالسكان وتعتبر الاكثر كثافة في السكان على مستوى العالم.. والمشهد الثاني اسرائيلي داخلي، سواء قبل العدوان بما اصطلح على تسميته «صراع التعديلات القضائية» حيث برز واضحا ان احدى اسبابه الرئيسية هو مصالح شخصية لمسؤولين سياسيين يسعون الى تفصيل القوانين على مقاسهم الخاص، او لجهة الانقسام السياسي الراهن الذي يؤكد هشاشة وعجز النظام السياسي والديمقراطية في اسرائيل عن معالجة واقع مأزوم نتيجة تداعيات «طوفان الاقصى» حيث تتحكم مجموعة من الفاشيين العنصريين بمصير ومستقبل ليس اليهود فقط، بل مصير المنطقة باكملها..
الى جانب هذا وذاك، كيف يمكن للديمقراطية الغربية والاسرائيلية ان تبرر قتل العشرات من الصحفيفيين واستهداف مقراتهم، وقصف المستشفيات والمراكز الصحية والافران ودور العبادة ومراكز ايواء النازحين، واستهداف قوافل الاغاثة والمقرات الدولية خاصة مقرات وكالة الاونروا. وهي ممارسات يؤصلها فكر استئصالي صهيوني يؤمن بالقتل والمجازر وسيلة وحيدة لتحقيق اهدافه، وبالتالي فان الديمقراطية الغربية، وبغض النظر عن تطبيقاتها الحقوقية والسياسية في بلدانها، فهي باتت بحاجة الى اعادة نظر بالكثير من العناوين التي ظلت حتى وقت قريب تعتبر من البديهيات التي لا يجوز مجرد النقاش فيها، او بالحد الادنى هناك حاجة لتغيير النظرة الى الديمقراطيات المستوردة من الغرب وكيفية تطبيقها خاصة «الديمقراطية الاسرائيلية».
لسنا بحاجة الى استحضار نماذج من هنا وهناك كي نؤكد ان اسرائيل دولة تمارس الفصل العنصري والتطهير العرقي مع الشعب الفلسطيني باقرار مسؤولي الامم المتحدة ومؤسساتها، بما يكذب الادعاء القائل «اسرائيل دولة ديمقراطية مع مواطنيها وعدوانية مع الآخر». وتؤكد الوقائع وعشرات النماذج اليومية ان اسرائيل عدوانية وعنصرية حتى مع مواطنيها، ليس العرب فقط، بل مع اليهود الذين يتوزعون على تشكيلات اثنية وعرقية مختلفة. والعنصرية بهذا المعنى تطال كل اوجه الحياة لدرجة يمكن القول: ان اسرائيل، الدولة والمجتمع، تقدم اسوأ نموذج من نماذج العنصرية بشكليها القديم والجديد، ليس بين اليهود وغيرهم من الديانات والشعوب والامم، بل وفي احيان كثيرة على مستوى اليهود فيما بينهم، وبشكل اشمل تتجه النظرة العنصرية ضد جميع الملونين من عرب وشرقيين وفلاشا وغير ذلك.. ولنا ان نتذكر المقولة الشهيرة لرئيسة وزراء العدو غولدا مائير بأن اليهودي هو فقط من يتحدث «اليديشية».
يحصل كل هذا في ظل ممارسات عنصرية تشرعها قوانين دولة ابارتهايد لا تسرق الحق من اصحابه فقط، بل وتعيد تقديم الرواية التاريخية بشكل مقلوب.. فالارض يهودية لا مكان فيها لغير اليهودي حتى اولئك الذين يحملون جنسية اسرائيل. والفلسطيني في هذه الارض ليس سوى عابر سبيل، رغم تأصله فيها لأكثر من خمسة آلاف سنة من التاريخ المعلوم.. انها العنصرية الصهيونية المتحالفة مع عقلية استعمارية واجرامية انبتت جرائم انسانية لا يمكن ان تتوافق مع قيم سامية لديمقراطية يجب ان تحترم الكرامة الانسانية اولا..
فكيف يمكن التوفيق بين اعتبار اسرائيل دولة ديمقراطية وبين سنها للعديد من القوانين التي تعرّفها باعتبارها دولة يهودية، خاصة قانون القومية (عام 2018) الذي يطرح العنصرية اليهودية بشكلها المؤسسي ويضعها بشكل رسمي كسياسة للدولة ومؤسساتها سواء في مواجهة الآخر او في مواجهة من يصنفون كمواطنين اسرائيليين من غير اليهود. وهو بالتالي يستهدف الفلسطينيين، ليس كشعب فقط، بل كقضية سياسية وقانونية، ويجعل منهم مجرد مجموعات سكانية لا حقوق اصلية لهم بل مجرد مطالب انسانية..
ولعل السؤال المفتاحي في نقاش كذبة «الديمقراطية الاسرائيلية» هو امكانية التوفيق بين دولة ديمقراطية سواء بالمعنى التاريخي، اي في علاقاتها مع الآخر او بالمعنى الحقوقي المتعارف عليه، وعنصرية في الآن ذاته.. لأن العنصرية الصهيونية باتت تطال كل اوجه الحياة في علاقتها مع الآخر وان اسرائيل، وباتت تستمد عناصرها الرئيسية من ثلاثة مصادر هي الدين ووضعه في خدمة المشروع الصهيوني، والاساطير والمزاعم الصهيونية حول حق تاريخي مزعوم لليهود في فلسطين، وابتداع نظريات عنصرية خدمة لهذا الغرض وبعض الافكار الشوفينينة التي انتشرت في أوروبا وحملتها الحركات الفاشية والنازية…
اما القول بأن لاسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها، فهذا يتناقص مع الحد الادنى من معايير الديمقراطية الغربية نفسها.. فالاحتلال لا يمكن ان يتحدث عن اي شيء يتعلق بحق الدفاع عن النفس في مواجهة شعب احتلت ارضه ونهبت املاكه وهجر قسم كبير منه خارج وطنه.. وبالتالي فان المقاومة هي ارقى اشكال الديمقراطية في التعاطي مع المحتل الاسرائيلي. لقد اثمر الدعم الامريكي والغربي للحركة الصهيونية في تطبيق مشروعها القائم على التطهير العرقي وارتكاب جرائم الابادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، كيانا اوغل في ممارسة كل اشكال الارهاب لتأكيد روايته القائمة على خرافات واساطيرات تاريخية ومزاعم دينية لم تنتج سوى كراهية وحروب ستبقى تجرجر نفسها..
ان اسرائيل اليوم هي وكر فاشي وعنصري، ولم يعد جائزا الحديث عن هذا الوكر كـ «دولة ديمقراطية» بعد ان تجاوز في افعاله وسياساته وقوانينه ليس فقط محيطه، بل اسوأ انواع الاستبداد على مستوى التاريخ.. وكر يتحكم فيه عصابة من الفاشيين العنصريين المتحالفين مع الصهيونية الدينية التي تستفيد من الدعم الغربي لتقدم افظع الجرائم التي شهدها التاريخ، يشكل قطاع غزه واحدا منها.. ما يؤكد ان الديمقراطية الغربية باتت ديكورا وستارا يخفي خلفة كل اشكال العنصرية والدكتاتورية والاستبداد في تعاطيها مع الشرق بشكل خاص ومع دول العالم بشكل عام..