السوق السوداء في غزة: حين يصبح البقاء سلعةً في زمن الإبادة
خيارات المشاركة
المقالات

وسام زغبر | عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
في قطاع غزة، لم يعد المواطن يبحث عن رفاهية أو حياة مريحة، بل عن حقه الأساسي في البقاء. ومع ذلك، يبدو أن حتى هذا الحق بات سلعة تُباع وتُشترى في السوق السوداء، حيث تتحول أبسط مقومات الحياة — من أسطوانة غاز إلى كيس دقيق — إلى أدوات احتكار في أيدي المتنفذين، فيما تلتزم الجهات المسؤولة صمتًا يشي بالكثير من التواطؤ.
راقبوا السوق السوداء في غزة خلال زمن الإبادة، وستكتشفون أن الفساد لم ينجُ من تحت الركام. فبينما ينتظر المواطنون رسائل نصية تخبرهم بوصول دورهم للحصول على أسطوانة غاز لا تتجاوز سعتها ثمانية كيلوغرامات، تتحرك الشاحنات في الخفاء، وتُهرَّب المواد من المخازن لتُباع لاحقًا بأضعاف سعرها عبر وسطاء وسماسرة. ليست هذه الحكاية استثناءً، بل تعبيرًا صارخًا عن تحالفٍ خطيرٍ بين الحرب والفساد، بين الحصار الخارجي والانتهازية الداخلية.
ومع انحسار دويّ الطائرات وانطفاء أصوات المدافع، برزت أزمة أخرى لا تقل قسوة: السوق السوداء، التي لم تعد مجرّد ظاهرة اقتصادية طارئة، بل مؤشرًا أخلاقيًا على انهيار منظومة الرقابة والمساءلة. فعندما تتراجع المؤسسات الرسمية عن أداء دورها في حماية قوت الناس، يملأ الفساد الفراغ، ويتحوّل الموت جوعًا إلى وجه آخر للموت تحت القصف.
في زمن الإبادة، تصبح كل سلعة امتحانًا للضمير، وكل مسؤول شاهدًا على معاناة لا تنتهي. ومع ذلك، يتعامل البعض مع الكارثة بمنطق الربح والخسارة، وكأن حياة الناس بندٌ في ميزانية أو معادلة حسابية. المؤلم أن من يُفترض بهم إدارة شريان الحياة في غزة حوّلوه إلى وسيلة ضغط وابتزاز، فبدل أن يكونوا صمّام أمانٍ للمجتمع، أصبحوا صمّام احتكارٍ يُطبق على رقاب الفقراء.
إن مقاومة الاحتلال لا تكتمل دون مقاومة الفساد الذي ينهش جسد المجتمع من الداخل. فالمعركة اليوم لا تدور فقط على الحدود أو في السماء، بل أيضًا في الأسواق والمخازن، حيث يُسرق حق المواطن في الحياة الكريمة أمام أعين الجميع.
من يراقب السوق السوداء في غزة اليوم، يرى انعكاسًا لأزمة سياسية وأخلاقية عميقة؛ واقعٌ مأزوم يعيش على حساب الناس ويتستر على ضعفه بشعارات البطولة. وبينما تُرفع الأصوات باسم الصمود، يبقى المواطن البسيط هو الخاسر الأكبر — يدفع ثمن الحرب وثمن الفساد معًا، في زمنٍ صار فيه البقاء نفسه امتيازًا لا حقًا.