من تحت الركام: غزة تنهض بالحياة رغم الموت

أكتوبر 12, 2025

بعد عامين من حرب الإبادة على قطاع غزة، لم يتبقَّ من بيتي سوى الركام والخراب. لم يكن مجرد بناء من حجرٍ وإسمنت، بل حياة كاملة تناثرت بين الغرف المهدّمة، وصورٍ كانت تروي حكايات الدفء والأمان. لم تنجُ مقتنيات البيت، ولا تفاصيله الصغيرة التي كانت تمنحنا الشعور بالانتماء، كما لم ينجُ القلب من جراح الفقد. فقد خطفت الحرب أحبتنا وأصدقاءنا، ومن بينهم اثنان من أبناء شقيقتي الغاليين، اللذان استُشهدا في مكانين وزمانين مختلفين، لكن في مشهدٍ واحد يوحّد الفقد الفلسطيني: بيت يُهدم، وطفولة تُغتال، وسماء تُطفئ أحلامها.
غزة التي أعرفها لم تكن يوماً عاشقة للحرب، ولا مولعة بالدمار كما يحاول الاحتلال الإسرائيلي أن يصوّرها للعالم. هذه المدينة الصغيرة، المحاصرة منذ أكثر من عقد ونصف، لا تعرف سوى حب الحياة. تغني رغم الحصار، وتزرع الأمل في ترابٍ مُخضّب بالصبر والدموع. في هذه المقتلة الكبرى، أثبتت غزة أنها لا تعشق الموت كما يدّعون، بل تتشبّث بالحياة كما تتشبّث الجذور بالأرض. تُقاوم لا لتنتصر فحسب، بل لتبقى.
البيت الذي تهدّم لم يكن مجرد جدرانٍ ومفروشات، بل كان وطناً مصغّراً نحتمي فيه من قسوة العالم. كان مرآةً لذكرياتنا وأحلامنا ومواسم أفراحنا البسيطة. وحين يُمحى البيت، نشعر وكأن جزءاً من الوطن الكبير يُنتزع من أرواحنا. ومع ذلك، فإن فقدان هذا الوطن الصغير لا يدفعنا إلى الرحيل. لن نمنح الاحتلال ما سعى إليه طويلاً: كسر الإرادة، أو اقتلاع الإنسان من جذوره.
فالاحتلال لا يكتفي بتدمير الحجر، بل يسعى إلى تدمير المعنى ذاته. يزرع الخوف والألم في كل زاوية، ويغلف جرائمه بمصطلحات خادعة مثل «التهجير الطوعي»، وكأن الفلسطيني في غزة يعيش رفاهية الاختيار بين الموت أو الرحيل. وكأننا نعيش في مدينة أفلاطونية مثالية، لا في سجنٍ محاصر تضيق جدرانه علينا كل يوم.
ومع ذلك، تردّ غزة على هذه الأكاذيب بالفعل لا بالقول. فحتى من تحت الردم، تُعيد بناء مدارسها، وتفتح نوافذها للحياة من جديد، وتلوّن شوارعها المهدّمة بضحكات الأطفال الذين عادوا من حافة الموت. غزة لا تموت، بل تعيد اكتشاف نفسها كل يوم، ببطءٍ ولكن بثباتٍ لا يلين.
نعم، تهدّم البيت، وغاب الأحبة، لكن الروح ما زالت هنا. في كل زاويةٍ من الركام تنبت زهرة، وفي كل بيتٍ مهدوم تبدأ حكاية جديدة عن الصمود والإصرار. نحن باقون هنا، لا لأننا لا نملك مكاناً آخر، بل لأننا نملك سبباً لا يُقدَّر بثمن: هذه الأرض لنا، وهنا سنبقى.