من وحدة الدم إلى وحدة القرار

أكتوبر 9, 2025


في لحظة يغرق فيها الشرق الأوسط في غبار الحرب وارتباك السياسات الدولية، يخرج صوتٌ فلسطينيّ واضح من عمق الجرح الوطني، ليقول ما يجب أن يُقال: إن الدماء التي سالت في غزة والضفة لا يجوز أن تذهب هدراً، وإن الوقت حان لانتقال الفلسطينيين من التشتت إلى الوحدة، ومن ردّ الفعل إلى الفعل السياسي المنظم.
ففي السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2025، أطلق فهد سليمان، الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، نداءً عاجلاً موجهاً إلى رئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقيادات قوى المقاومة والحركة الوطنية، يدعوهم فيه إلى التوافق الفوري على تشكيل وفد فلسطيني موحد، يتولى التفاوض مع إسرائيل حول مستقبل الصراع وتطبيق ما يُعرف بـ خطة النقاط العشرين التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن هذا النداء، رغم أنه يبدو سياسياً في شكله، يحمل في جوهره صرخة وطنية عميقة المعنى، تعيد طرح السؤال المركزي: هل نمتلك، كفلسطينيين، القدرة والإرادة على استعادة وحدتنا السياسية في مواجهة محاولات تصفية القضية؟
يأتي هذا النداء في لحظة سياسية شديدة التعقيد، حيث تُعاد صياغة ملامح ما بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وحيث تتكاثر المبادرات والمقترحات الدولية والعربية لتسوية النزاع وفق مقاربات مختلفة، تتراوح بين الإغاثة الإنسانية والإدارة الأمنية إلى ما يسمى بـ«المسار السياسي».
وفي خضمّ هذا الزحام، يُحذّر فهد سليمان من أن غياب الموقف الفلسطيني الموحد يمنح إسرائيل فرصة ذهبية لتفكيك أي خطة دولية، وتحويلها إلى مراحل أمنية وإدارية تُفرغها من مضمونها السياسي. فالخطر الذي يراه الأمين العام للجبهة الديمقراطية ليس في نصّ الخطة ذاتها فحسب، بل في الطريقة التي تُدار بها.
إسرائيل، كما يشير سليمان، تسعى إلى تجزئة الخطة إلى مراحل متتالية، تبدأ بوقف إطلاق النار، ثم ترتيبات إنسانية، فإدارة انتقالية، وصولاً إلى «بحث سياسي مؤجل»، أي إلى تذويب فكرة الدولة الفلسطينية في متاهة لا نهاية لها. لكن تحويل هذه «الإمكانية» إلى «التزام» دولي قابل للتحقيق، كما يقول سليمان، ممكن بشرط واحد: أن تكون أداة التفاوض فلسطينية موحدة، تستند إلى وثيقة إعلان بكين، وإلى صيغة 2014 التي أقرت مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
حين طُرحت خطة ترامب قبل سنوات، رُفضت فلسطينياً وعربياً بوصفها منحازة بالكامل لإسرائيل. غير أن مرور الزمن وتغير الموازين جعل بعض عناصرها تُستعاد اليوم في مبادرات دولية جديدة، بصيغ معدّلة أو مموّهة، لكنها تحتفظ بجوهرها: ربط الوضع الميداني في غزة بمستقبل الحلّ السياسي.
وهنا يبرز البعد الأهم في نداء فهد سليمان. فهو لا يدعو إلى قبول الخطة كما هي، بل إلى امتلاك زمام المبادرة الفلسطينية في إدارتها. بكلمات أخرى، إنه يقول إن الخطر لا يأتي فقط من النص الأميركي أو الإسرائيلي، بل من الفراغ الفلسطيني الذي يتيح للآخرين التحكم بالمسار.
فإذا ما وُجد وفد فلسطيني موحد، يمتلك شرعية وطنية ودولية، يمكن عندها تحويل ما يُطرح كـ«إمكانية سياسية» إلى التزام دولي بجدول زمني لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة.
منذ عام 2007، حين انقسم الوطن الفلسطيني بين سلطتين، عاشت القضية الوطنية أسوأ مراحلها. الانقسام لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل تحوّل إلى نظامين متوازيين، وشرعيتين متنازعتين، وواجهتين تتنافسان على التمثيل. لقد أضعف ذلك الموقف الفلسطيني أمام العالم، وأعطى إسرائيل ذريعة مثالية لتقول: «مع من نتحدث؟ ومن يمثل الفلسطينيين؟». نداء فهد سليمان يأتي ليكسر هذا الجمود، وليعيد النقاش إلى جوهره: الوحدة السياسية شرط البقاء. فلا دولة بدون وفد موحد، ولا مفاوضات ذات مصداقية بدون مرجعية واحدة. إنها معادلة بسيطة، لكنها قاسية في واقعها، لأن تحقيقها يعني تجاوز الحسابات الفصائلية الضيقة، والارتقاء إلى مستوى التحدي الوطني الشامل.
ليس صدفة أن يشدّد فهد سليمان في ندائه على العمل تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية. فهذه المنظمة، رغم ما لحق بها من ضعف وتراجع، تبقى الإطار الشرعي المعترف به دولياً، وهي وحدها القادرة على منح الوفد الفلسطيني شرعية التمثيل أمام العالم. إن العودة إلى منظمة التحرير ليست عودة رمزية، بل استعادة لمفهوم الوحدة الوطنية التي جسدتها المنظمة منذ انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي. وهنا تكمن أهمية الدعوة إلى تفعيل صيغة 2014، التي سعت إلى إعادة بناء منظمة التحرير عبر حكومة وفاق وطني، وإدماج جميع القوى والفصائل في مؤسساتها. إن تشكيل الوفد الموحد تحت هذه المظلة يعني، ببساطة، أن الفلسطينيين يستعيدون قرارهم بأيديهم، وينتقلون من حالة الانقسام إلى حالة العمل المشترك المنسق، وهو الشرط الأول لأي انتصار سياسي.
يشير النداء بوضوح إلى ضرورة تنسيق الاستراتيجية الفلسطينية مع الدول الثماني العربية والإسلامية التي ساهمت في صياغة الخطة السياسية.هذا البعد الإقليمي بالغ الأهمية، لأنه يعني أن الفلسطينيين لا يتعاملون مع الخطة كإملاء خارجي، بل كجزء من عملية تفاوضية منسقة مع حلفائهم.
فالبيئة الإقليمية اليوم تشهد تحولات عميقة، من إعادة ترتيب العلاقات إلى فتح قنوات سياسية جديدة، والفلسطينيون بحاجة إلى توظيف هذه التحولات لصالح قضيتهم لا أن يكونوا ضحيتها.
ولعلّ ما يمنح هذا النداء وزنه السياسي أنه يستند إلى رؤية واقعية لا تكتفي بالشعارات، بل تدرك ضرورة إدارة الصراع ضمن توازنات الإقليم والعالم، دون التنازل عن الثوابت الوطنية. العبارة التي تكررت في نص النداء – «تحويل الإمكانية إلى التزام» – ليست مجرد جملة بل خلاصة فلسفة سياسية كاملة. فالقضية الفلسطينية، منذ أوسلو وحتى اليوم، ظلت عالقة بين هذين المفهومين: إمكانية الدولة، دون التزام بإقامتها. العالم يعترف بحق الفلسطينيين في الدولة، لكنه لا يضمن تنفيذ هذا الحق. إن ما يقترحه فهد سليمان هو قلب هذه المعادلة: أن تتحول الدولة من وعد معلّق إلى استحقاق سياسي وقانوني. وهذا لا يتم إلا بوجود وحدة في القرار، واستراتيجية تفاوضية موحدة تستند إلى صلابة الصمود الفلسطيني وإلى «تسونامي الاعتراف الدولي» المتصاعد بدولة فلسطين.
في ختام النداء، تأتي الجملة الأشد وقعاً: «شلالات الدماء المتدفقة على أرض هذه المعركة الملحمية تستصرخكم ألّا تدعوها تذهب هدراً. هذه مسؤولية تاريخية لن ينجو من الحساب على إهدارها أحد». إنها ليست مجرد عبارة بل صرخة ضمير. فكل ما يجري في غزة والضفة، من مقاومة وصمود، سيكون بلا معنى إن لم يتحول إلى مشروع سياسي واضح المعالم. هنا يتحول النداء إلى محاكمة أخلاقية للقيادة الفلسطينية بكل أطيافها، إذ يضعها أمام مسؤولية جسيمة: إما أن تترجم دماء الشهداء إلى إنجاز سياسي، أو تبقى شاهدة على ضياع فرصة تاريخية نادرة.
إن نداء فهد سليمان لا يمكن قراءته كبيان حزبي، بل كوثيقة سياسية وطنية تفتح أفقاً جديداً للحوار الفلسطيني الداخلي. فهو يجمع بين الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت، وبين إدراك خطورة اللحظة وضرورة استثمارها. إنها دعوة إلى إعادة بناء الموقف الوطني الفلسطيني على قاعدة الوحدة والتمثيل الجماعي، لا على منطق التفرد والانقسام.
لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً في حرب الإبادة الأخيرة، وقد آن الأوان لترجمة هذه التضحيات إلى خطوة سياسية جريئة تضع القضية على مسار جديد. إن تشكيل وفد فلسطيني موحد تحت راية منظمة التحرير، وفقاً لوثيقة إعلان بكين وصيغة 2014، ليس مجرد مطلب تكتيكي، بل خيار استراتيجي لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني. وإذا كان التاريخ يُصنع في اللحظات الفاصلة، فإن تشرين الأول/أكتوبر 2025 قد يكون واحدة منها.
فإما أن يكون هذا النداء بداية لوحدة جديدة تفتح الطريق نحو الدولة، أو يُترك صداه يتلاشى في ضجيج الانقسام، لتضيع معه آخر فرصة في معركة الوجود الفلسطيني